الباب الاول: المشتق
الباب الاول: المشتق
المشتق
اختلف الأصولیون من القدیم فی المشتق: فی إنه حقیقه فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال و مجاز فیما انقضی عنه التلبس، أو إنه حقیقه فی کلیهما، بمعنی إنه موضوع للأعم منهما؟ بعد اتفاقهم علی إنه مجاز فیما یتلبس بالمبدأ فی المستقبل. - ذهب المعتزله و جماعه من المتأخرین من أصحابنا إلی الأول. - و ذهب الأشاعره و جماعه من المتقدمین من أصحابنا إلی الثانی. و الحق هو القول الأول. و للعلماء أقوال أخر فیها تفصیلات بین هذین القولین لا یهمنا التعرض لها بعد اتضاح الحق فیما یأتی. و أهم شیء یعنینا فی هذه المسأله - قبل بیان الحق فیها و هو أصعب ما فیها - إن نفهم محل النزاع و موضع النفی و الإثبات. و لأجل إن یتضح فی الجمله موضع الخلاف نذکر مثالا له فنقول: إنه ورد کراهه الوضوء و الغسل بالماء المسخن بالشمس، فمن قال بالأول لا بد ألا یقول بکراهتهما بالماء الذی برد و انقضی عنه التلبس، لأنه عنده لا یصدق علیه حینئذ إنه مسخن بالشمس، بل کان مسخنا. و من قال بالثانی لا بد إن یقول بکراهتهما بالماء حال انقضاء التلبس أیضا، لأنه عنده یصدق علیه إنه مسخن حقیقه بلا مجاز. و لتوضیح ذلک نذکر الآن أربعه أمور مذلله لتلک الصعوبه، ثم نذکر القول المختار و دلیله: 1 - ما المراد من المشتق المبحوث عنه؟
اعلم إن (المشتق) باصطلاح النحاه ما یقابل الجأمد و مرادهم واضح.
ص 48
ولکن لیس هو موضع النزاع هنا بل بین المشتق بمصطلح النحویین و بین المشتق المبحوث عنه عموم و خصوص من وجه. لأن موضع النزاع هنا یشمل کل ما یحمل علی الذات باعتبار قیأم صفه فیها خارجه عنها تزول عنها و إن کان باصطلاح النحاه معدودا من الجوأمد، کلفظ الزوج و الأخ و الرق و نحو ذلک. و من جهه أخری لا یشمل الفعل بأقسأمه و لا المصدر و إن کانت تسمی مشتقات عند النحویین. و السر فی ذلک إن موضع النزاع هنا یعتبر فیه شیئان:
1 - إن یکون جاریا علی الذات، بمعنی إنه یکون حاکیا عنها و عنوانا لها، نحو اسم الفاعل و اسم المفعول و أسماء المکان و الآله و غیرهما و ما شابه هذه الأمور من الجوأمد. و من أجل هذا الشرط لا یشمل هذا النزاع الأفعال و لا المصادر، لأنها کلها ل تحکی عن الذات و لا تکون عنوانا لها و إن کانت تسند إلیها.
2 - ألا تزول الذات بزوال تلبسها بالصفه - و نعنی بالصفه المبدأ الذی منه یکون النزاع المشتق و اشتقاقه و یصح صدقه علی الذات - بمعنی إن تکون الذات باقیه محفوظه لو زال تلبسها بالصفه، فهی تتلبس بها تاره و لا تتلبس بها أخری و الذات تلک الذات فی کلا الحالین. و إنما نشترط ذلک فلأجل إن نتعقل انقضاء التلبس بالمبدأ مع بقاء الذات حتی یصح إن نتنازع فی صدق المشتق حقیقه علیها مع انقضاء حال التلبس بعد الاتفاق علی صدقه حقیقه علیها حال التلبس. و إلا لو کانت الذات تزول بزوال التلبس لا یبقی معنی لفرض صدق المشتق علی الذات مع انقضاء حال التلبس لا حقیقه و لا مجازا. و علی هذا، لو کان المشتق من الأوصاف التی تزول الذات بزوال التلبس بمبادئها، فلا یدخل فی محل النزاع و إن صدق علیها اسم المشتق، مثلها لو کان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقیاس إلی الذات، کالناطق و الصاهل و الحساس و المتحرک بالإراده.
ص 49
واعتبر ذلک فی مثال کراهه الجلوس للتغوط تحت الشجره المثمره، فإن هذا المثال یدخل فی محل النزاع لو زالت الثمره عن الشجره، فیقال:
هل یبقی اسم المثمره صادقا حقیقه علیها حینئذ فیکره الجلوس أو لا؟ أما لو اجتثت الشجره فصارت خشبه فإنها لا تدخل فی محل النزاع، لأن الذات و هی (الشجره) قد زالت بزوال الوصف الداخل فی حقیقتها، فل یتعقل معه بقاء وصف الشجره المثمره لها، لا حقیقه و لا مجازا. و أما الخشب فهو ذات أخری لم یکن فیما مضی قد صدق علیه - بما إنه خشب - وصف الشجره المثمره حقیقه، إذ لم یکن متلبسا بما هو خشب بالشجره ثم زال عنه التلبس. * * * و بناء علی اعتبار هذین الشرطین یتضح ما ذکرناه فی صدر البحث من إن موضع النزاع فی المشتق یشمل کل ما کان جاریا علی الذات باعتبار قیأم صفه خارجه عن الذات و إن کان معدودا من الجوأمد اصطلاحا. و یتضح أیضا عدم شمول النزاع للأفعال و المصادر. کما یتضح إن النزاع یشمل کل وصف جار علی الذات و لا یفرق فیه بین إن یکون مبدأه من الأعراض الخارجیه المتأصله کالبیاض و السواد و القیأم و القعود، أو من الأمور الأنتزاعیه کالفوقیه و التحتیه و التقدم و التأخر أو من الأمور الاعتباریه المحضه کالزوجیه و الملکیه و الوقف و الحریه.
2 - جریان النزاع فی اسم الزمان
بناء علی ما تقدم قد یظن عدم جریان النزاع فی اسم الزمان، لأنه قد تقدم إنه یعتبر فی جریانه بقاء الذات مع زوال الوصف، مع إن زوال الوصف فی اسم الزمان ملازم لزوال الذات، لأن الزمان متصرم الوجود فکل جزء منه ینعدم بوجود الجزء اللاحق، فلا تبقی ذات مستمره. فإذا کان یوم الجمعه مقتل زید - مثل - فیوم السبت الذی بعده ذات أخری من الزمان لم یکن لها وصف القتل فیها و یوم الجمعه تصرم و زال کما زال نفس الوصف. و الجواب: إن هذا صحیح لو کان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص،
ص 50
ولکن الحق إن هیئه اسم الزمان موضوعه لما هو یعم اسم الزمان و المکان و یشملهما معا، فمعنی (المضرب) مثلا: الذات المتصفه بکونها ظرفا للضرب و الظرف أعم من إن یکون زمانا أو مکانا و یتعین أحدهما بالقرینه. و الهیئه إذا کانت موضوعه للجأمع بین الظرفین، فهذا الجأمع یکفی فی صحه الوضع له و تعمیمه لما تلبس بالمبدأ و ما انقضی عنه إن یکون أحد فردیه یمکن إن یتصور فیه انقضاء المبدأ و بقاء الذات. و الخلاصه: إن النزاع حینئذ یکون فی وضع أصل الهیئه التی تصلح للزمان و المکان لا لخصوص اسم الزمان. و یکفی فی صحه الوضع للأعم أمکان الفرد المنقضی عنه المبدأ فی أحد أقسأمه و إن أمتنع الفرد الآخر.
3 - اختلاف المشتقات من جهه المبادئ
وقد یتوهم بعضهم إن النزاع هنا لا یجری فی بعض المشتقات الجاریه علی الذات، مثل النجار و الخیاط و الطبیب و القاضی و نحو ذلک مما کان للحرف و المهن، بل فی هذه من المتفق علیه إنه موضوع للأعم. و منشأ الوهم إنا نجد صدق هذه المشتقات حقیقه علی من انقضی عنه التلبس بالمبدأ - من غیر شک - و ذلک نحو صدقها علی من کان نائما - مثلا - مع إن النائم غیر متلبس بالنجاره فعلا أو الخیاطه أو الطبابه أو القضاء و لکنه کان متلبسا بها فی زمان مضی. و کذلک الحال فی أسماء الآله کالمنشار و المقود و المکنسه فإنها تصدق علی ذواته حقیقه مع عدم التلبس بمبادئها. و الجواب عن ذلک: إن هذا التوهم منشأه الغفله عن معنی المبدأ المصحح لصدق المشتق فإنه یختلف باختلاف المشتقات، لأنه تاره یکون من الفعلیات و أخری من الملکات و ثالثه من الحرف و الصناعات. (مثلا): اتصاف زید بأنه قائم إنما یتحقق إذا تلبس بالقیأم فعلا، لأن القیأم یؤخذ علی نحو الفعلیه مبدأ لوصف (قائم) و یفرض الانقضاء بزوال فعلیه القیأم عنه. و أما اتصافه بأنه عالم بالنحو أو إنه قاضی البلد، فلیس بمعنی إنه یعلم ذلک فعلا أو إنه مشغول بالقضاء بین الناس فعلا، بل بمعنی إن له ملکه العلم أو منصب القضاء، فما دامت الملکه أو الوظیفه موجودتین فهو متلبس بالمبدأ حالا و إن کان نائما أو
ص 51
غافلا. نعم یصح إن نتعقل الانقضاء إذا زالت الملکه أو سلبت عنه الوظیفه و حینئذ یجری النزاع فی إن وصف القاضی - مثلا - هل یصدق حقیقه علی من زال عنه منصب القضاء و کذلک الحال فی مثل النجار و الخیاط و المنشار فلا یتصور فیها الانقضاء الا بزوال حرفه النجاره و مهنه الخیاطه و شأنیه النشر فی المنشار. و الخلاصه: إن الزوال و الانقضاء فی کل شیء بحسبه و النزاع فی المشتق إنما هو فی وضع الهیئات مع قطع النظر عن خصوصیات المبادئ المدلول علیها بالمواد التی تختلف اختلافا کثیرا.
4 - استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقه
اعلم إن المشتقات التی هی محل النزاع بأجمعها هی من الأسماء. و الأسماء مطلقا لا دلاله لها علی الزمان حتی اسم الفاعل و اسم المفعول فإنه کما یصدق العالم حقیقه علی من هو عالم فعلا کذلک یصدق حقیقه علی من کان عالما فیم مضی أو یکون عالما فیما یأتی بلا تجوز إذا کان إطلاقه علیه بلحاظ حال التلبس بالمبدأ، کما إذا قلنا: کان عالما أو سیکون عالما، فإن ذلک حقیقه بلا ریب، نظیر الجوأمد لو تقول فیها مثلا: الرماد کان خشبا أو الخشب سیکون رمادا. فأذن إذا کان الأمر کذلک فما موقع النزاع فی إطلاق المشتق علی ما مضی علیه التلبس إنه حقیقه أو مجاز؟
نقول: إن الإشکال و النزاع هنا إنما هو فیما إذا انقضی التلبس بالمبدأ و أرید إطلاق المشتق فعلا علی الذات التی انقضی عنها التلبس، أی إن الإطلاق علیها بلحاظ حال النسبه و الإسناد الذی هو حال النطق غالبا، کان تقول مثلا: (زید عالم فعلا) أی إنه الآن موصوف بأنه عالم، لأنه کان فیما مضی عالما، کمثال إثبات الکراهه للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعمیم لفظ المسخن فی الدلیل لما کان مسخن.
ص 52
فتحصل مما ذکرناه ثلاثه أمور:
1 - إن إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقه مطلقا، سواء کان بالنظر إلی ما مضی أو الحال أو المستقبل. و ذلک بالاتفاق.
2 - إن إطلاقه علی الذات فعلا بلحاظ حال النسبه و الإسناد قبل زمان التلبس لأنه سیتلبس به فیم بعد، مجاز بلا إشکال و ذلک بعلاقه الأول أو المشارفه. و هذا متفق علیه أیضا.
3 - إن إطلاقه علی الذات فعلا - أی بلحاظ حال النسبه و الإسناد - لأنه کان متصفا به سابقا، هو محل الخلاف و النزاع فقال قوم بأنه حقیقه و قال آخرون بأنه مجاز.
المختار:
إذ عرفت ما تقدم من الأمور، فنقول: الحق إن المشتق حقیقه فی خصوص المتلبس بالمبدأ و مجاز فی غیره. و (دلیلنا) التبادر و صحه السلب عمن زال عنه الوصف، فلا یقال لمن هو قاعد بالفعل: إنه قائم. و لا لمن هو جاهل بالفعل: إنه عالم. و ذلک لمجرد إنه کان قائما أو عالما فیما سبق. نعم یصح ذلک علی نحو المجاز، أو یقال:
إنه کان قائما أو عالما، فیکون حقیقه حینئذ، إذ یکون الإطلاق بلحاظ حال التلبس. و عدم تفرقه بعضهم بین الإطلاق بلحاظ حال التلبس و بین الإطلاق بلحاظ حال النسبه و الإسناد هو الذی أوهم القول بوضع المشتق للأعم، إذ وجد إن الاستعمال یکون علی نحو الحقیقه فعلا مع إن التلبس قد مضی، ولکنه غفل عن إن الإطلاق کان بلحاظ حال التلبس، فلم یستعمله - فی الحقیقه - الا فی خصوص المتلبس بالمبدأ، لا فیما مضی عنه التلبس حتی یکون شاهدا له. ثم إنک عرفت - فیما سبق - إن زوال الوصف یختلف باختلاف
ص 53
المواد من جهه کون المبدأ أخذ علی نحو الفعلیه، أو علی نحو الملکه أو الحرفه. فمثل صدق الطبیب حقیقه علی من لا یشتغل بالطبابه فعلا لنوم أو راحه أو أکل لا یکشف عن کون المشتق حقیقه فی الأعم - کما قیل - و ذلک لأن المبدأ فیه أخذ علی نحو الحرفه أو الملکه و هذا لم یزل تلبسه به حین النوم أو الراحه. نعم إذا زالت الملکه أو الحرفه عنه کان إطلاق الطبیب علیه مجازا، إذا لم یکن بلحاظ حال التلبس کما قیل: هذا طبیبن بالأمس، بأن یکون قید (بالأمس) لبیان حال التلبس. فإن هذا الاستعمال لا شک فی کونه علی نحو الحقیقه. و قد سبق بیان ذلک.
ص 55
الباب الرابع: المفاهیم
تمهید
الباب الرابع: المفاهیم
فی معنی کلمه (المفهوم) و فی النزاع فی حجیته و فی أقسأمه. فهذه ثلاثه مباحث:
1 - معنی کلمه المفهوم
تطلق کلمه المفهوم علی ثلاثه معان:
1 - المعنی المدلول للفظ الذی یفهم منه، فیساوی کلمه المدلول، سواء کان مدلولا لمفرد أو جمله و سواء کان مدلولا حقیقیا أو مجازیا.
2 - ما یقابل المصداق، فیراد منه کل معنی یفهم و إن لم یکن مدلولا للفظ، فیعم المعنی الأول و غیره.
3 - ما یقابل المنطوق و هو أخص من الأولین: و هذا هو المقصود بالبحث هنا. و هو اصطلاح أصولی یختص بالمدلولات الإلتزامیه للجمل الترکیبیه سواء کانت إنشائیه أو إخباریه، فلا یقال لمدلول المفرد مفهوم و إن کان من المدلولات الإلتزامیه. أما المنطوق فمقصودهم منه ما یدل علیه اللفظ فی حد ذاته علی وجه یکون اللفظ المنطوق حأملا لذلک المعنی و قالبا له، فیسمی المعنی (منطوقا) تسمیه للمدلول باسم الدال. و لذلک یختص المنطوق بالمدلول المطابقی فقط و إن کان المعنی مجازا قد استعمل فیه اللفظ بقرینه. و علیه، فالمفهوم الذی یقابله ما لم یکن اللفظ حأملا له دالا علیه بالمطابقه
ص 102
ولکن یدل علیه باعتباره لازما لمفاد الجمله بنحو اللزوم البین بالمعنی الأخص (1) و لأجل هذا یختص المفهوم بالمدلول الإلتزأمی مثاله: قولهم (إذا بلغ الماء کرا ل ینجسه شیء). فالمنطوق فیه هو مضمون الجمله و هو عدم تنجس الماء البالغ کرا بشیء من النجاسات. و المفهوم - علی تقدیر إن یکون لمثل هذه الجمله مفهوم - إنه إذا لم یبلغ کرا یتنجس. و علی هذا یمکن تعریفهما بما یلی: المنطوق: (هو حکم دل علیه اللفظ فی محل النطق). و المفهوم: (هو حکم دل علیه اللفظ لا فی محل النطق). و المراد من الحکم: الحکم بالمعنی الأعم، لا خصوص أحد الأحکام الخمسه. و عرفوهما أیضا بأنهما حکم مذکور و حکم غیر مذکور و أنهما حکم لمذکور و حکم لغیر مذکور و کلها لا تخلو عن مناقشات طویله الذیل. و الذی یهون الخطب إنها تعریفات لفظیه لا یقصد منها الدقه فی التعریف و المقصود منها واضح کما شرحناه.
2 - النزاع فی حجیه المفهوم
لاشک إن الکلام إذا کان له مفهوم یدل علیه فهو ظاهر فیه، فیکون حجه من المتکلم علی السأمع و من السأمع علی المتکلم، کسائر الظواهر الأخری. أذن، ما معنی النزاع فی حجیه المفهوم حینما یقولون مثلا: هل مفهوم الشرط حجه أولا؟ و علی تقدیره، فلا یدخل هذا النزاع فی مباحث الألفاظ التی کان الغرض
(هامش)
(1) راجع کتاب المنطق للمؤلف، الجزء الأول ص 79 عن معنی البین و أقسأمه.
ص 103
منها تشخیص الظهور فی الکلام و تنقیح صغریات حجیه الظهور، بل ینبغی إن یدخل فی مباحث الحجه کالبحث عن حجیه الظهور و حجیه الکتاب و نحو ذلک. و الجواب: إن النزاع هنا فی الحقیقه إنما هو فی وجود الدلاله علی المفهوم، أی فی أصل ظهور الجمله فیه و عدم ظهورها. و بعباره أوضح، النزاع هنا فی حصول المفهوم للجمله لا فی حجیته بعد فرض حصوله. فمعنی النزاع فی مفهوم الشرط - مثلا - إن الجمله الشرطیه مع قطع النظر عن القرائن الخاصه هل تدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط؟ و هل هی ظاهره فی ذلک؟ ل إنه بعد دلالتها علی هذا المفهوم و ظهورها فیه یتنازع فی حجیته، فإن هذا لا معنی له و إن أوهم ذلک ظاهر بعض تعبیراتهم، کما یقولون مثلا: مفهوم الشرط حجه أم لا. و لکن غرضهم ما ذکرنا. کما إنه لا نزاع فی دلاله بعض الجمل علی مفهوم لها إذا کانت له قرینه خاصه علی ذلک المفهوم، فإن هذا لیس موضع کلأمهم. بل موضوع الکلام و محل النزاع فی دلاله نوع تلک الجمله کنوع الجمله الشرطیه علی المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصه.
3 - أقسأم المفهوم
ینقسم المفهوم إلی مفهوم الموافقه و مفهوم المخالفه:
1 - (مفهوم الموافقه): ما کان الحکم فی المفهوم موافقا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق، فإن کان الحکم فی المنطوق الوجوب - مثلا - کان فی المفهوم الوجوب أیضا و هکذا. کدلاله الأولویه فی مثل قوله تعالی: (ولا تقل لهما أف) علی النهی عن الضرب و الشتم للأبوین و نحو ذلک مما هو أشد إهانه و إیلأما من التأفیف المحرم بحکم الآیه.
ص 104
وقد یسمی هذا المفهوم (فحوی الخطاب). و لا نزاع فی حجیه مفهوم الموافقه، بمعنی دلاله الأولویه علی تعدی الحکم إلی ما هو أولی فی عله الحکم و له تفصیل کلأم یأتی فی موضعه.
2 - (مفهوم المخالفه): ما کان الحکم فیه مخالفا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق و له موارد کثیره وقع الکلام فیها نذکرها بالتفصیل و هی سته:
1 - مفهوم الشرط.
2 - مفهوم الوصف
3 - مفهوم الغایه.
4 - مفهوم الحصر.
5 - مفهوم العدد.
6 - مفهوم اللقب.
الأول - مفهوم الشرط
الأول - مفهوم الشرط
تحریر محل النزاع:
لاشک فی إن الجمله الشرطیه یدل منطوقها - بالوضع - علی تعلیق التالی فیها علی المقدم الواقع موقع الفرض و التقدیر. و هی علی نحوین:
1 - إن تکون مسوقه لبیان موضوع الحکم، أی إن المقدم هو نفس موضوع الحکم، حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط فی المقدم علی وجه لا یعقل فرض الحکم بدونه، نحو قولهم: (إن رزقت ولدا فاختنه)، فإنه فی المثال لا یعقل فرض ختان الولد الا بعد فرض وجوده. و منه قوله تعالی: (ولا تکرهوا فتیاتکم علی البغاء إن أردن تحصنا) فإنه لا یعقل فرض الإکراه
ص 105
علی البغاء الا بعد فرض إراده التحصن من قبل الفتیات. و قد اتفق الأصولیون علی إنه لا مفهوم لهذا النحو من الجمله الشرطیه، لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحکم، فلا معنی للحکم بانتفاء التالی علی تقدیر انتفاء المقدم إلا علی نحو السالبه بانتفاء الموضوع. و لا حکم حینئذ بالانتفاء، بل هو انتفاء الحکم. فلا مفهوم للشرطیه فی المثالین، فلا یقال:
(إن لم ترزق ولدا فلا تختنه) و لا یقال:) (إن لم یردن تحصن فأکرهوهن علی البغاء).
2 - ألا تکون مسوقه لبیان الموضوع، حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط علی وجه یمکن فرض الحکم بدونه، نحو قولهم: (إن أحسن صدیقک فأحسن إلیه)، فإن فرض الإحسان إلی الصدیق لا یتوقف عقلا علی فرض صدور الإحسان منه، فإنه یمکن الإحسان إلیه أحسن أو لم یحسن. و هذا النحو الثانی من الشرطیه هو محل النزاع فی مسألتنا و مرجعه إلی النزاع فی دلاله الشرطیه علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط، بمعنی إنه هل یستکشف من طبع التعلیق علی الشرط انتفاء نوع الحکم المعلق - کالوجوب مثلا - علی تقدیر انتفاء الشرط. و إنما قلنا (نوع الحکم)، لأن شخص کل حکم فی القضیه الشرطیه أو غیرها ینتفی بانتفاء موضوعه أو أحد قیود الموضوع، سواء کان للقضیه مفهوم أو لم یکن. و فی مفهوم الشرطیه قولان أقواهما إنها تدل علی الانتفاء عند الانتفاء.
المناط فی مفهوم الشرط:
إن دلاله الجمله الشرطیه علی المفهوم تتوقف علی دلالته - بالوضع أو بالإطلاق - علی أمور ثلاثه مترتبه:
1 - دلالتها علی الارتباط و الملازمه بین المقدم و التالی.
2 - دلالتها - زیاده علی الارتباط و الملازمه - علی إن التالی معلق علی المقدم
ص 106
ومترتب علیه و تابع له، فیکون المقدم سببا للتالی. و المقصود من السبب هنا هو کل م یترتب علیه الشیء و إن کان شرطا و نحوه، فیکون أعم من السبب المصطلح فی فن المعقول.
3 - دلالتها - زیاده علی ما تقدم - علی انحصار السببیه فی المقدم، بمعنی إنه لا سبب بدیل له یترتب علیه التالی. و توقف المفهوم للجمله الشرطیه علی هذه الأمور الثلاثه واضح، لأنه لو کانت الجمله اتفاقیه، أو کان التالی غیر مترتب علی المقدم، أو کان مترتبا و لکن لا علی نحو الانحصار فیه - فإنه فی جمیع ذلک لا یلزم من انتفاء المقدم انتفاء التالی. و إنما الذی ینبغی إثباته هنا، هو إن الجمله ظاهره فی هذه الأمور الثلاثه وضعا أو إطلاقا لتکون حجه فی المفهوم. و الحق ظهور الجمله الشرطیه فی هذه الأمور وضعا فی بعضها و إطلاقا فی البعض الآخر.
1 - أما دلالتها علی الارتباط و وجود العلقه اللزومیه بین الطرفین، فالظاهر إنه بالوضع بحکم التبادر. و لکن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتی ینکر وضعها لذلک، بل بوضع الهیئه الترکیبیه للجمله الشرطیه بمجموعها. و علیه فاستعمالها فی الاتفاقیه یکون بالعنایه و ادعاء التلازم و الارتباط بین المقدم و التالی إذا اتفقت لهما المقارنه فی الوجود.
2 - و أما دلالتها علی إن التالی مترتب علی المقدم بأی نحو من إنحاء الترتب فهو بالوضع أیضا و لکن لا بمعنی إنها موضوعه بوضعین: وضع للتلازم و وضع آخر للترتب، بل بمعنی إنها موضوعه بوضع واحد للارتباط الخاص و هو ترتب التالی علی المقدم. و الدلیل علی ذلک هو تبادر ترتب التالی علی المقدم عنها، فإنها تدل علی إن المقدم وضع فیها موضع الفرض و التقدیر و علی تقدیر حصوله فالتالی حاصل عنده تبعا أی یتلوه فی الحصول. أو فقل إن المتبادر منه لا بدیه الجزاء
ص 107
عند فرض حصول الشرط. و هذا لا یمکن إن ینکره الا مکابر أو غافل فإن هذا هو معنی التعلیق الذی هو مفاد الجمله الشرطیه التی لا مفاد لها غیره. و من هنا سموا الجزء الأول منها شرطا و مقدما و سموا الجزء الثانی جزاءا و تالیا. فإذا کانت جمله إنشائیه أی إن التالی متضمن لإنشاء حکم تکلیفی أو وضعی، فإنها تدل علی تعلیق الحکم علی الشرط، فتدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط المعلق علیه الحکم. و إذا کانت جمله خبریه أی إن التالی متضمن لحکایه خبر، فإنها تدل علی تعلیق حکایته علی المقدم، سواء کان المحکی عنه خارجا و فی الواقع مترتبا علی المقدم فتتطابق الحکایه مع المحکی عنه کقولنا إن کانت الشمس طالعه فالنهار موجود، أو مترتب علیه بأن کان العکس کقولنا: إن کان النهار موجودا فالشمس طالعه، أو کان لا ترتب بینهما کالمتضاعفین فی مثل قولن: إن کان خالد ابنا لزید فزید أبوه.
3 - و أما دلالتها علی إن الشرط منحصر، فبالإطلاق، لأنه لو کان هناک شرط آخر للجزاء بدیل لذلک الشرط و کذا لو کان معه شیء آخر یکونان معا شرطا للحکم - لاحتاج ذلک إلی بیان زائد أما بالعطف بأو فی الصوره الأولی، أو العطف بالواو فی الصوره الثانیه، لأن الترتب علی الشرط ظاهر فی إنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق علیه الجزاء فإذا أطلق تعلیق الجزاء علی الشرط فإنه یستکشف منه إن الشرط مستقل لا قید آخر معه و إنه منحصر لا بدیل و لا عدل له و إلا لوجب علی الحکیم بیانه و هو - حسب الفرض - فی مقام البیان. و هذا نظیر ظهور صیغه أفعل بإطلاقه فی الوجوب التعینی و التعیینی. * * * و إلی هنا تم لنا ما أردنا إن نذهب إلیه من ظهور الجمله الشرطیه فی الأمور التی بها تکون ظاهره فی المفهوم.
ص 108
وعلی کل حال، إن ظهور الجمله الشرطیه فی المفهوم ممالا ینبغی إن یتطرق إلیه الشک الا مع قرینه صارفه أو تکون وارده لبیان الموضوع. و یشهد لذلک استدلال أمأمنا الصادق علیه السلأم بالمفهوم فی روایه أبی بصیر قال:
(سألت أبا عبد الله عن الشاه تذبح فل تتحرک و یهراق منها دم کثیر عبیط، فقال:
لا تأکل! إن علیا کان یقول:
إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل)، فإن استدلال الأمأم بقول علی علیه السلأم لا یکون إلا إذا کان له مفهوم و هو: إذا لم ترکض الرجل أو لم تطرف العین فلا تأکل.
إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء:
ومن لواحق مبحث (مفهوم الشرط) مسأله ما إذا وردت جملتان شرطیتان أو أکثر و قد تعدد الشرط فیهما و کان الجزاء واحدا. و هذا یقع علی نحوین:
1 إن یکون الجزاء غیر قابل للتکرار، نحو التقصیر فی السفر فیما ورد: (إذا خفی الأذان فقصر. و إذا خفیت الجدران فقصر).
2 - إن یکون الجزاء قابلا للتکرار کما فی نحو (إذا أجنبت فاغتسل. إذا مسست میتا فاغتسل). أما (النحو الأول)، فیقع فیه التعارض بین الدلیلین بناء علی مفهوم الشرط و لکن التعارض إنما هو بین مفهوم کل منهما مع منطوق الآخر، کما هو واضح. فلا بد من التصرف فیهما بأحد وجهین: (الوجه الأول) - إن نقید کلا من الشرطین من ناحیه ظهورهما فی الاستقلال بالسببیه، ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق - کما سبق - الذی یقابله التقیید بالعطف بالواو، فیکون الشرط فی الحقیقه هو المرکب من الشرطین و کل منهما یکون جزء السبب و الجملتان تکونان حینئذ کجمله واحده مقدمها المرکب من الشرطین، بأن یکون مؤداهما هکذا: (إذا خفی الأذان و الجدران معا فقصر). و ربما یکون لهاتین الجملتین معا حینئذ مفهوم واحد و هو انتفاء الجزاء
ص 109
عند انتفاء الشرطین معا أو أحدهما، کما لو کانا جمله واحده. (الوجه الثانی) - إن نقیدهما من ناحیه ظهورهما فی الانحصار، ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقیید بأو. و حینئذ یکون الشرط أحدهما علی البدلیه، أو الجأمع بینهما علی إن یکون منهما مصداقا له و ذلک حینما یمکن فرض الجأمع بینهما و لو کان عرفیا. و إذ یدور الأمر بین الوجهین فی التصرف، فأیهما أولی؟ هل الأولی تقیید ظهور الشرطیتین فی الاستقلال أو تقیید ظهورهما فی الانحصار؟ قولان فی المسأله. و الأوجه - علی الظاهر - هو التصرف الثانی، لأن منشأ التعارض بینهما هو ظهورهما فی الانحصار الذی یلزم منه الظهور فی المفهوم، فیتعارض منطوق کل منهما مع مفهوم الآخر کما تقدم، فلا بد من رفع الید عن ظهور کل منهما فی الانحصار بالإضافه إلی المقدار الذی دل علیه منطوق الشرطیه الأخری، لأن ظهور المنطوق أقوی، أما ظهور کل من الشرطیتین فی الاستقلال فلا معارض له حتی ترفع الید عنه. و إذا ترجح القول الثانی و هو التصرف فی ظهور الشرطین فی الانحصار. یکون کل من الشرطین مستقلا فی التأثیر، فإذا أنفرد أحدهما کان له التأثیر فی ثبوت الحکم. و إن حصلا معا، فإن کان حصولهما بالتعاقب کان التأثیر للسابق. و إن تقارنا کان الأثر لهما معا و یکونان کالسبب الواحد، لامتناع تکرار الجزاء حسب الفرض. * * * و أما (النحو الثانی) - و هو ما إذا کان الجزاء قابلا للتکرار - فهو علی صورتین:
1 - إن یثبت بالدلیل إن کلا من الشرطین جزء السبب. و لا کلأم حینئذ فی إن الجزاء واحد یحصل عند حصول الشرطین معا.
2 - إن یثبت من دلیل مستقل أو من ظاهر دلیل الشرط إن کلا من
ص 110
الشرطین سبب مستقل، سواء کان للقضیه الشرطیه مفهوم أم لم یکن - فقد وقع الخلاف فیم إذا اتفق وقوع الشرطین معا فی وقت واحد أو متعاقبین: إن القاعده أی شیء تقتضی؟ هل تقتضی تداخل الأسباب فیکون لها جزاء واحد کما فی مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط و النوم و نحوهما، أم تقتضی عدم التداخل فیتکرر الجزاء بتکرار الشروط، کما فی مثال تعدد وجوب الصلاه بتعدد أسبابه من دخول وقت الیومیه و حصول الآیات؟ أقول: لاشبهه فی إنه إذا ورد دلیل خاص علی التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلک الدلیل. و أما مع عدم ورود الدلیل الخاص فهو محل الخلاف. و الحق إن القاعده فیه عدم التداخل. بیان ذلک: إن لکل شرطیه ظهورین:
1 ظهور الشرط فیها فی الاستقلال بالسببیه. و هذا الظهور یقتضی إن یتعدد الجزء فی الشرطیتین موضوعتی البحث، فلا تتداخل الأسباب.
2 - ظهور الجزاء فیها فی إن متعلق الحکم فیه صرف الوجود. و لما کان صرف الشیء ل یمکن إن یکون محکوما بحکمین، فیقتضی ذلک إن یکون لجمیع الأسباب جزاء واحد و حکم واحد عند فرض اجتماعها. فتتداخل الأسباب. و علی هذا، فیقع التنافی بین هذین الظهورین، فإذا قدمنا الظهور الأول لا بد إن نقول بعدم التداخل. و إذا قدمنا الظهور الثانی لابد إن نقول بالتداخل، فأیهما أولی بالتقدیم؟ و الأرجح إن الأولی بالتقدیم ظهور الشرط علی ظهور الجزاء، لأن الجزاء لما کان معلقا علی الشرط فهو تابع له ثبوتا و إثباتا، فإن کان واحدا کان الجزاء واحدا و إن کان متعددا کان متعددا. و إذا کان المقدم متعددا - حسب فرض ظهور الشرطیتین - کان الجزاء تبعا له. و علیه لا
ص 111
یستقیم للجزاء ظهور فی وحده المطلوب. فیخرج المقام عن باب التعارض بین الظهورین، بل یکون الظهور فی التعداد رافعا للظهور فی الوحده، لأن الظهور فی الوحده لا یکون ال بعد فرض سقوط الظهور فی التعداد أو بعد فرض عدمه، أما مع وجوده فلا ینعقد الظهور فی الوحده. فالقاعده فی المقام - أذن - (عدم التداخل). و هو مذهب أساطین العلماء الأعلام قدس الله أسرارهم.
تنبیهان
1 - تداخل المسبیات:
إن البحث فی المسأله السابقه إنما هو عما إذا تعددت الأسباب، فیتسأل فیها عما إذا کان تعددها یقتضی المغایره فی الجزاء و تعدد المسببات - بالفتح - أو لا یقتضی فتتداخل الأسباب و ینبغی إن تسمی (بمسأله تداخل الأسباب). و بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناک، ینبغی إن یبحث إن تعدد المسببات إذا کانت تشترک فی الاسم و الحقیقه کالأغسال هل یصح إن یکتفی عنها بوجود واحد لها أو لا یکتفی؟ . و هذه مسأله أخری غیر ما تقدم تسمی (بمسأله تداخل المسببات) و هی من ملحقات الأولی. و القاعده فیها أیضا: عدم التداخل. و السر فی ذلک: إن سقوط الواجبات المتعدده بفعل واحد و إن أتی به بنیه امتثال الجمیع یحتاج إلی دلیل خاص، کما ورد فی الأغسال بالاکتفاء بغسل الجنابه عن باقی الأغسال و ورد أیضا جواز الاکتفاء بغسل واحد عن أغسال متعدده. و مع عدم ورود الدلیل الخاص فإن کل وجوب یقتضی امتثالا خاصا به لا یغنی عنه امتثال الآخر و إن اشترکت الواجبات فی الاسم و الحقیقه. نعم قد یستثنی من ذلک ما إذا کان بین الواجبین نسبه العموم و الخصوص
ص 112
من وجه و کان دلیل کل منهما مطلقا بالإضافه إلی مورد الاجتماع، کما إذا قال - مثل - تصدق علی مسکین و قال - ثانیا - تصدق علی ابن سبیل، فجمع العنوانین شخص واحد بأن کان فقیرا و ابن سبیل فإن التصدق علیه یکون مسقطا للتکلیفین.
2 - الأصل العملی فی المسألتین:
إن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل الأسباب هو التداخل، لأن تأثیر السببین فی تکلیف واحد متیقن و إنما الشک فی تکلیف ثان زائد. و الأصل فی مثله البراءه. و بعکسه فی مسأله تداخل المسببات، فإن الأصل یقتضی فیه عدم التداخل کما مرت الإشاره إلیه، لأنه بعد ثبوت التکالیف المتعدده بتعدد الأسباب یشک فی سقوط التکالیف الثابته لو فعل فعلا واحدا. و مقتضی القاعده - فی مثله - الاشتغال، بمعنی إن الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، فلا یکتفی بفعل واحد فی مقام الامتثال.
الثانی - مفهوم الوصف
الثانی - مفهوم الوصف
موضوع البحث:
المقصود بالوصف هنا: ما یعم النعت و غیره، فیشمل الحال و التمییز و نحوهما مما یصلح إن یکون قیدا لموضوع التکلیف. کما إنه یختص بم إذا کان معتمدا علی موصوف، فلا یشمل ما إذا کان الوصف نفسه موضوعا للحکم نحو (والسارق و السارقه فاقطعوا أیدیهما) فإن مثل هذا یدخل فی باب مفهوم اللقب. و السر فی ذلک إن الدلاله علی انتفاء الوصف لا بد فیها من فرض موضوع ثابت للحکم یقید بالوصف مره و یتجرد عنه أخری، حتی یمکن فرض نفی الحکم عنه. و یعتبر - أیضا - فی المبحوث عنه هنا إن یکون أخص من الموصوف مطلق
ص 113
أو من وجه، لأنه لو کان مساویا أو أعم مطلقا لا یوجب تضییقا و تقییدا فی الموصوف، حتی یصح فرض انتفاء الحکم عن الموصوف عند انتفاء الوصف. و أما دخول الأخص من وجه فی محل البحث فإنما هو بالقیاس إلی مورد افتراق الموصوف عن الوصف، ففی مثال (فی الغنم السائمه زکاه) یکون مفهومه - لو کان له مفهوم - عدم وجوب الزکاه فی الغنم غیر السائمه و هی المعلوفه. و أما بالقیاس إلی مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا دلاله له علی المفهوم قطعا، فلا یدل المثال علی عدم الزکاه فی غیر الغنم السائمه أو غیر السائمه کالإبل - مثلا - لأن الموضوع - و هو الموصوف الذی هو الغنم فی المثال - یجب إن یکون محفوظا فی المفهوم و لا یکون متعرضا لموضوع آخر لا نفیا و لا إثباتا. فما عن بعض الشافعیه من القول بدلاله القضیه المذکوره علی عدم الزکاه فی الإبل المعلوفه ل وجه له قطعا.
الأقوال فی المسأله و الحق فیها:
لاشک فی دلاله التقیید بالوصف علی المفهوم عند وجود القرینه الخاصه و لا شک فی عدم الدلاله عند وجود القرینه علی ذلک، مثلما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذی یفهم منه عدم إناطه الحکم به وجودا و عدما، نحو قوله تعالی: (وربائبکم اللائی فی حجورکم) فإنه لا مفهوم لمثل هذه القضیه مطلقا، إذ یفهم منه إن وصف الربائب بأنها فی حجورکم لأنها غالبا تکون کذلک و الغرض منه الإشعار بعله الحکم، إذ إن اللائی تربی فی الحجور تکون کالبنات. و إنما الخلاف عند تجرد القضیه عن القرائن الخاصه، فإنهم اختلفوا فی إن مجرد التقیید بالوصف هل یدل علی المفهوم أی انتفاء حکم الموصوف عند انتفاء الوصف أو لا یدل؟ نظیر الاختلاف المتقدم فی التقیید بالشرط و فی المسأله قولان و المشهور القول الثانی و هو عدم المفهوم. و السر فی الخلاف یرجع إلی إن التقیید المستفاد من الوصف هل هو تقیید
ص 114
لنفس الحکم أی إن الحکم منوط به، أو إنه تقیید لنفس موضوع الحکم أو متعلق الموضوع باختلاف الموارد، فیکون الموضوع أو متعلق الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف و الوصف؟ . فإن کان الأول فإن التقیید بالوصف یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند انتفائه بمقتضی الإطلاق، لأن الإطلاق یقتضی - بعد فرض إناطه الحکم بالوصف - انحصاره فیه کم قلنا فی التقیید بالشرط. و إن کان الثانی، فإن التقیید لا یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند انتفاء الوصف، لأنه حینئذ یکون من قبیل مفهوم اللقب، إذ إنه بکون التعبیر بالوصف و الموصوف لتحدید موضوع الحکم فقط، لا إن الموضوع ذات الموصوف و الوصف قید للحکم علیه، مثلما إذا قال القائل: (اصنع شکلا رباعیا قائم الزوایا متساوی الأضلاع) فإن المفهوم منه إن المطلوب صنعه هو المربع فعبر عنه بهذه القیود الداله علیه، حیث یکون الموضوع هو مجموع المعنی المدلول علیه بالعباره المؤلفه من الموصوف و الوصف و هی فی المثال (شکل رباعی قائم الزوایا متساوی الأضلاع) و هی بمنزله کلمه مربع، فکم إن جمله (اصنع مربعا) لا تدل علی الانتفاء عند الانتفاء کذلک ما هو بمنزلتها لا تدل علیه، لأنه فی الحقیقه یکون من قبیل الوصف غیر المعتمد علی الموصوف. إذا عرفت ذلک، فنقول: إن الظاهر فی الوصف - لو خلی و طبعه من دون قرینه - إنه من قبیل الثانی أی إنه قید للموضوع لا للحکم، فیکون الحکم من جهته مطلقا غیر مقید. فلا مفهوم للوصف. و من هذا التقریر یظهر بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدله الآتیه:
1 - إنه لو لم یدل الوصف علی الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائده فیه. و الجواب: إن الفائده غیر منحصره برجوعه إلی الحکم. و کفی فائده فیه تحدید موضوع الحکم و تقییده به.
2 - إن الأصل فی القیود إن تکون احترازیه.
ص 115
والجواب: إن هذا مسلم و لکن معنی الاحتراز هو تضییق دائره الموضوع و إخراج ما عد القید عن شمول شخص الحکم له. و نحن نقول به و لیس هذا من المفهوم فی شیء، لأن إثبات الحکم لموضوع لا ینفی ثبوت سنخ الحکم لما عداه، کما فی مفهوم اللقب. و الحاصل إن کون القید احترازیا لا یلزم إرجاعه قیدا للحکم.
3 - إن الوصف مشعر بالعلیه، فیلزم إناطه الحکم به. و الجواب: إن هذا الإشعار و إن کان مسلما، إلا إنه ما لم یصل إلی حد الظهور لا ینفع فی الدلاله علی المفهوم.
4 - الاستدلال بالجمل التی ثبتت دلالتها علی المفهوم، مثل قوله صلی الله علیه و آله: (مَطْلُ الْغَنِیِّ ظُلْمٌ ). و الجواب: إن ذلک علی تقدیره لا ینفع، لأنا لا نمنع، من دلاله التقیید بالوصف علی المفهوم أحیانا لوجود قرینه و إنما موضوع البحث فی اقتضاء طبع الوصف لو خلی و نفسه للمفهوم. و خصوص المثال نجد القرینه علی إناطه الحکم بالغنی موجوده من جهه مناسبه الحکم و الموضوع، فیفهم إن السبب فی الحکم کون المدین غنیا، فیکون مطلبه ظلما، بخلاف المدین الفقیر، لعجزه عن أداء الدین، فلا یکون مطلبه ظلما. * * *
الثالث - مفهوم الغایه
الثالث - مفهوم الغایه
إذا ورد التقیید بالغایه نحو (وأتموا الصیأم إلی اللیل) و نحو (کل شیء حلال حتی تعرف إنه حرأم بعینه) - فقد وقع خلاف الأصولیین فیه من جهتین: (الجهه الأولی) - فی دخول الغایه فی المنطوق أی فی حکم المغیی، فقد اختلفوا فی إن الغایه و هی الواقعه بعد أداه الغایه نحو (إلی) و (حتی) هل هی
ص 116
داخله فی المغیی حکما، أو خارجه عنه و إنما ینتهی إلیها المغیی موضوعا و حکما؟ علی أقوال: (منها) التفصیل بین کونها من جنس المغیی فتدخل فیه نحو صمت النهار إلی اللیل و بین کونها من غیر جنسه فلا تدخل کمثال کل شیء حلال. (و منها) التفصیل بین کون الغایه واقعه بعد (إلی) فلا تدخل فیه. و بین کونها واقعه بعد (حتی) فتدخل نحو (کل السمکه حتی رأسها). و الظاهر إنه لا ظهور لنفس التقیید بالغایه فی دخولها فی المغیی و لا فی عدمه، بل یتبع ذلک الموارد و القرائن الخاصه الحافه بالکلام. نعم، ل ینبغی الخلاف فی عدم دخول الغایه فیما إذا کانت غایه للحکم، کمثال کل شیء حلال، فإنه لا معنی لدخول معرفه الحرام فی حکم الحلال. ثم إن المقصود من کلمه (حتی) التی یقع الکلام عنها هی (حتی الجاره)، دون العاطفه و إن کانت تدخل علی الغایه أیضا، لأن العاطفه یجب دخول ما بعدها فی حکم ما قبلها لأن هذا هو معنی العطف، فإذا قلت: مات الناس حتی الأنبیاء فإن معناه إن الأنبیاء ماتوا أیضا. بل (حتی العاطفه) تفید إن الغایه هو الفرد الفائق علی سائر أفراد المغیی فی القوه أو الضعف، فکیف یتصور المعطوف بها داخلا فی الحکم، بل قد یکون هو الأسبق فی الحکم نحو: مات کل أب حتی آدم. (الجهه الثانیه) فی مفهوم الغایه. و هی موضوع البحث هنا فإنه قد اختلفوا فی إن التقیید بالغایه - مع قطع النظر عن القرائن الخاصه - هل یدل علی انتفاء سنخ الحکم عما وراء الغایه و من الغایه نفسها أیضا إذا لم تکن داخله فی المغیی، أولا؟ فنقول: إن المدرک فی دلاله الغایه علی المفهوم کالمدرک فی الشرط و الوصف، فإذا کانت قید للحکم کانت ظاهره فی انتفاء الحکم فیما وراءها و أما إذا کانت قیدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلاله لها علی المفهوم. و علیه فما علم فی التقیید بالغایه إنه راجع إلی الحکم فلا إشکال فی
ص 117
ظهوره فی المفهوم مثل قوله (ع) (کل شیء طاهر حتی تعلم إنه نجس) و کذلک مثال کل شیء حلال. و إن لم یعلم ذلک من القرائن فلا یبعد القول بظهور الغایه فی رجوعها إلی الحکم و إنها غایه للنسبه الواقعه قبلها و کونها غایه لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذی یحتاج إلی البیان و القرینه. فالقول بمفهوم الغایه هو المرجح عندنا.
الرابع - مفهوم الحصر
الرابع - مفهوم الحصر
معنی الحصر:
الحصر له معنیان:
1 - القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغه، سواء کان من نوع قصر الصفه علی الموصوف، نحو (لا سیف إلا ذو الفقار ول فتی إلا علی)، أم من نوع قصر الموصوف علی الصفه، نحو (وما محمد إلا رسول، إنما أنت منذر).
2 - ما یعم القصر و الاستثناء الذی لا یسمی قصرا بالاصطلاح نحو (فشربوا ال قلیلا). و المقصود به هنا هو هذا المعنی الثانی.
اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته:
إن مفهوم الحصر یختلف حاله باختلاف أدوات الحصر کما ستری، فلذلک کان علینا إن نبحث عنها واحده واحده، فنقول:
1 - (إلا). و هی تأتی لثلاثه وجوه:
1 - صفه بمعنی غیر.
2 - استثنائیه.
3 - أداه حصر بعد النفی.
ص 118
أما (الا الوصفیه) فهی تقع وصفا لما قبلها کسائر الأوصاف الأخری. فهی تدخل من هذه الجهه فی مفهوم الوصف، فإن قلنا هناک إن للوصف مفهوما فهی کذلک و إلا فلا. و قد رجحنا فیما سبق إن الوصف لا مفهوم له، فإذا قال المقر مثلا: (فی ذمتی عشره دراهم الا درهم) بجعل (الا درهم) وصفا، فإنه یثبت فی ذمته تمأم العشره الموصوفه بأنه لیست بدرهم. و لا یصح إن تکون استثنائیه لعدم نصب درهم. و لا مفهوم لها حینئذ فلا تدل علی عدم ثبوت شیء آخر فی ذمته لزید. و أما (الا الاستثنائیه) فلا ینبغی الشک فی دلالتها علی المفهوم و هو انتفاء حکم المستثنی منه عن المستثنی، لأن (الا) موضوعه للإخراج و هو الاستثناء و لازم هذا الإخراج باللزوم البین بالمعنی الأخص إن یکون المستثنی محکوما بنقیض حکم المستثنی منه. و لما کان هذا اللزوم بینا ظن بعضهم إن هذ المفهوم من باب المنطوق. و أما (أداه الحصر بعد النفی) نحو (لا صلاه إلا بطهور)، فهی فی الحقیقه من نوع الاستثنائیه. (فرع) - لو شککنا فی مورد إن کلمه (إل) (للاستثناء) أو وصفیه، مثل ما لو قال المقر: (لیس فی ذمتی لزید عشره دراهم ال درهم)، إذ یجوز فی المثال إن تکون إلا وصفیه و یجوز إن تکون استثنائیه - فإن الأصل فی کلمه (إلا) أن تکون للاستثناء فیثبت فی ذمته فی المثال درهم واحد. أما لو کانت وصفیه فإنه لا یثبت فی ذمته شیء، لأنه یکون قد نفی العشره الدراهم کلها الموصوفه تلک الدراهم بأنها لیست بدرهم.
2 - (إنما). و هی أداه حصر مثل کلمه (إلا)، فإذ استعملت فی حصر الحکم فی موضوع معین دلت بالملازمه البینه علی انتفائه عن غیر ذلک الموضوع و هذا واضح.
3 - (بل). و هی للإضراب و تستعمل فی وجوه ثلاثه: (الأول) - للدلاله علی إن المضروب عنه وقع عن غفله أو علی نحو الغلط. و لا دلاله لها حینئذ علی الحصر. و هو واضح.
ص 119
(الثانی) - للدلاله علی تأکید المضروب عنه و تقریره، نحو: زید عالم بل شاعر. ول دلاله لها أیضا حینئذ علی الحصر. (الثالث) - للدلاله علی الردع و إیصال ما ثبت أولا، نحو (أم یقولون به جنه، بل جاءهم بالحق). فتدل علی الحصر، فیکون لها مفهوم و هذه الآیه الکریمه تدل علی انتفاء مجیئه بغیر الحق.
4 - و هناک هیئات غیر الأدوات تدل علی الحصر، مثل تقدم المفعول نحو (إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاکَ نَسْتَعِینُ ) و مثل تعریف المسند إلیه بلأم الجنس مع تقدیمه نحو (العالم محمد) و (إن القول ما قالت حذأم). و نحو ذلک مما هو مفصل فی علم البلاغه. فإن هذه الهیئات ظاهره فی الحصر، فإذا استفید منه الحصر فلا ینبغی الشک فی ظهورها فی المفهوم، لأنه لازم للحصر لزوما بینا. و تفصیل الکلام فیها لا یسعه هذا المختصر. و علی کل حال، فإن کل ما یدل علی الحصر فهو دال علی المفهوم بالملازمه البینه.
الخأمس - مفهوم العدد
الخأمس - مفهوم العدد
لا شک فی إن تحدید الموضوع بعدد خاص لا یدل علی انتفاء الحکم فیما عداه، فإذا قیل: (صم ثلاثه أیأم من کل شهر) فإنه لا یدل علی عدم استحباب صوم غیر الثلاثه الأیأم. فلا یعارض الدلیل علی استحباب صوم أیأم أخر. نعم لو کان الحکم للوجوب - مثلا - و کان التحدید بالعدد من جهه الزیاده لبیان الحد الأعلی - فلا شبهه فی دلالته علی عدم وجوب الزیاده کدلیل صوم ثلاثین یوما من شهر رمضان. و لکن هذه الدلاله من جهه خصوصیه المورد لا من جهه أصل التحدید بالعدد، حتی یکون لنفس العدد مفهوم. فالحق إن التحدید بالعدد لا مفهوم له.
ص 120
السادس - مفهوم اللقب
السادس - مفهوم اللقب
المقصود باللقب: کل اسم - سواء کان مشتقا أم جأمدا - وقع موضوعا للحکم کالفقیر فی قولهم: أطعم الفقیر و کالسارق و السارقه فی قوله تعالی: (السارق و السارقه فاقطعوا أیدیهما). و معنی مفهوم اللقب نفی الحکم عما لا یتناوله عموم الاسم. و بعد إن استشکلنا فی دلاله الوصف علی المفهوم فعدم دلاله اللقب أولی، فإن نفس موضوع الحکم بعنوانه لا یشعر بتعلیق الحکم علیه فضلا عن إن یکون له ظهور فی الانحصار. نعم غایه ما یفهم من اللقب عدم تناول شخص الحکم لغیر ما یشمله عموم الاسم و هذا لا کلأم فیه، أما عدم ثبوت نوع الحکم لموضوع آخر فلا دلاله له علیه أصلا. و قد قیل: إن مفهوم اللقب أضعف المفهومات.
خاتمه فی دلاله الاقتضاء و التنبیه و الإشاره
تمهید:
یجری کثیرا علی لسان الفقهاء و الأصولیین ذکر دلاله الاقتضاء و التنبیه و الإشاره و لم تشرح هذه الدلالات فی أکثر الکتب الأصولیه المتعارفه. و لذلک رأینا إن نبحث عنها بشیء من التفصیل لفائده المبتدئین. و البحث عنها یقع من جهتین: الأولی فی مواقع هذه الدلالات الثلاث و إنها من أی أقسأم الدلالات و الثانیه فی حجیتها.
الجهه الأولی - مواقع الدلالات الثلاث
قد تقدم إن (المفهوم) هو مدلول الجمله الترکیبیه اللازمه للمنطوق لزوما
ص 121
بینا بالمعنی الأخص. و یقابله (المنطوق) الذی هو مدلول ذات اللفظ بالدلاله المطابقیه. و لکن یبقی هناک من المدلولات ما لا یدخل فی المفهوم و لا فی المنطوق اصطلاحا، کما إذا دل الکلام بالدلاله الإلتزامیه (1) علی لفظ مفرد أو معنی مفرد لیس مذکورا فی المنطوق صریحا، أو إذا دل الکلام علی مفاد جمله لازمه للمنطوق الا إن اللزوم لیس علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص. فإن هذه کلها لا تسمی مفهوما ول منطوقا، أذن ماذا تسمی هذه الدلاله فی هذه المقامات؟ نقول: الأنسب إن نسمی مثل هذه الدلاله - علی وجه العموم - (الدلاله السیاقیه)، کما ربما یجری هذا التعبیر فی لسان جمله من الأساطین لتکون فی مقابل الدلاله المفهومیه و المنطوقیه. و المقصود بها - علی هذا -: إن سیاق الکلام یدل علی المعنی المفرد أو المرکب أو اللفظ المقدر. و قسموه إلی الدلالات الثلاث المذکوره: الاقتضاء و التنبیه و الإشاره. فلنبحث عنها واحده واحده:
1 - دلاله الاقتضاء
وهی إن تکون الدلاله مقصوده للمتکلم بحسب العرف و یتوقف صدق الکلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغه أو عاده علیها. مثالها قوله صلی الله علیه و آله: (لا ضرر و لا ضرار فی الإسلأم)، فإن صدق الکلام یتوقف علی تقدیر الأحکام و الآثار الشرعیه لتکون هی المنفیه حقیقه، لوجود الضرر و الضرار قطعا عند المسلمین. فیکون النفی للضرر باعتبار نفی آثاره الشرعیه و أحکامه. و مثله (رفع عن أمتی ما ل یعلمون و ما
(هامش)
(1) المقصود من الدلاله الإلتزامیه ما یعم الدلاله التضمنیه باصطلاح المناطقه باعتبار رجوع الدلاله التضمنیه إلی الإلتزامیه لأنها لا تتم الا حیث یکون معنی الجزء لازما للکل فتکون الدلاله من ناحیه الملازمه بینهم.
ص 122
اضطروا إلیه. . ). مثال آخر، قوله علیه السلأم: (لا صلاه لمن جاره المسجد إلا فی المسجد) فإن صدق الکلام و صحته تتوقف علی تقدیر کلمه (کأمله) محذوفه لیکون النفی کمال الصلاه، لا أصل الصلاه. مثال ثالث، قوله تعالی: (وأسأل القریه)، فإن صحته عقل تتوقف علی تقدیر لفظ (أهل)، فیکون من باب حذف المضاف، أو علی تقدیر معنی أهل، فیکون من باب المجاز فی الإسناد. مثال رابع، قولهم: (أعتق عبدک عنی علی ألف) فإن صحه هذ الکلام شرعا تتوقف علی طلب تملیکه أولا له بألف لأنه لا عتق إلا فی ملک فیکون التقدیر ملکنی العبد بألف ثم أعتقه عنی. مثال خأمس، قول الشاعر: نحن بما عندنا و أنت بما * عندک راض و الرأی مختلف فإن صحته لغه تتوقف علی تقدیر (رضوان) خبرا للمبتد (نحن)، لأن راض مفرد لا یصح إن یکون خبرا لنحن. و جمیع الدلالات الإلتزامیه علی المعانی المفرده و جمیع المجازات فی الکلمه أو فی الإسناد ترجع إلی (دلاله الاقتضاء). فإن قال قائل: إن دلاله اللفظ علی معناه المجازی من الدلاله المطابقیه فکیف جعلتم المجاز من نوع دلاله الاقتضاء - نقول له: هذا صحیح و مقصودنا من کون الدلاله علی المعنی المجازی من نوع دلاله الاقتضاء، هو دلاله نفس القرینه المحفوف بها الکلام علی إراده المعنی المجازی من اللفظ، لا دلاله نفس اللفظ علیه بتوسط القرینه. (والخلاصه): إن المناط فی دلاله الاقتضاء شیئان: الأول إن تکون الدلاله مقصوده و الثانی إن یکون الکلام لا یصدق أو لا یصح بدونها. و لا یفرق فیها بین إن یکون لفظا مضمرا، أو معنی مرادا: حقیقیا أو مجازی.
ص 123
2 - دلاله التنبیه
وتسمی (دلاله الإیماء) أیضا و هی کالأولی فی اشتراط القصد عرف و لکن من غیر إن یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها و إنما سیاق الکلام ما یقطع معه بإراده ذلک اللازم أو یستبعد عدم أرادته. و بهذا تفترق عن دلاله الاقتضاء لأنها کم تقدم یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها. و لدلاله التنبیه موارد کثیره نذکر أهمها:
1 - ما إذا أراد المتکلم بیان أمر فنبه علیه بذکر ما یلازمه عقلا أو عرفا، کما إذا قال القائل: (دقت الساعه العاشره) مثلا، حیث تکون الساعه العاشره موعدا له مع المخاطب لینبهه علی حلول الموعد المتفق علیه. أو قال:
(طلعت الشمس) مخاطبا من قد استیقظ من نومه حینئذ، لبیان فوات وقت أداء صلاه الغداه. أو قال:
(إنی عطشان) للدلاله علی طلب الماء. و من هذا الباب ذکر الخبر لبیان لازم الفائده، مثل ما لو أخبر المخاطب. بقوله:
(إنک صائم) لبیان إنه عالم بصومه. و من هذا الباب أیضا الکنایات إذا کان المراد الحقیقی مقصودا بالإفاده من اللفظ، ثم کنی به عن شیء آخر.
2 - ما إذا أقترن الکلام بشیء یفید کونه عله للحکم أو شرطا أو مانعا أو جزءا، أو عدم هذه الأمور. فیکون ذکر الحکم تنبیها علی کون ذلک الشیء عله أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم کونه کذلک. مثاله قول المفتی: (أعد الصلاه) لمن سأله عن الشک فی أعداد الثنائیه فإنه یستفاد منه إن الشک المذکور عله لبطلان الصلاه و للحکم بوجوب الإعاده. مثال آخر قوله علیه السلأم: (کفر) لمن قال له: واقعت أهلی فی نهار شهر رمضان، فإنه یفید إن الوقاع فی الصوم الواجب موجب للکفاره. و مثال ثالث، قوله:
(بطل البیع) لمن قال له: (بعت السمک فی النهر) فیفهم منه اشتراط القدره علی التسلیم فی البیع.
ص 124
ومثال رابع قوله:
(لا تعید) لمن سأل عن الصلاه فی الحمأم، فیفهم منه عدم مانعیه الکون فی الحمأم للصلاه. . و هکذا.
3 - ما إذا اقترن الکلام بشیء یفید تعیین بعض متعلقات الفعل، کما إذا قال القائل: (وصلت إلی النهر و شربت)، فیفهم من هذه المقارنه إن المشروب هو الماء و إنه من النهر. و مثل ما إذا قال:
(قمت و خطبت) أی و خطبت قائم. . و هکذا.
3 - دلاله الإشاره
ویشترط فیها - علی عکس الدلالتین السابقتین ألا تکون الدلاله مقصوده بالقصد الاستعمالی بحسب العرف، لکن مدلولها لازم لمدلول الکلام لزوما غیر بین أو لزوما بینا بالمعنی الأعم، سواء استنبط المدلول من کلأم واحدا أم من کلأمین. مثال ذلک دلاله الآیتین علی أقل الحمل و هما أیه (وحمله و فصاله ثلاثون شهرا) و أیه (والوالدات یرضعن أولادهن حولین کأملین)، فإنه بطرح الحولین من ثلاثین شهرا یکون الباقی سته أشهر فیعرف إنه أقل الحمل. و من هذا الباب دلاله وجوب الشیء علی وجوب مقدمته، لأنه لازم لوجوب ذی المقدمه باللزوم البین بالمعنی الأعم. و لذلک جعلوا وجوب المقدمه و جوبا تبعیا لا أصلیا، لأنه لیس مدلولا للکلأم بالقصد، وإنم یفهم بالتبع، أی بدلاله الإشاره.
الجهه الثانیه - حجیه هذه الدلالات
أما دلاله (الاقتضاء و التنبیه)، فلا شک فی حجیتهما إذا کانت هناک دلاله و ظهور، لأنه من باب حجیه الظواهر. و لا کلأم فی ذلک. و أما دلاله (الإشاره) فحجیتها من باب حجیه الظواهر محل نظر و شک،
ص 125
لأن تسمیتها بالدلاله من باب المسأمحه، إذ المفروض إنها غیر مقصوده و الدلاله تابعه للإراده و حقها إن تسمی إشاره و إشعارا فقط بغیر لفظ الدلاله فلیست هی من الظواهر فی شیء حتی تکون حجه من هذه الجهه. نعم هی حجه من باب الملازمه العقلیه حیث تکون ملازمه، فیستکشف منها لازمها سواء کان حکما أم غیر حکم، کالأخذ بلوازم إقرار المقر و إن لم یکن قاصدا لها أو کان منکرا للملازمه. و سیأتی فی محله فی باب الملازمات العقلیه إن شاء الله تعالی.
ص 127
الباب الخامس: العام و الخاص
الباب الخامس: العام و الخاص
تمهید:
(العام و الخاص):
هما من المفاهیم الواضحه البدیهیه التی لا تحتاج إلی التعریف الا لشرح اللفظ و ترقیب المعنی إلی الذهن، فلذلک لا محل لتعریفهما بالتعاریف الحقیقیه. و القصد من (العام): اللفظ الشامل بمفهومه لجمیع ما یصلح انطباق عنوانه علیه فی ثبوت الحکم له. و قد یقال للحکم إنه عام أیضا باعتبار شموله لجمیع أفراد الموضوع أو المتعلق أو المکلف. و القصد من (الخاص): الحکم الذی لا یشمل الا بعض أفراد موضوعه أو المتعلق أو المکلف، أو إنه اللفظ الدال علی ذلک. (والتخصیص): هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحکم العام، بعد إن کان اللفظ فی نفسه شاملا له لول التخصیص. (والتخصص): هو إن یکون اللفظ من أول الأمر - بلا تخصیص - غیر شامل لذلک الفرد غیر المشمول للحکم.
أقسأم العام:
ینقسم العام إلی ثلاثه أقسأم باعتبار تعلق الحکم به:
1 - (العموم الاستغراقی) و هو إن یکون الحکم شاملا لکل فرد فرد، فیکون کل فرد وحده موضوعا للحکم و لکل حکم متعلق بفرد من الموضوع عصیان خاص نحو (أکرم کل عالم).
2 - (العموم المجموعی) و هو إن یکون الحکم ثابتا للمجموع بما هو
ص 130
مجموع فیکون المجموع موضوعا واحدا، کوجوب الإیمان بالأئمه، فلا یتحقق الامتثال ال بالإیمان بالجمیع.
3 - (العموم البدلی) و هو إن یکون الحکم لواحد من الأفراد علی البدل، فیکون فرد واحد فقط - علی البدل - موضوعا للحکم، فإذا أمتثل فی واحد سقط التکلیف، نحو أعتق أیه رقبه شئت. فإن قال قائل: إن عد هذا القسم الثالث من أقسأم العموم فیه مسأمحه ظاهره لأن البدلیه تنافی العموم، إذ المفروض إن متعلق الحکم أو موضوعه لیس إلا فردا واحدا فقط. نقول فی جوابه: العموم فی هذا القسم معناه عموم البدلیه، أی صلاح کل فرد لأن یکون متعلقا أو موضوعا للحکم. نعم إذا کان استفاده العموم من هذا القسم بمقتضی الإطلاق، فهو یدخل فی المطلق لا فی العام. و علی کل حال، إن عموم متعلق الحکم لأحواله و أفراده إذا کان متعلقا للأمر الوجوبی أو الاستحبابی، فهو علی الأکثر من نوع العموم البدلی. إذا عرفت هذا التمهید، فینبغی إن نشرع فی تفصیل مباحث العام و الخاص فی فصول:
1 - (ألفاظ العموم)
لا شک إن للعموم ألفاظا تخصه داله علیه أما بالوضع أو بالإطلاق بمقتضی مقدمات الحکمه. و هی أما إن تکون ألفاظ مفرده مثل (کل) و ما فی معناها مثل (جمیع) و (تمأم) و (أی) و (دائما) و أما إن تکون هیئات لفظیه کوقوع النکره فی سیاق النفی أو النهی و کون اللفظ جنسا محلی باللأم جمعا کان أو مفردا. فلنتکلم عنها بالتفصیل:
1 - لفظه (کل) و ما فی معناها،
فإنه من المعلوم دلالتها بالوضع علی عموم مدخولها سواء کان عموما استغراقیا أو مجموعیا و إن العموم معناه الشمول لجمیع أفرادها مهما کان لها من الخصوصیات اللاحقه لمدخوله.
ص 131
2 - (وقوع النکره فی سیاق النفی أو النهی)
فإنه لا شک فی دلالتها علی عموم السلب لجمیع أفراد النکره عقلا، لا وضعا، لأن عدم الطبیعه إنما یکون بعدم جمیع أفراده. و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان. 3 - (الجمع المحلی باللأم و المفرد المحلی به) لا شک فی استفاده العموم منهما عند عدم العهد و لکن الظاهر إنه لیس ذلک بالوضع فی المفرد المحلی باللأم و إنما یستفاد بالإطلاق بمقتضی الحکمه و لا فرق بینهما من جهه العموم فی استغراق جمیع الأفراد فردا فردا. و قد توهم بعضهم: إن معنی استغراق الجمع المحلی و کل جمع مثل أکرم جمیع العلماء هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع، لا بلحاظ الأفراد فردا فردا، فیشمل کل جماعه جماعه و یکون بمنزله قول القائل: (أکرم جماعه جماعه)، فیکون موضوع الحکم کل جماعه علی حده لا کل مفرد، فإکرأم شخص واحد لا یکون امتثالا للأمر. و ذلک نظیر عموم التثنیه، فإن الاستغراق فیها بملاحظه مصادیق التثنیه، فیشمل کل اثنین اثنین، فإذا قال:
(أکرم کل عالمین) فموضوع الحکم کل اثنین من العلماء لا کل فرد. و منشأ هذا التوهم إن معنی الجمع الجماعه، کما إن معنی التثنیه الاثنین فإذا دخلت أداه العموم علیه دلت علی العموم بلحاظ کل جماعه جماعه، کما إذا دخلت علی المفرد دلت علی العموم بلحاظ کل فرد فرد و علی التثنیه دلت علیه لحاظ کل اثنین اثنین، لأن أداه العموم تفید عموم مدخولها. و لکن هذا توهم فاسد للفرق بین التثنیه و الجمع، لأن التثنیه تدل علی الاثنین المحدوده من جانب القله و الکثره. بخلاف الجمع، فإنه یدل علی ما هو محدود من جانب القله فقط، لأن أقل الجمع ثلاثه و أما من جانب الکثره فغیر محدود أبدا. فکل ما تفرض لذلک اللفظ المجموع من أفراد مهما کثرت فهی مرتبه من الجمع واحده و جماعه واحده، حتی لو أرید جمیع الأفراد بأسرها، فإنها کلها مرتبه واحده من الجمع، لا مجموعه مراتب له. فیکون معنی استغراق الجمع عدم الوقوف علی حد خاص من حدود
ص 132
الجمع و مرتبه دانیه منه، بل المقصود أعلی مراتبه. فیذهب استغراقه إلی آخر الآحاد ل إلی آخر المراتب، إذ لیس هناک بلحاظ جمیع الأفراد إلا مرتبه واحده لا مراتب متعدده و لیس الا حد واحد هو الحد الأعلی، لا حدود متکثره، فهو من هذه الجهه کاستغراق المفرد معناه عدم الوقوف علی حد خاص، فیذهب إلی آخر الآحاد. نعم الفرق بینهما إنم هو فی عدم الاستغراق، فإن عدم استغراق المفرد یوجب الاقتصار علی واحد. و عدم استغراق الجمع یوجب الاقتصار علی أقل الجمع و هو ثلاثه.
2 - المخصص المتصل و المنفصل
إن تخصیص العام علی نحوین:
1 - إن یقترن به مخصصه فی نفس الکلام الواحد الملقی من المتکلم کقولنا: (أشهد إن لا إله إلا الله). و یسمی المخصص (المتصل). فیکون قرینه علی إراده ما عدا الخاص من العموم. و تلحق به - بل هی منه - القرینه الحالیه المکتنف بها الکلام الداله علی إراده الخصوص، علی وجه یصح تعویل المتکلم علیها فی بیان مراده.
2 - ألا یقترن به مخصصه فی نفس الکلام، بل یرد فی کلأم آخر مستقل قبله أو بعده. و یسمی المخصص (المنفصل)، فیکون أیضا قرینه علی إراده ما عدا الخاص من العموم، کالأول. فأذن لا فرق بین القسمین من ناحیه القرینه علی مراد المتکلم و إنما الفرق بینهما من ناحیه أخری و هی ناحیه انعقاد الظهور فی العموم: ففی المتصل لا ینعقد للکلأم ظهور إلا فی الخصوص و فی المنفصل ینعقد ظهور العام فی عمومه، غیر إن الخاص ظهوره أقوی، فیقدم علیه من باب تقدیم الأظهر علی الظاهر أو النص علی الظاهر. و السر فی ذلک: إن الکلام مطلقا - العام و غیره - لا یستقر له الظهور و لا ینعقد الا بعد الانتهاء منه و الانقطاع عرفا، علی وجه لا یبقی بحسب
ص 133
العرف مجال لإلحاقه بضمیمه تصلح لأن تکون قرینه تصرفه عن ظهوره الابتدائی الأولی و إلا فالکلام مادام متصلا عرفا فإن ظهوره مراعی، فإن انقطع من دون ورود قرینه علی خلافه استقر ظهوره الأول و انعقد الکلام علیه و إن لحقته القرینه الصارفه تبدل ظهوره الأول إلی ظهور آخر حسب دلاله القرینه و انعقد حینئذ علی الظهور الثانی. ولذ لو کانت القرینه مجمله أو إن وجد فی الکلام ما یحتمل إن یکون قرینه أوجب ذلک عدم انعقاد الظهور الأول و إلا ظهور آخر، فیعود الکلام برمته مجملا. هذا من ناحیه کلیه فی کل کلأم. و مقامنا من هذا الباب، لأن المخصص - کما قلنا - من قبیل القرینه الصارفه، فالعام له ظهور ابتدائی - أو بدوی - فی العموم، فیکون مراعی بانقطاع الکلام و انتهائه، فإن لم یلحقه ما یخصصه استقر ظهوره الابتدائی و انعقد علی العموم و إن لحقته قرینه التخصیص قبل الانقطاع تبدل ظهوره الأول و انعقد له ظهوره آخر حسب دلاله المخصص المتصل. أذن فالعام المخصص بالمتصل لا یستقر و لا ینعقد له ظهوره فی العموم، بخلاف المخصص بالمنفصل، لأن الکلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما یصلح للقرینه علی التخصیص، فیستقر ظهوره الابتدائی فی العموم. غیر إنه إذا ورد المخصص المنفصل یزاحم ظهور العام، فیقدم علیه من باب إنه قرینه علیه کاشفه عن المراد الجدی.
3 - هل استعمال العام فی المخصص مجاز؟
قلنا: إن المخصص بقسمیه قرینه علی إراده ما عدا الخاص من لفظ العموم، فیکون المراد من العام بعض ما یشمله ظاهره. فوقع الکلام فی إن هذا الاستعمال هل هو علی نحو المجاز أو الحقیقه. و اختلف العلماء فیه علی أقوال کثیره: (منها) إنه مجاز مطلقا و (منها) إنه حقیقه مطلقا. و (منه) التفصیل بین المخصص بالمتصل و بین المخصص بالمنفصل، فإن کان التخصیص بالأول فهو حقیقه دون ما کان بالثانی و قیل: بالعکس.
ص 134
والحق عندنا هو القول الثانی أی إنه حقیقه مطلقا. (الدلیل) - إن منشأ توهم القول بالمجاز إن أداه العموم لما کانت موضوعه للدلاله علی سعه مدخولها و عمومه لجمیع أفراده، فلو أرید منه بعضه فقد استعملت فی غیر ما وضعت له، فیکون الاستعمال مجاز. و هذا التوهم یدفع بأدنی تأمل، لأنه فی التخصیص بالمتصل کقولک - مثلا -: أکرم کل عالم إلا الفاسقین لم تستعمل أداه العموم إلا فی معناها و هی الشمول لجمیع أفراد مدخولها، غایه الأمر إن مدخولها تاره یدل علیه لفظ واحد مثل أکرم کل عادل و أخری یدل علیه أکثر من لفظ واحد فی صوره التخصیص، فیکون التخصیص معناه إن مدخول (کل) لیس ما یصدق علیه لفظ عالم مثلا بل هو خصوص العالم العادل فی المثال. و أما (کل) فهی باقیه علی مالها من الدلاله علی العموم و الشمول، لأنها تدل حینئذ علی الشمول لکل عادل من العلماء و لذا لا یصح إن یوضع مکانها کلمه (بعض)، فلا یستقیم المعنی لو قلت: أکرم بعض العلماء إلا الفاسقین و إلا لما صح الاستثناء کما لا یستقیم لو قلت: أکرم بعض العلماء العدول، فإنه لا یدل علی تحدید الموضوع کما لو کانت (کل) و الاستثناء موجودین. و الحاصل إن لفظه (کل) و سائر أدوات العموم فی مورد التخصیص لم تستعمل الا فی معناها و هو الشمول. و لا معنی للقول بأن المجاز فی نفس مدخولها، لأن مدخولها مثل کلمه عالم موضوع لنفس الطبیعه من حیث هی، لا الطبیعه بجمیع أفرادها أو بعضها. و إراده الجمیع أو البعض إنما یکون من دلاله لفظه أخری ک (کل) أو (بعض)، فإذا قید مدخولها و أرید منه المقید بالعداله فی المثال المتقدم لم یکن مستعملا إل فی معناه. و هو من له العلم و تکون إراده ما عدا الفاسق من العلماء من دلاله المجموع القید و المقید، من باب تعدد الدال و المدلول. و سیجئ إن شاء الله تعالی إن تقیید المطلق لا یوجب مجازا. هذا الکلام کله عن المخصوص بالمتصل. و کذلک الکلام عن المخصوص
ص 135
بالمنفصل، لأنا قلنا: إن التخصیص بالمنفصل معناه جعل الخاص قرینه منفصله علی تقیید مدخول (کل) بما عدا الخاص، فلا تصرف فی أداه العموم و لا فی مدخولها و یکون أیضا من باب تعدد الدال و المدلول. و لو فرض إن المخصص المنفصل لیس مقیدا لمدخول أداه العموم، بل هو تخصیص للعموم نفسه فإن هذا لا یلزم منه إن یکون المستعمل فیه فی العام هو البعض، حتی یکون مجازا، بل إنما یکشف الخاص عن المراد الجدی من العام.
4 - حجیه العام المخصص فی الباقی
إذا شککنا فی شمول العام - المخصص - لبعض أفراد الباقی من العام بعد التخصیص، فهل العام حجه فی هذا البعض، فیتمسک بظاهر العموم لإدخاله فی حکم العام؟ علی أقوال: مثلا، إذا قال المولی: (کل ماء طاهر)، ثم استثنی من العموم بدلیل متصل أو منفصل الماء المتغیر بالنجاسه و نحن احتملنا استثناء الماء القلیل الملاقی للنجاسه بدون تغییر، فإذا قلنا بأن العام المخصص حجه فی الباقی نطرد هذ الاحتمال بظاهر عموم العام فی جمیع الباقی، فنحکم بطهاره الماء الملاقی غیر المتغیر. و إذا لم نقل بحجیته فی الباقی یبقی هذا الاحتمال معلقا لا دلیل علیه من العام، فنلتمس، له دلیلا آخر یقول بطهارته أو نجاسته. و الأقوال فی المسأله کثیره: منها التفصیل بین المخصص بالمتصل فیکون حجه فی الباقی و بین المخصص بالمنفصل فل یکون حجه. و قیل بالعکس و الحق فی المسأله هو الحجیه مطلقا، لأن أساس النزاع ناشئ من النزاع فی المسأله السابقه و هی إن العام المخصص مجاز فی الباقی أم لا؟ و من قال بالمجاز یستشکل فی ظهور العام و حجیته فی جمیع الباقی من جهه إن المفروض إن استعمال العام فی تمأم الباقی مجاز و استعماله فی بعض الباقی مجاز آخر أیضا، فیقع النزاع فی إن المجاز الأول أقرب إلی الحقیقه، فیکون العام ظاهرا فیه أو إن المجازین متساویان، فلا ظهور فی أحدهما. فإذا کان المجاز الأول هو الظاهر کان العام حجه فی تمأم الباقی و إلا فلا یکون حجه.
ص 136
أما نحن الذین نقول بأن العام المخصص حقیقه کما تقدم، ففی راحه من هذا النزاع، لأن قلنا: إن أداه العموم باقیه علی ما لها من معنی الشمول لجمیع أفراد مدخولها، فإذ خرج من مدخولها بعض الأفراد بالتخصیص بالمتصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها علی العموم باقیه علی حالها و إنما مدخولها تتضیق دائرته بالتخصیص. فحکم العام المخصص حکم العام غیر المخصص فی ظهوره فی الشمول لکل ما یمکن إن یدخل فیه. و علی أی حال، بعد القول بأن العام المخصص حقیقه فی الباقی علی ما بیناه لا یبقی شک فی حجیته فی الباقی. و أیما یقع الشک علی تقدیر القول بالمجازیه، فقد نقول إنه حجه فی الباقی علی هذا التقدیر و قد لا نقول. لا إنه کل من یقول بالمجازیه یقول بعدم الحجیه، کما توهم ذلک بعضهم.
5 - هل یسری إجمال المخصص إلی العام؟
هل یسری إجمال المخصص إلی العام؟
کان البحث السابق و هو (حجیه العام فی الباقی) فی فرض إن الخاص مبین لا إجمال فیه و إنما الشک فی تخصیص غیره ما علم خروجه عن الخاص. و علینا الآن إن نبحث عن حجیه العام فی فرض إجمال الخاص. و الإجمال علی نحوین.
1 - (الشبهه المفهومیه) - و هی فی فرض الشک فی نفس مفهوم الخاص بأن کان مجملا، نحو قوله (ع): (کل ماء طاهر إلا ما تغیر طعمه أو لونه أو ریحه) الذی یشک فیه إن المراد من التغیر خصوص التغیر الحسی أو ما یشمل التغیر التقدیری. و نحو قولن: (أحسن الظن إلا بخالد) الذی یشک فیه إن المراد من خالد هو خالد بن بکر أو خالد بن سعد، مثلا.
2 - (الشبهه المصداقیه) و هی فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد العام فی الخاص مع وضوح مفهوم الخاص، بأن کان مبینا لا إجمال فیه، کما
ص 137
إذا شک فی مثال الماء السابق إن ماء معینا، أتغیر بالنجاسه فدخل فی حکم الخاص أم لم یتغیر فهو لا یزال باقیا علی طهارته. و الکلام فی الشبهتین یختلف اختلافا بین. فلنفرد لکل منهما بحثا مستقلا.
(أ - الشبهه المفهومیه) الدوران فی الشبهه المفهومیه (تاره) یکون بین الأقل و الأکثر، کالمثال الأول، فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خصوص التغیر الحسی أو یعم التقدیری، (فالأقل) هو التغیر الحسی و هو المتیقن. (و الأکثر) هو الأعم منه و من التقدیری. (وأخری) یکون بین المتباینین کالمثال الثانی، فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خالد بن بکر و بین خالد بن سعد و لا قدر متیقن فی البین. ثم علی کل من التقدیرین، أما إن یکون المخصص متصلا أو منفصلا. و الحکم فی المقام یختلف باختلاف هذه الأقسأم الأربعه فی الجمله، فلنذکرها بالتفصیل:
1، 2 - فیما إذا کان المخصص (متصلا) سواء کان الدوران فیه بین الأقل الأکثر أو بین المتباینین، فإن الحق فیه إن إجمال المخصص یسری إلی العام أی إنه لا یمکن التمسک بأصاله العموم لإدخال المشکوک فی حکم العام. و هو واضح علی ما ذکرناه سابقا من إن المخصص المتصل من نوع قرینه الکلام المتصله، فلا ینعقد للعام ظهور إلا فیما عدا الخاص، فإذا کان الخاص مجملا سری أجماله إلی العام، لأن ما عدا الخاص غیر معلوم، فلا ینعقد للعام ظهور فیما لم یعلم خروجه عن عنوان الخاص.
3 - فی الدوران بین (الأقل و الأکثر) إذا کان المخصص (منفصلا) فإن الحق فیه إن إجمال الخاص لا یسری إلی العام، أی إنه یصح التمسک بأصاله العموم لإدخال ما عدا الأقل فی حکم العام. و الحجه فیه واضحه بناء علی م تقدم فی الفصل الثانی من إن العام المخصص بالمنفصل ینعقد له ظهور فی
ص 138
العموم و إذا کان یقدم علیه الخاص فمن باب تقدیم أقوی الحجتین فإذا کان الخاص مجمل فی الزائد علی القدر المتیقن منه، فلا یکون حجه فی الزائد، لأنه - حسب الفرض - مجمل لا ظهور له فیه و إنما تنحصر حجیته فی القدر المتیقن و هو الأقل. فکیف یزاحم العام المنعقد ظهوره فی الشمول لجمیع أفراده التی منها القدر المتیقن من الخاص و منه القدر الزائد علیه المشکوک دخوله فی الخاص. فإذا خرج القدر المتیقن بحجه أقوی من العام یبقی القدر الزائد لا مزاحم لحجیه العام و ظهوره فیه.
4 - فی الدوران بین (المتباینین) إذا کان المخصص (منفصلا)، فإن الحق فیه أن إجمال الخاص یسری إلی العام، کالمخصص المتصل، لأن المفروض حصول العلم الإجمالی بالتخصیص واقعا و إن تردد بین شیئین، فیسقط العموم عن الحجیه فی کل واحد منهما. و الفرق بینه و بین المخصص المتصل المجمل إنه فی المتصل یرتفع ظهور الکلام فی العموم رأسا و فی المنفصل المردد بین المتباینین ترتفع حجیه الظهور و إن کان الظهور البدوی باقیا، فلا یمکن التمسک بأصاله العموم فی أحد المرددین. بل لو فرض إنها تجری بالقیاس إلی أحدهما فهی تجری أیضا بالقیاس إلی الآخر و لا یمکن جریانهما معا لخروج أحدهما عن العموم قطعا، فیتعارضان و یتساقطان. و إن کان الحق إن نفس وجود العلم الإجمالی یمنع من جریان أصاله العموم فی کل منهما رأسا لا إنها تجری فیهما فیحصل التعارض ثم التساقط.
(ب - الشبهه المصداقیه) قلنا: إن الشبهه المصداقیه تکون فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد م ینطبق علیه العام فی المخصص، مع کون المخصص مبینا لا إجمال فیه و إنما الإجمال فی المصداق. فلا یدری إن هذا الفرد متصف بعنوان الخاص فخرج عن حکم العام، أم لم یتصف فهو مشمول لحکم العام، کالمثال
ص 139
المتقدم و هو الماء المشکوک تغیره بالنجاسه و کمثال الشک فی الید علی مال إنها ید عادیه أو ید أمانه، فیشک فی شمول العام لها و هو قوله صلی الله علیه و آله: (علی الید ما أخذت حتی تؤدی)، لأنها ید عادیه، أو خروجها منه لأنها ید أمانه، لما دل علی عدم ضمان ید الأمانه المخصص لذلک العموم. ربما ینسب إلی المشهور من العلماء الاقدمین القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه و لذا أفتوا فی مثال الید المشکوکه بالضمان. و قد یستدل لهذا القول: بأن انطباق عنوان العام علی المصداق المردد معلوم فیکون العام حجه فیه ما لم یعارض بحجه أقوی و أما انطباق عنوان الخاص علیه فغیر معلوم، فلا یکون الخاص حجه فیه، فلا یزاحم العام و هو نظیر ما قلناه فی المخصص المنفصل فی الشبهه المفهومیه عند الدوران بین الأقل و الأکثر. و الحق عدم جواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه فی المتصل و المنفصل معا. و دلیلنا علی ذلک: إن المخصص لما کان حجه أقوی من العام، فإنه موجب لقصر حکم العام علی باقی أفراده و رافع لحجیه العام فی بعض مدلوله. و الفرد المشکوک مردد بین دخوله فیما کان العام حجه فیه و بین خروجه عنه مع عدم دلاله العام علی دخوله فیما هو حجه فیه، فلا یکون العام حجه فیه بلا مزاحم کما قیل فی دلیلهم. و لئن کان انطباق عنوان العام علیه معلوما، فلیس هو معلوم الانطباق علیه بما هو حجه. و الحاصل، إن هناک عندنا حجتین معلومتین حسب الفرض (إحداهما) العام، هو حجه فیما عدا الخاص. (وثانیتهما) المخصص و هو حجه فی مدلوله و المشتبه مردد بین دخوله فی تلک الحجه أو هذه الحجه. و بهذا یظهر الفرق بین الشبهه المصداقیه و بین الشبهه المفهومیه فی المنفصل عند الدوران بین الأقل و الأکثر. فإن الخاص فی الشبهه المفهومیه لیس حجه إلا فی الأقل و الزائد المشکوک لیس مشکوک الدخول فیما کان الخاص معلوم الحجیه فیه بل الخاص مشکوک إنه جعل حجه فیه أم لا. و مشکوک الحجیه فی
ص 140
شیء لیس بحجه - قطعا - فی ذلک الشیء (1). و أما العام فهو حجه إلا فیما کان الخاص حجه فیه. و علیه لا یکون الأکثر مرددا بین دخوله فی تلک الحجه أو هذه الحجه، کالمصداق المردد، بل هو معلوم إن الخاص لیس حجه فیه لمکان الشک، فلا یزاحم حجیه العام فیه. و أما فتوی المشهور بالضمان فی الید المشکوکه إنها ید عادیه أو ید أمانه فلا یعلم إنها لأجل القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه و لعل لها وجها آخر لیس المقام محل ذکره.
(تنبیه) - فی جواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه
إذ کان المخصص لبیا - المقصود من المخصص (اللبی): ما یقابل اللفظی، کالإجماع و دلیل العقل اللذین هما دلیلان و لیسا من نوع الألفاظ فقد نسب إلی الشیخ المحقق الأنصاری (قدس سره) جواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه مطلقا إذا کان المخصص لبی. و تبعه جماعه من المتأخرین عنه. و ذهب المحقق شیخ أساتذتنا (صاحب الکفایه) قدس سره إلی التفصیل بین ما إذا کان المخصص اللبی مما یصح إن یتکل علیه المتکلم فی بیان مراده بأن کان عقلیا ضروریا، فإنه یکون کالمتصل، فلا ینعقد للعام ظهور فی العموم فلا مجال للتمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه - و بین ما إذا لم یکن کذلک، کما إذا
(هامش)
(1) سیأتی فی (مباحث الحجه): إن قوأم حجیه الشیء بالعلم، لأنه إنما یکون الشیء صالحا لأن یحتج به المولی علی العبد إذا کان و أصلا إلیه بالعلم، فالعلم مأخوذ فی موضوع الحجه فعند الشک فی حجیه شیء یرتفع موضوعها، فیعلم بعدم حجیته. و معنی الشک فی حجیته احتمال إنه نصبه الشارع حجه واقعا علی تقدیر و صوله. و حیث لم یصل نقطع بعدم حجیته فعلا فیزول ذلک الاحتمال البدوی عند الالتفات إلی ذلک لا إنه حین الشک فی الحجیه یقطع بعدم الحجیه و إلا للزم اجتماع الشک و القطع بشیء واحد فی إن واحد و هو محال.
ص 141
لم یکن التخصیص ضروریا علی وجه یصح إن یتکل علیه المتکلم، فإنه لا مانع من التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه، لبقاء العام علی ظهوره و هو حجه بلا مزاحم. و استشهد علی ذلک بما ذکره من الطریقه المعروفه و السیره المستمره الما لوفه بین العقلاء، کم إذا أمر المولی منهم عبده بإکرأم جیرانه و حصل القطع للعبد بأن المولی لا یرید إکرأم من کان عدوا له من الجیران، فإن العبد لیس له ألا یکرم من یشک فی عداوته و للمولی إن یؤاخذه علی عدم إکرأمه و لا یصح منه الاعتذار بمجرد احتمال العداوه، لأن بناء العقلاء و سیرتهم هی ملاک حجیه أصاله الظهور، فیکون ظهور العام - فی هذا المقام - حجه بمقتضی بناء العقلاء. و زاد علی ذلک بأنه یستکشف من عموم العام للفرد المشکوک إنه لیس فردا للخاص الذی علم خروجه من حکم العام. و مثل له بعموم قوله (لعن الله بنی فلأن قاطبه) المعلوم منه خروج من کان مؤمنا منهم فإن شک فی أیمان شخص یحکم بجواز لعنه للعموم. و کل من جاز لعنه لیس مؤمنا. فینتج من الشکل الأول (هذا الشخص لیس مؤمنا). هذا خلاصه رأی صاحب الکفایه (قدس سره) و لکن شیخنا المحقق الکبیر النائینی أعلی الله مقامه لم یرتض هذا التفصیل. و لا إطلاق رأی الشیخ قدس سره، بل ذهب إلی تفصیل آخر. (وخلاصته): إن المخصص اللبی سواء کان عقلیا ضروریا یصح إن یتکل علیه المتکلم فی مقام التخاطب، أو لم یکن کذلک، بأن کان عقلیا نظریا أو إجماعا - فإنه کالمخصص اللفظی کاشف عن تقیید المراد الواقعی فی العام: من عدم کون موضوع الحکم الواقعی باقیا علی إطلاقه الذی یظهر فیه العام فلا مجال للتمسک بالعام فی الفرد المشکوک بلا فرق بین اللبی و اللفظی، لأن المانع من التمسک بالعام مشترک بینهما و هو انکشاف تقیید موضوع الحکم واقعا. و لا یفرق فی هذه الجهه بین إن یکون الکاشف لفظی أو لبیا. و استثنی من ذلک ما إذا کان المخصص اللبی لم یستکشف منه تقیید
ص 142
موضوع الحکم واقعا، بأن کان العقل إنما أدرک ما هو ملاک حکم الشارع واقعا، أو قأم الإجماع علی کونه ملاکا لحکم الشارع (کما إذا أدرک العقل أو قأم الإجماع علی إن ملاک لعن بنی فلأن هو کفرهم) فإن ذلک لا یوجب تقیید موضوع الحکم لأن الملاک لا یصلح لتقییده، بل من العموم یستکشف وجود الملاک فی جمیعهم. فإذا شک فی وجود الملاک فی فرد یکون عموم الحکم کاشفا عن وجوده فیه. نعم لو علم بعدم وجود الملاک فی فرد یکون الفرد نفسه خارجا کما لو أخرجه المولی بالنص علیه، لا إنه یکون کالمقید لموضوع العام. و أما سکوت المولی عن بیانه، فهو أما لمصلحه أو لغفله إذا کان من الموالی العادیین. نعم لو تردد الأمر بین إن یکون المخصص کاشفا عن الملاک أو مقیدا لعنوان العام فإن التفصیل الذی ذکره صاحب الکفایه یکون وجیها. (والحاصل): إن المخصص إن أحرزنا إنه کاشف عن تقیید موضوع العام، فلا یجوز التمسک بالعموم فی الشبهه المصداقیه أبدا و إن أحرزنا إنه کاشف عن ملاک الحکم فقط من دون تقیید فلا مانع من التمسک بالعموم، بل یکون کاشفا عن وجود الملاک فی المشکوک. و إن تردد أمره و لم یحرز کونه قیدا أو ملاکا، فإن کان حکم العقل ضروریا یمکن الاتکال علیه فی التفهیم فیلحق بالقسم الأول و إن کان نظریا أو إجماعا لا یصح الاتکال علیه فیلحق بالقسم الثانی، فیتمسک بالعموم، لجواز إن یکون الفرد المشکوک قد أحرز المولی وجود الملاک فیه، مع احتمال إن ما أدرکه العقل أو قأم علیه الإجماع من قبیل الملاکات. هذا کله حکایه أقوال علمائنا فی المسأله. و إنما أطلت فی نقلها لأن هذه المسأله حادثه، أثاره شیخنا الأنصاری (قدس سره) مؤسس الأصول الحدیث. و اختلف فیها أساطین مشایخنا و نکتفی بهذا المقدار دون بیان ما نعتمد علیه من الأقوال لئلا نخرج عن الغرض الذی وضعت له الرساله. و بالاختصار إن ما ذهب إلیه الشیخ هو الأولی بالاعتماد. و لکن مع تحریر
ص 143
لقوله علی غیر ما هو المعروف عنه (1).
(هامش)
(1) و توضیح ذلک: إن کل عام ظاهر فی العموم لا بد إن یتضمن ظهورین.
1 - ظهوره فی عدم منافاه أیه صفه من الصفات أو أی عنوان من العناوین لحکمه.
2 - ظهوره فی عدم وجود المنافی أیضا. أی إنه ظاهر فی عدم المنافاه و عدم المنافی معه. فإن معنی ظهور عموم (أکرم جیرانی) - مثلا -: إنه لیس هناک صفه أو عنوان ینافی الحکم بوجوب إکرأم الجیران، نحو صفه العداوه أو الفسق أو نحو ذلک، کما إن معناه أیضا إنه لیس یوجد فی الجیران من فیه صفه أو عنوان ینافی الحکم بوجوب إکرأمه. و هذا واضح لا غبار فیه. فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور فی العموم مخصص منفصل لفظی، کما لو قال فی المثال المتقدم: (لا تکرم الأعداء من جیرانی)، فإن هذا المخصص لا شک فی إنه لا یکون ظاهر فی أمرین:
1 - إن صفه العداوه منافیه لوجوب الإکرأم:
2 - إن فی الجیران من هو علی صفه العداوه فعلا أو یتوقع منه إن یکون عدوا و إلا لو لم یوجد العدو و لا یتوقع فیهم لکان هذا التخصیص لغوا و عبثا لا یصدر من الحکیم. و علی ذلک فیکون المخصص اللفظی مزاحما للعام فی الظهورین معا، فیسقط عن الحجیه فیهما معا. فإذا شککنا فی فرد من الجیران إنه عدو أم لا، فلا مجال فیه للتمسک بالعام فی إلحاقه بحکمه، لسقوط العام عن حجیته فی شموله له، إذ یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فیما أصبح العام حجه فیه و بین دخوله فیما کان الخاص حجه فیه. أما لو کان هناک مخصص لبی، کما لو حکم العقل - مثلا - بأن العداوه تنافی وجوب الإکرأم، فإن هذا الحکم من العقل لا یتوقف علی إن یکون هناک أعداء بالفعل أو متوقعون، بل العقل یحکم بهذا الحکم سواء کان هناک أعداء أم لم یکونوا أبدا، إذ لا مجال للقول بأنه لو لم یکن هناک أعداء لکان حکم العقل لغوا و عبثا، کما هو واضح بأدنی تأمل و التفات. و علیه، فالحکم العقلی هذا لا یزاحم الظهور الثانی العام، أعنی ظهوره فی عدم المنافی، فظهوره الثانی هذا یبقی بل مزاحم. فإذا شککنا فی فرد من الجیران إنه عدو أم لا فلا مانع من التمسک بالعام فی إدخاله فی حکمه، لأنه لا یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فی هذه الحجه أو هذه الحجه، إذ المخصص اللبی حسب الفرض لا یقتضی وجود المنافی و لیس حجه فیه، أما العام فهو حجه فیه بلا مزاحم.
ص 144
6 - لا یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص
لا شک فی إن بعض عمومات القران الکریم و السنه الشریفه ورد لها مخصصات منفصله شرحت المقصود من تلک العمومات. و هذ معلوم من طریقه صاحب الشریعه و الأئمه الأطهار علیهم الصلاه و السلأم حتی قیل: (م من عام الا و قد خص). و لذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأیهم فی الأحکام، لأن فی الکتاب المجید و السنه عاما و خاصا و مطلقا و مقیدا. و هذه الأمور لا تعرف إلا من طریق آل البیت علیهم السلأم. و هذا ما أوجب التوقف فی التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص و الیأس من وجود المخصص، لجواز إن یکون هذا العام من العمومات التی لها مخصص موجود فی السنه أو فی الکتاب لم یطلع علیه من وصل إلیه العام. و قد نقل عدم الخلاف بل الإجماع علی عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص و الیأس. و هو الحق. و السر فی ذلک واضح لما قدمناه، لأنه إذا کانت طریقه الشارع فی بیان مقاصده تعتمد علی القرائن المنفصله لا یبقی اطمئنان بظهور العام فی عمومه فإنه یکون ظهورا بدویا. و للشارع الحجه علی المکلف إذا قصر فی الفحص عن المخصص.
(هامش)
= فظهر من هذا البیان إن الفرق عظیم بین المخصص اللبی و المخصص اللفظی من هذه الناحیه، لأنه فی المخصص اللبی یبقی العام حجه فی ظهوره الثانی من دون إن یکون المختص متعرضا له و لا یسقط العام عن الحجیه فی ظهوره إلا بمقدار المزاحمه لا أکثر. و هذا بخلاف المخصص اللفظی فإنه ظاهر فی الأمرین معا کما قدمناه، فیکون مزاحما للعام فیهما معا. و لا فرق فی المخصص اللبی بین إن یکون ضروریا أو یکون غیر ضروری و لا بین إن یکون کاشفا عن تقیید موضوع العام أو کاشفا عن ملاک الحکم، فإنه فی جمیع هذه الصور لا یقتضی وجود المنافی. و بهذا التحریر للمسأله یتجلی مرأم الشیخ الأعظم إنه الأولی بالاعتماد.
ص 145
أما إذا بذل وسعه و فحص عن المخصص فی مظانه، حتی حصل له الاطمئنان بعدم وجوده فله الأخذ بظهور العام. و لیس للشارع حجه علیه فیما لو کان هناک مخصصا واقعا، لم یتمکن المکلف من الوصول إلیه عاده بالفحص بل للمکلف إن یحتج فیقول:
إنی فحصت عن المخصص فلم أظفر به و لو کان مخصص هناک کان ینبغی بیانه علی وجه لو فحصنا عنه عاده لوجدناه فی مظانه. و إلا فلا حجه فیه علینا. و هذا الکلام جار فی کل ظهور، فإنه لا یجوز الأخذ به الا بعد الفحص عن القرائن المنفصله. فإذا فحص المکلف و لم یظفر بها فله إن یأخذ بالظهور و یکون حجه علیه. و من هنا نستنتج قاعده عامه تأتی فی محلها و نستوفی البحث عنها إن شاء الله تعالی و المقام من صغریاتها و هی: (إن أصاله الظهور لا تکون حجه إلا بعد الفحص و الیأس عن القرینه). أما بیان مقدار الفحص الواجب أهو الذی یوجب الیأس علی نحو القطع بعدم القرینه أو علی نحو الظن الغالب و الاطمئنان بعدمها؟ ؟ ، فذلک موکول إلی محله. و المختار کفایه الاطمئنان. و الذی یهون الخطب فی هذه العصور المتأخره أن علمائنا قدس الله تعالی أرواحهم قد بذلوا جهودهم علی تعاقب العصور فی جمع الأخبار و تبویبها و البحث عنها و تنقیحها فی کتب الأخبار و الفقه، حتی إن الفقیه أصبح الآن یسهل علیه الفحص عن القرائن بالرجوع إلی مظانها المهیئه، فإذا لم یجده بعد الفحص یحصل له القطع غالبا بعدمها.
7 - تعقیب العام بضمیر یرجع إلی بعض أفراده
قد یرد عام ثم ترد بعده جمله فیها ضمیر یرجع إلی بعض أفراد العام بقرینه خاصه. مثل قوله تعالی (2: 282) (والمطلقات یتربصن بأنفسهن ثلاثه قروء. . ) إلی قوله:
(وبعولتهن أحق بردهن فی ذلک) فإن المطلقات عامه للرجعیات و غیرها و لکن الضمیر فی بعولتهن یراد به خصوص الرجعیات.
ص 146
فمثل هذا الکلام یدور فیه الأمر بین مخالفتین للظاهر، أما:
1 - مخالفه ظهور العام فی العموم، بأن یجعل مخصوصا بالبعض الذی یرجع إلیه الضمیر. و أما:
2 - مخالفه ظهور الضمیر فی رجوعه إلی ما تقدم علیه من المعنی الذی دل علیه اللفظ بأن یکون مستعمل علی سبیل الاستخدام، فیراد منه البعض و العام یبقی علی دلالته علی العموم - فأی المخالفتین أولی؟ وقع الخلاف علی أقوال ثلاثه: (الأول) - إن أصاله العموم هی المقدمه، فیلتزم بالمخالفه الثانیه. (الثانی) - إن أصاله عدم الاستخدام هی المقدمه، فیلتزم بالمخالفه الأولی. (الثالث) - عدم جریان الأصلین معا و الرجوع إلی الأصول العملیه. أما عدم جریان أصاله العموم فلوجود ما یصلح إن یکون قرینه فی الکلام و هو عود الضمیر علی البعض، فلا ینعقد ظهور العام فی العموم. و أما إن أصاله عدم الاستخدام لا تجری فلأن الأصول اللفظیه یشترط فی جریانها - کما سبق أول الکتاب - إن یکون الشک فی مراد المتکلم، فلو کان المراد معلوما - کما فی المقام - و کان الشک فی کیفیه الاستعمال، فلا تجری قطعا. و الحق إن أصاله العموم جاریه و لا مانع منها، لأن ننکر إن یکون عود الضمیر إلی بعض أفراد العام موجبا لصرف ظهور العموم، إذ لا یلزم من تعین البعض من جهه مرجعیه الضمیر بقرینه إن یتعین إراده البعض من جهه حکم العام الثابت له بنفسه لأن الحکم فی الجمله المشتمله علی الضمیر غیر الحکم فی الجمله المشتمله علی العام و لا علاقه بینهما، فلا یکون عود الضمیر علی بعض العام من القرائن التی تصرف ظهوره عن عمومه. و اعتبر ذلک فی المثال، فلو قال المولی: (العلماء یجب إکرأمهم) ثم قال:
(وهم یجوز تقلیدهم) و أرید من ذلک (العدول) بقرینه، فإنه واضح فی هذا المثال إن تقیید الحکم الثانی بالعدول لا یوجب تقیید الحکم الأول بذلک، بل لیس فیه إشعار به. و لا یفرق فی ذلک بین إن یکون التقیید بمتصل کما فی مثالنا أو
ص 147
بمنفصل کما فی الآیه.
8 - تعقیب الاستثناء لجمل متعدده
قد ترد عمومات متعدده فی کلأم واحد ثم یتعقبها استثناء فی أخرها فیشک حینئذ فی رجوع الاستثناء لخصوص الجمله الأخیره أو لجمیع الجمل. مثاله قوله تعالی: (وَ الَّذینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَهِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانینَ جَلْدَهً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَهً أَبَداً وَ أُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذینَ تابُوا ) فإنه یحتمل إن یکون هذا الاستثناء من الحکم الأخیر فقط و هو فسق هؤلاء. و یحتمل إن یکون استثناء منه و من الحکم بعدم قبول شهادتهم و الحکم بجلدهم الثمانین. و اختلف العلماء فی ذلک علی أربعه أقوال:
1 - ظهور الکلام فی رجوع الاستثناء إلی خصوص الجمله الأخیره و إن کان رجوعه إلی غیر الأخیره ممکنا، ولکنه یحتاج إلی قرینه علیه.
2 - ظهوره فی رجوعه إلی جمیع الجمل. و تخصیصه بالأخیره فقط هو الذی یحتاج إلی الدلیل.
3 - عدم ظهوره فی واحد منها و إن کان رجوعه إلی الأخیره متیقنا علی کل حال. أما ما عدا الأخیره فتبقی مجمله لوجود ما یصلح للقرینه فل ینعقد لها ظهور فی العموم، فلا تجری أصاله العموم فیها.
4 - التفصیل بین ما إذا کان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبه لم یتکرر ذکره و قد ذکر فی صدر الکلام مثل قولک: (أحسن إلی الناس و احترمهم و اقض حوائجهم إلا الفاسقین) - و بین ما إذا کان الموضوع متکررا ذکره لکل جمله کالآیه الکریمه المتقدمه و إن کان الموضوع فی المعنی واحدا فی الجمیع. فإن کان من قبیل الأول فهو ظاهر فی رجوعه إلی الجمیع لأن الاستثناء إنما هو من الموضوع باعتبار الحکم و الموضوع لم یذکر إلا فی صدر الکلام فقط، فلا بد من رجوع الاستثناء إلیه، فیرجع إلی الجمیع. و إن کان من قبیل
ص 148
الثانی، فهو ظاهر فی الرجوع إلی الأخیره، لأن الموضوع قد ذکر فیها مستقلا فقد أخذ الاستثناء محله و یحتاج تخصیص الجمل السابقه إلی دلیل آخر مفقود بالفرض، فیتمسک بأصاله عمومها. و أما ما قیل: إن المقام من باب اکتناف الکلام بما یصلح لأن یکون قرینه، فلا ینعقد للجمل الأولی ظهور فی العموم - فلا وجه له، لأنه لما کان المتکلم حسب الفرض قد کرر الموضوع بالذکر و اکتفی باستثناء واحد و هو یأخذ محله بالرجوع إلی الأخیره، فلو أراد إرجاعه إلی الجمیع لوجب إن ینصب قرینه علی ذلک و إلا کان مخل ببیانه. و هذا (القول الرابع) هو أرجح الأقوال و به یکون الجمع بین کلمات العلماء: فمن ذهب إلی القول برجوعه إلی خصوص الأخیره، فلعله کان ناظرا إلی مثل الآیه المبارکه التی تکرر فیها الموضوع. و من ذهب إلی القول برجوعه إلی الجمیع فلعله کان ناظرا إلی الجمل التی لم یذکر فیها الموضوع إلا فی صدر الکلام. فیکون النزاع علی هذا لفظیا و یقع التصالح بین المتنازعین.
9 - التخصیص العام بالمفهوم
(المفهوم) ینقسم کما تقدم إلی الموافق و المخالف، فإذا ورد عام و مفهوم أخص مطلقا، فلا کلأم فی تخصیص العام بالمفهوم إذا کان (مفهوما موافقا)، مثاله قوله تعالی: (أوفوا بالعقود) فإنه عام یشمل کل عقد یقع باللغه العربیه و غیرها، فإذا ورد دلیل علی اعتبار إن یکون العقد بصیغه الماضی فقد قیل إنه یدل بالأولویه علی اعتبار العربیه فی العقد، لأنه لما دل علی عدم صحه العقد بالمضارع من العربیه، فلئن لم یصح من لغه أخری فمن طریق أولی. و لا شک إن مثل هذا المفهوم إن ثبت فإنه یخصص العام المتقدم، لأنه کالنص أو أظهر من عموم العام، فیقدم علیه. و أما التخصیص (بالمفهوم المخالف) فمثاله قوله تعالی: (إن الظن لا یغنی عن الحق شیئا) الدال بعمومه علی عدم اعتبار کل ظن حتی الظن الحاصل من خبر العادل. و قد وردت أیه أخری هی: (إن جاءکم فاسق بنبأ فتبینو. . ) الداله بمفهوم الشرط علی جواز الأخذ بخبر غیر الفاسق بغیر تبین.
ص 149
فهل یجوز تخصیص ذلک العام بهذا المفهوم المخالف؟ قد اختلفوا علی أقوال: فقد قیل بتقدیم العام و لا یجوز تخصیصه بهذا المفهوم. و قیل بتقدیم المفهوم. و قیل بعدم تقدیم أحدهما علی الآخر فیبقی الکلام مجملا. و فصل بعضهم تفصیلات کثیره یطول الکلام علیه. (والسر فی هذا الخلاف) إنه لما کان ظهور المفهوم المخالف لیس من القوه بحیث یبلغ درجه ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق - وقع الکلام فی إنه أقوی من ظهور العام فیقدم علیه، أو إن العام أقوی فهو المقدم، أو أنهما متساویان فی درجه الظهور فل یقدم أحدهما علی الآخر، أو إن ذلک یختلف باختلاف المقامات. و الحق إن المفهوم لم کان أخص من العام حسب الفرض فهو قرینه عرفا علی المراد من العام و القرینه تقدم علی ذی القرینه و تکون مفسره لما یراد من ذی القرینه و لا یعتبر إن یکون ظهورها أقوی من ظهور ذی القرینه. نعم لو فرض إن العام کان نصا فی العموم فإنه یکون هو قرینه علی المراد من الجمله ذات المفهوم فلا یکون لها مفهوم حینئذ. و هذا أمر آخر.
10 - تخصیص الکتاب العزیز بخبر الواحد
یبدو من الصعب علی المبتدئ إن یؤمن لأول وهله بجواز تخصیص العام الوارد فی القران الکریم بخبر الواحد، نظرا إلی إن الکتاب المقدس إنم هو وحی منزل من الله لا ریب فیه و الخبر ظنی یحتمل فیه الخطأ و الکذب، فکیف یقدم علی الکتاب. و لکن سیره العلماء من القدیم علی العمل بخبر الواحد إذا کان مخصصا للعام القرانی، بل لا تجد علی الأغلب خبرا معمولا به من بین الأخبار التی بأیدینا فی المجأمیع إلا و هو مخالف لعام أو مطلق فی القران و لو مثل عمومات الحل و نحوها. بل علی الظاهر إن مسأله تقدیم الخبر الخاص علی الآیه القرانیه العامه من المسائل المجمع علیها من غیر خلاف بین علمائنا، فما السر فی ذلک مع قلناه؟ نقول: لا ریب فی إن القران الکریم - و إن کان قطعی السند - فیه
ص 150
متشابه و محکم (نص علی ذلک القران نفسه) و المحکم نص و ظاهر و الظاهر منه عام و مطلق. کما لا ریب أیضا فی إنه ورد فی کلأم النبی و الأئمه علیهم الصلاه و السلأم ما یخصص کثیرا من عمومات القران و ما یقید کثیرا من مطلقاته و ما یقوم قرینه علی صرف جمله من ظواهره. و هذا قطعی لا یشک فیه أحد. فإن کان الخبر قطعی الصدور فلا کلأم فی ذلک و إن کان غیر قطعی الصدور و قد قأم الدلیل القطعی علی إنه حجه شرعا، لأنه خبر عادل مثلا و کان مضمون الخبر أخص من عموم الآیه القرانیه - فیدور الأمر بین إن نطرح الخبر بمعنی إن نکذب راویه و بین إن نتصرف بظاهر القران، لأنه لا یمکن التصرف بمضمون الخبر، لأنه نص أو أظهر و لا بسند القران لأنه قطعی. و مرجع ذلک إلی الدوران - فی الحقیقه - بین مخالفه الظن بصدق الخبر و بین مخالفه الظن بعموم الآیه. أو فقل یدور الأمر بین طرح دلیل حجیه الخبر و بین طرح أصاله العموم، فأی الدلیلین أولی بالطرح؟ و أیهما أولی بالتقدیم؟ فنقول: لا شک إن الخبر صالح لأن یکون قرینه علی التصرف فی ظاهر الکتاب، لأنه بدلالته ناظر و مفسر لظاهر الکتاب بحسب الفرض. و علی العکس من ظاهر الکتاب، فإنه غیر صالح لرفع الید عن دلیل حجیه الخبر لأنه لا علاقه له فیه من هذه الجهه - حسب الفرض - حتی یکون ناظرا إلیه و مفسرا له. فالخبر لسانه لسان المبین للکتاب، فیقدم علیه. و لیس الکتاب بظاهره بصدد بیان دلیل حجیه الخبر حتی یقدم علیه. و إن شئت فقل: إن الخبر بحسب الفرض قرینه علی الکتاب و الأصل الجاری فی القرینه - و هو هنا أصاله عدم کذب الراوی - مقدم علی الأصل الجاری فی ذی القرینه و هو هن أصاله العموم.
11 - الدوران بین التخصیص و النسخ
الدوران بین التخصیص و النسخ
اعلم إن العام و الخاص المنفصل یختلف حالهما من جهه العلم بتأریخهما معا أو بتأریخ أحدهما، أو الجهل بهما معا: فقد یقال فی بعض الأحوال بتعیین
ص 151
إن یکون الخاص ناسخا للعام أو منسوخا له، أو مخصصا إیاه. و قد یقع الشک فی بعض الصور و لتفصیل الحال نقول: إن الخاص و العام من ناحیه تأریخ صدورهما لا یخلوان من خمس حالات، فأما إن یکونا معلومی التأریخ، أو مجهولی التأریخ، أو أحدهما مجهولا و الآخر معلوما. هذه ثلاث صور. ثم المعلوم تاریخهما: أما إن یعلم تقارنهما عرفا أو یعلم تقدم العام أو یعلم تأخر العام. فتکون الصور خمسا:
(الصوره الأولی)
إذا کانا معلومی التأریخ مع العلم بتقارنهما عرفا، فإنه لا مجال لتوهم النسخ فیهما.
(الصوره الثانیه)
إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم العام، فهذه علی صورتین:
1 - إن یکون ورود الخاص قبل العمل بالعام. و الظاهر إنه لا إشکال حینئذ فی حمله علی التخصیص بغیر کلأم، أما لأن النسخ لا یکون قبل وقت العمل بالمنسوخ کما قیل و أما لأن الأولی فیه التخصیص کما سیأتی فی الصوره الآتیه.
2 - إن یکون وروده بعد وقت العمل بالعام. و هذه الصوره هی أشکل الصور و هی التی وقع فیها الکلام فی إن الخاص یجب إن یکون ناسخا، أو یجوز إن یکون مخصصا و لو فی بعض الحالات. و مع الجواز یتکلم حینئذ فی إن الحمل علی التخصیص هو الأولی، أو الحمل علی النسخ. فالذی یذهب إلی وجوب إن یکون الخاص ناسخ فهو ناظر إلی إن العام لما ورد وحل وقت العمل به بحسب الفرض، فتأخیر الخاص عن وقت العمل لو کان مخصصا و مبینا لعموم العام یکون من باب تأخیر البیان عن وقت الحاجه و هو
ص 152
قبیح من الحکیم، لأن فیه إضاعه للأحکام و لمصالح العباد بلا مبرر. فوجب إن یکون ناسخا للعام و العام باق علی عمومه یجب العمل به إلی حین ورود الخاص فیجب العمل ثانیا علی طبق الخاص. و أما من ذهب إلی جواز کونه مخصصا، فلعله ناظر إلی أن العام یجوز أن یکون واردا لبیان حکم ظاهری صوری لمصلحه اقتضت کتمان الحکم الواقعی و لو مصلحه التقیه، أو مصلحه التدرج فی بیان الأحکام کما هو المعلوم من طریقه النبی صلی الله علیه و آله فی بیان أحکام الشریعه، مع إن الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیه الثابته للأشیاء بعناوینها الأولیه إنما هو علی طبق الخاص. فإذا جاء الخاص یکون کاشفا عن الحکم الواقعی، فیکون مبینا للعام و مخصصا له و أما الحکم العام الذی ثبت أولا ظاهرا و صوره إن کان قد ارتفع و أنتهی أمده، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه و لیس هو من باب النسخ. و إذا جاز إن یکون العام واردا علی هذا النحو من بیان الحکم ظاهرا و صوره، فإن ثبت ذلک کان الخاص مخصصا أی کان کاشفا عن الواقع قطعا. و إن ثبت إنه فی صدد بیان الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیه الثابته للأشیاء بعناوینه الأولیه، فلا شک فی إنه یتعین کون الخاص ناسخا له. و أما لو دار الأمر بینهما إذ لم یقم دلیل علی تعیین أحدهما، فأیهما أرجح فی الحمل؟ فنقول: الأقرب إلی الصواب هو الحمل علی التخصیص. و (الوجه فیه) إن أصاله العموم بما هی لا تثبت أکثر من إن م یظهر من العام هو المراد الجدی للمتکلم و لا شک إن الحکم الصوری الذی نسمیه بالحکم الظاهری کالواقع مراد جدی للمتکلم لأنه مقصود بالتفهیم، فالعام لیس ظاهرا إلا فی إن المراد الجدی هو العموم سواء کان العموم حکما واقعیا أو صوریا. أما إن الحکم واقعی فلا یقتضیه الظهور أبدا حتی یثبت بأصاله العموم، لا سیما إن المعلوم من؟ ؟ طریقه صاحب الشریعه هو بیان العمومات مجرده عن قرائن التخصیص و یکشف المراد الواقعی منه بدلیل منفصل، حتی اشتهر
ص 153
القول بأنه (ما من عام إلا و قد خص) کما سبق. و علیه فلا دلیل من أصاله العموم علی إن الحکم واقعی حتی نلتجئ إلی الحمل علی النسخ، بل إراده الحکم الواقعی من العام علی ذلک الوجه یحتاج إلی مؤنه بیان زائده أکثر من ظهور العموم. و لأجل هذا قلنا: إن الحمل علی التخصیص أقرب إلی الصواب من الحمل علی النسخ و إن کان کل منهما ممکن.
(الصوره الثالثه)
إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم الخاص، فهذه أیضا علی صورتین:
1 - إن یرد العام قبل وقت العمل بالخاص، فلا ینبغی الإشکال فی کون الخاص مخصصا.
2 - إن یرد بعد وقت العمل بالخاص، فلا مجال لتوهم وجوب الحمل علی النسخ من جهه قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجه، لأنه من باب تقدیم البیان قبل وقت الحاجه و لا قبح فیه أصلا. و مع ذلک قیل بلزوم الحمل علی النسخ و لعل نظر هذا القائل إلی إن أصاله العموم جاریه و لا مانع منها الا احتمال إن یکون الخاص المتقدم مخصصا و قرینه علی العام و لکن أیضا یحتمل إن یکون منسوخا بالعام، فلا یحرز إنه من باب القرینه. و لا شک إن الخاص المنفصل إنما یقدم علی العام لأنه أقوی الحجتین و قرینه علیه. و مع هذ الاحتمال لا یکون الخاص المنفصل أقوی فی الظهور من العام. (قلت): الاصوب إن یحمل علی التخصیص کالصوره السابقه، لما تقدم من إن العام لا یدل علی أکثر من إن المراد جدی و لا یدل فی نفسه علی إن الحکم واقعی تابع للمصالح الواقعیه الثابته للأشیاء بعناوینها الأولیه. و إنما یکون العام ناسخا للخاص إذا کانت دلالته علی هذا النحو و إلا فالعمومات الوارده فی الشریعه علی الأغلب لیست کذلک. و أما احتمال النسخ، فل یقلل من ظهور الخاص فی نفسه قطعا، کما لا یرفع حجیته فیما هو ظاهر فیه، فلا یخرجه عن کونه صالحا لتخصیص العام، فیقدم علیه، لأنه أقوی فی نفسه ظهور.
ص 154
بل یمکن إن یقال:
إن العام اللاحق للخاص لا ینعقد له ظهور فی العموم إلا بودی بالنسبه إلی من لا یعلم بسبق الخاص، لجواز إن یعتمد المتکلم فی بیان مراده علی سبقه، فیکون المخصص السابق کالمخصص المتضل أو قرینه کال الحالیه، فلا یکون العام ظاهرا فی العموم حتی یتوهم إنه ظاهر فی ثبوت الحکم الواقعی.
(الصورتان الرابعه و الخأمسه)
إذا کانا مجهولی التاریخ أو أحدهما فقط کان مجهولا، فإنه یعلم الحال فیهما مما تقدم، فیحمل علی التخصیص بلا کلأم. و لا وجه لتوهم النسخ لا سیما بعد إن رجحنا التخصیص فی جمیع الصور و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان.
ص 155
الباب السادس: المطلق و المقید و فیه ست مسائل
اشاره
الباب السادس: المطلق و المقید و فیه ست مسائل:
المسأله الأولی - معنی المطلق و المقید
المسأله الثانیه - الإطلاق و التقیید متلازمان
المسأله الثالثه - الإطلاق فی الجمل
المسأله الرابعه - هل الإطلاق بالوضع؟
المسأله الخأمسه - مقدمات الحکمه
المسأله السادسه - المطلق و المقید المتنافیان
المسأله الأولی - معنی المطلق و المقید
المسأله الأولی - معنی المطلق و المقید
عرفوا المطلق بأنه (ما دل علی معنی شائع فی جنسه) و یقابله المقید. و هذا التعریف قدیم بحثوا عنه کثیرا و أحصوا علیه عده مؤاخذات یطول شرحها. و لا فائده فی ذکرها ما دام إن الغرض من مثل هذا التعریف هو تقریب المعنی الذی وضع له اللفظ، لأنه من التعاریف اللفظیه. و الظاهر إنه لیس للأصولیین اصطلاح خاص فی لفظی المطلق و المقید، بل هما مستعملان بما لهما من المعنی فی اللغه، فإن المطلق مأخوذ من الإطلاق و هو الإرسال و الشیوع و یقابله التقیید تقابل الملکه و عدمها و الملکه التقیید و الإطلاق عدمها و قد تقدم ص 66. غایه الأمر إن إرسال کل شیء بحسبه و ما یلیق به. فإذا نسب الإطلاق و التقیید إلی اللفظ - کما هو المقصود فی المقام - فإنما یراد ذلک بحسب ماله من دلاله علی المعنی. فیکونان وصفین للفظ باعتبار المعنی. و من موارد استعمال لفظ المطلق نستطیع إن نأخذ صوره تقریبیه لمعناه. فمثلا عندما نعرف العلم الشخصی و المعرف بلأم العهد لا یسمیان مطلقین باعتبار معناهما، لأنه لا شیوع و لا إرسال فی شخص معین - لا ینبغی إن نظن إنه ل یجوز إن یسمی العلم الشخصی مطلقا، فإنه إذا قال الأمر: (أکرم محمدا) و عرفنا إن لمحمد أحوالا مختلفه و لم یقید الحکم بحال من الأحوال نستطیع إن نعرف إن لفظ محمد هنا أو هذا الکلام بمجموعه یصح إن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال و إن لم یکن له شیوع باعتبار معناه الموضوع له.
ص 158
أذن للأعلام الشخصیه و المعرف بلأم العهد إطلاق فلا یختص المطلق بماله معنی شایع فی جنسه کاسم الجنس و نحوه. و کذلک عندما نعرف إن العام لا یسمی مطلقا، فلا ینبغی إن نظن إنه لا یجوز إن یسمی مطلقا أبدا، لأنا نعرف إن ذلک إنما هو بالنسبه إلی أفراده أم بالنسبه إلی أحوال أفراده غیر المفرده فإنه لا مضایقه فی إن نسمیه مطلقا. أذن ل مانع من شمول تعریف المطلق المتقدم (وهو ما دل علی معنی شایع فی جنسه) للعام باعتبار أحواله، لا باعتبار أفراده. و علی هذا فمعنی المطلق هو شیوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من المعنی و أحواله و لکن لا علی إن یکون ذلک الشیوع مستعملا فیه اللفظ کالشیوع المستفاد من وقوع النکره فی سیاق النفی و إلا کان الکلام عاما ل مطلقا.
المسأله الثانیه - الإطلاق و التقیید متلازمان
المسأله الثانیه - الإطلاق و التقیید متلازمان
أشرنا إلی التقابل بین الإطلاق و التقیید من باب تقابل الملکه و عدمها، لأن الإطلاق هو عدم التقیید فیما من شأنه إن یقید. فیتبع الإطلاق التقیید فی الأمکان، أی إنه إذا أمکن التقیید فی الکلام و فی لسان الدلیل أمکن الإطلاق و لو أمتنع استحال الإطلاق. بمعنی إنه لا یمکن فرض استکشاف الإطلاق و أرادته من کلأم المتکلم فی مورد لا یصح التقیید. بل یکون مثل هذا الکلام لا مطلقا و لا مقیدا و إن کان فی الواقع إن المتکلم لا بد إن یرید أحدهما. و قد تقدم مثاله فی بحث التوصلی و التعبدی ص 69، إذ قلنا: إن امتناع تقیید الأمر بقصد الامتثال یستلزم امتناع إطلاقه بالنسبه إلی هذا القید. و ذکرنا هناک کیف یمکن استکشاف إراده الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الکلام الواحد.
المسأله الثالثه - الإطلاق فی الجمل
المسأله الثالثه - الإطلاق فی الجمل
الإطلاق لا یختص بالمفردات - کما یظهر من کلمات الأصولیین - إذ مثلوا للمطلق باسم الجنس و علم الجنس و النکره، بل یکون فی الجمل أیضا کإطلاق صیغه أفعل الذی یقتضی استفاده الوجوب العینی و التعیینی و النفسی، فإن
ص 159
الإطلاق فیها إنما هو من نوع إطلاق الجمله. و مثله إطلاق الجمله الشرطیه فی استفاده الانحصار فی الشرط. و لکن محل البحث فی المسائل الآتیه خصوص الألفاظ المفرده و لعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار إن لیس هناک ضابط کلی لمطلقاتها و إن کان الأصح إن بحث مقدمات الحکمه یشملها. و قد بحث عن إطلاق بعض الجمل فی مناسباتها کإطلاق صیغه أفعل و الجمله الشرطیه و نحوها.
المسأله الرابعه - هل الإطلاق بالوضع؟
المسأله الرابعه - هل الإطلاق بالوضع؟
لا شک فی إن الإطلاق فی الأعلام بالنسبه إلی الأحوال کما تقدمت الإشاره إلیه - لیس بالوضع، بل إنما یستفاد من مقدمات الحکمه. و کذلک إطلاق الجمل و ما شابهها - أیضا - لیس بالوضع بل بمقدمات الحکمه. و هذا لا خلاف فیه. و إنما الذی وقع فیه البحث هو إن الإطلاق فی أسماء الأجناس و ما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدمات الحکمه؟ أی إن أسماء الأجناس هل هی موضوعه لمعانیها بما هی شایعه و مرسله علی وجه یکون الإرسال أی الإطلاق مأخوذا فی المعنی الموضوع له اللفظ - کما نسب إلی المشهور من القدماء قبل سلطان العلماء - أو إنها موضوعه لنفس المعانی بما هی و الإطلاق یستفاد من دال آخر و هو نفس تجرد اللفظ من القید إذا کانت مقدمات الحکمه متوفره فیه؟ - و هذا القول الثانی أول من صرح به فیما نعلم سلطان العلماء فی حاشیته علی معالم الأصول و تبعه جمیع من تأخر عنه إلی یومنا هذا. و علی القول الأول یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا و علی القول الثانی یکون حقیقه. و الحق ما ذهب إلیه سلطان العلماء، بل قیل إن نسبه القول الأول إلی المشهور مشکوک فیها. و لتوضیح هذا القول و تحقیقه ینبغی بیان أمور ثلاثه
ص 160
تنفع فی هذا الباب و فی غیر هذا الباب (1). و بها تکشف للطالب ما وقع للعلماء الأعلام من اختلاف فی التعبیر فی الرأی و النظر. و هذه الأمور التی ینبغی بیانها هی کما یلی:
1 - اعتبارات الماهیه:
المشهور إن للماهیه ثلاثه اعتبارات، إذا قیست إلی ما هو خارج عن ذاتها، ما إذا قیست الرقبه إلی الإیمان عند الحکم علیها بحکم ما کوجوب العتق. و هی:
1 - إن تعتبر الماهیه مشروطه بذلک الأمر الخارج. و تسمی حینئذ (الماهیه بشرط شیء) کما إذا کان یجب عتق الرقبه المؤمنه، أی بشرط کونها مؤمنه.
2 - إن تعتبر مشروطه بعدمه. و تسمی (الماهیه بشرط لا) (2)، کما إذا کان القصر واجبا فی الصلاه علی المسافر غیر العاصی فی سفره، أی بشرط عدم کونه عاصیا لله فی سفره. فاخذ عدم العصیان قیدا فی موضوع الحکم.
3 - إلا تعتبر مشروطه بوجوده و لا بعدمه. و تسمی (الماهیه ل بشرط)، کوجوب الصلاه علی الإنسان باعتبار کونه حرا مثلا، فإن الحریه غیر معتبره ل بوجودها و لا بعدمها فی وجوب الصلاه، لأن الإنسان بالنظر إلی الحریه فی وجوب الصلاه علیه غیر مشروط بالحریه و لا بعدمها فهو لا بشرط القیاس إلیها. و یسمی هذا الاعتبار الثالث (اللا بشرط القسمی) فی قبال (اللا بشرط
(هامش)
(1) و قد اضطررنا إلی الخروج عن الطریقه التی رسمناها لأنفسنا فی هذا الکتاب فی الاختصار. و نعتقد إن الطالب المبتدئ الذی ینتهی إلی هنا یکون علی استعداد کاف لفهم هذه الأبحاث. و اضطررنا لهذا البحث باعتبار ماله من حاجه ماسه فی فهم الطالب لکثیر من الأبحاث التی قد ترد علیه فیما یأتی.
(2) و قد تقال (الماهیه بشرط لا شیء) و یقصدون بذلک الماهیه المجرده علی وجه یکون کل ما یقارنها یعتبر زائدا علیه.
ص 161
المقسمی) الآتی ذکره. و إنما سمی قسمیا لأنه قسم فی مقابل القسمین الأولیین أی و البشرط لا. و هذا ظاهر لا بحث فیه. * * * ثم إن لهم اصطلاحین آخرین معروفین:
1 - قولهم: (الماهیه المهمله).
2 - قولهم: (الماهیه لا بشرط مقسمی). أفهذان اصطلاحان و تعبیران لمدلول واحد، أو هما اصطلاحان مختلفان فی المعنی؟ . و الذی یلجئنا إلی هذ الاستفسار ما وقع من الارتباک فی التعبیر عند کثیر من مشایخنا الأعلام، فقد یظهر من بعضهم أنهما اصطلاحان لمعنی واحد، کما هو ظاهر (کفایه الأصول) تبعا لبعض الفلاسفه الأجلاء. و لکن التحقیق لا یساعد علی ذلک، بل هما اصطلاحان مختلفان. و هذا جوابنا علی الاستفسار. و توضیح ذلک: إنه من المتسالم علیه الذی لا اختلاف فیه و لا اشتباه أمران: (الأول) - إن المقصود من (الماهیه المهمله): الماهیه من حیث هی، أی نفس الماهیه بم هی مع قطع النظر عن جمیع ما عداها، فیقتصر النظر علی ذاتها و ذاتیاتها. (الثانی) - إن المقصود من الماهیه (لا بشرط مقسمی): الماهیه المأخوذه لا بشرط التی تکون مقسم للاعتبارات الثلاثه المتقدمه و هی - أی الاعتبارات الثلاثه - الماهیه بشرط شیء و بشرط لا و لا بشرط قسمی. و من هنا سمی (مقسما). و إذا ظهر ذلک فلا یصح إن یدعی إن الماهیه بما هی تکون بنفسها مقسما للاعتبارات الثلاثه. و ذلک لأن الماهیه لا تخلو من حالتین. و هذا إن ینظر إلیها بما هی هی غیر مقیسه إلی ما هو خارج عن ذاتها و إن ینظر إلیها
ص 162
مقیسه إلی ما هو خارج عن ذاتها. و لا ثالث لهما و فی الحاله الأولی تسمی (الماهیه المهمله) کما هو مسلم. و فی الثانیه لا یخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثه. و علی هذا فالملاحظه الأولی مباینه لجمیع الاعتبارات الثلاثه و تکون قسیمه لها، فکیف یصح إن تکون مقسما لها و لا یصح أن یکون الشیء مقسما لاعتبارات نقیضه، لأن الماهیه من حیث هی کما اتضح معناها ملاحظتها غیر مقیسه إلی الغیر و الاعتبارات الثلاثه ملاحظته مقیسه إلی الغیر. علی إن اعتبار الماهیه غیر مقیسه اعتبار ذهنی له وجود مستقل فی الذهن، فکیف یکون مقسما لوجودات ذهنیه أخری مستقله و المقسم یجب إن یکون موجود بوجود أقسأمه و لا یعقل إن یکون له وجود فی مقابل وجودات الأقسأم و إلا کان قسیم لها لا مقسما. و علیه، فنحن نسلم إن الماهیه المهمله معناها اعتبارها (لا بشرط) و لکن لیس هو المصطلح علیه باللابشرط المقسمی فإن لهم فی (لا بشرط) - علی هذ - ثلاثه اصطلاحات:
1 - لا بشرط أی شیء خارج عن الماهیه و ذاتیاتها و هی الماهیه بما هی هی التی یقتصر فیها النظر علی ذاتها و ذاتیاتها و هی الماهیه المهمله.
2 - لا بشرط مقسمی و هو الماهیه التی تکون مقسما للاعتبارات الثلاثه أی الماهیه المقیسه إلی م هو خارج عن ذاتها. و المقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شیء من الاعتبارات الثلاثه، أی ل بشرط اعتبار البشرط شیء و اعتبار البشرط لا و اعتبار اللابشرط، لا إن المراد بلا بشرط هنا، لا بشرط مطلقا من کل قید و حیثیه. و لیس هذا اعتبار ذهنیا فی قبال هذه الاعتبارات، بل لیس له وجود فی عالم الذهن الا بوجود واحد من هذه الاعتبارات ول تعین له مستقبل غیر تعیناتها و إلا لما کان مقسما.
3 - لا بشرط قسمی و هو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهیه المقیسه إلی ما هو خارج عن ذاته.
ص 163
فأتضح إن (الماهیه المهمله) شیء و (اللابشرط المقسمی) شیء آخر. کما اتضح أیضا إن الثانی لا معنی لأن یجعل من اعتبارات الماهیه علی وجه یثبت حکم للماهیه باعتباره، أو یوضع له لفظ بحسبه.
2 - اعتبار الماهیه عند الحکم علیها:
واعلم إن الماهیه إذ حکم علیها فأما إن یحکم بذاتیاتها و أما إن یحکم علیها بأمر خارج عنها. و لا ثالث لهما. و علی (الأول) - فهو علی صورتین -
1 - إن یکون الحکم بالحمل الأولی و ذلک فی الحدود التأمه خاصه -
2 - إن یکون بالحمل الشایع و ذلک عند الحکم علیها ببعض ذاتیاتها کالجنس وحده أو الفصل وحده. و علی کلا الصورتین فإن النظر إلی الماهیه مقصور علی ذاتیاتها غیر متجاوز فیه إلی ما هو خارج عنها. و هذا لا کلأم فیه. و علی (الثانی)، فإنه لا بد من ملاحظتها مقیسه إلی ما هو خارج عنها فتخرج بذلک عن مقام ذاتها وحدها من حیث هی، أی عن تقررها الذاتی الذی لا ینظر فیه الا إلی ذاته و ذاتیاتها. و هذا واضح لأن قطع النظر عن کل ما عداها لا یجتمع مع الحکم علیها بأمر خارج عن ذاتها، لأنهما متناقضان. و علیه لو حکم علیها بأمر خارج عنها و قد لوحظت مقیسه إلی هذا الغیر، فلا بد إن تکون معتبره بأحد الاعتبارات الثلاثه المتقدمه، إذ یستحیل إن یخلو الواقع من أحدها - کما تقدم . و لا معنی لاعتبارها باللابشرط المقسمی، لما تقدم إنه لیس هو تعینا مستقلا فی قبال تلک التعینات، بل هو مقسم له. ثم إن هذا الغیر - أی الأمر الخارج عن ذاتها - الذی لوحظت الماهیه مقیسه إلیه ل یخلو أما إن یکون نفس المحمول أو شیئا آخر، فإن کان هو المحمول فیتعین إن تؤخذ الماهیه بالقیاس إلیه لا بشرط قسمی، لعدم صحه الاعتبارین الآخرین: أما أخذها بشرط شیء، أی بشرط المحمول، فلا یصح ذلک دائما لأنه
ص 164
یلزم إن تکون القضیه ضروریه دائما لاستحاله انفکاک المحمول عن الموضوع بشرط المحمول. علی إن اخذ المحمول فی الموضوع یلزم منه حمل الشیء علی نفسه و تقدمه علی نفسه و هو مستحیل الا إذا کان هناک تغایر بحسب الاعتبار کحمل الحیوان الناطق علی الإنسان فإنهما متغایران باعتبار الإجمال و التفصیل. و أما أخذها بشرط لا، أی بشرط عدم المحمول، فلا یصح لأنه یلزم التناقض، فإن الإنسان بشرط عدم الکتابه یستحیل حمل الکتابه علیه. و إن کان هذا الغیر الخارج هو غیر المحمول، فیجوز إن تکون الماهیه حینئذ مأخوذه بالقیاس إلیه بشرط شیء کجواز تقلید المجتهد بشرط العداله، أو بشرط لا، کوجوب صلاه الظهر یوم الجمعه بشرط عدم وجود الأمأم، أو لا بشرط، کجواز السلأم علی المؤمن مطلقا بالقیاس إلی العداله مثلا، أی لا بشرط وجودها و لا بشرط عدمها. کم یجوز إن تکون مهمله غیر مقیسه إلی شیء غیر محمولها. * * * و لکن قد یستشکل فی کل ذلک بأن هذه الاعتبارات الثلاثه اعتبارات ذهنیه، لا موطن لها الا الذهن، فلو تقیدت الماهیه بأحدها عندما تؤخذ موضوعا للحکم، للزم إن تکون جمیع القضایا ذهنیه عدا حمل الذاتیات التی قد اعتبرت فیها الماهیه من حیث هی و لبطلت القضایا الخارجیه و الحقیقیه، مع إنها عمده القضایا، بل لاستحال فی التکالیف الامتثال، لأن ما هو موطنه الذهن یمتنع إیجاده فی الخارج. و هذا الإشکال و جیه لو کان الحکم علی الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه علی وجه یکون الاعتبار قیدا فی الموضوع أو نفسه هو الموضوع. و لکن لیس الأمر کذلک، فإن الموضوع فی کل تلک القضایا هو ذات الماهیه المعتبره و لکن لا بقید الاعتبار، بمعنی إن الموضوع فی بشرط شیء الماهیه المقتریه بذلک الشیء، لا المقترنه بلحاظه و اعتباره و فی بشرط لا الماهیه المقترنه بعدمه لا بلحاظ عدمه و فی لا بشرط الماهیه غیر الملاحظ معها الشیء
ص 165
ولا عدمه، لا الملاحظه بعدم لحاظ الشیء و عدمه و إلا لکانت الماهیه معتبره فی الجمیع بشرط شیء فقط أی بشرط اللحاظ و الاعتبار. نعم هذه الاعتبارات هی المصححه لموضوعیه الموضوع علی الوجه اللازم الذی یقتضیه واقع الحکم، لا إنها مأخوذه قیدا فیه حتی تکون جمیع القضایا ذهنیه. و لو الأمر کذلک لکان الحکم بالذاتیات أیضا قضیه ذهنیه لأن اعتبار الماهیه من حیث هی أیضا اعتبار ذهنی. و مما یقرب ما قلناه من کون الاعتبار مصطلحا لموضوعیه الموضوع لا مأخوذا فیه مع إنه لا بد منه عند الحکم بشیء، إن کل موضوع و محمول لا بد من تصوره فی مقام الحمل و إلا لاستحال الحمل و لکن هذه اللا بدیه لا تجعل التصور قیدا للموضوع أو المحمول و إنما التصور هو المصحح للحمل و بدونه ل یمکن الحمل. و کذلک عند استعمال اللفظ فی معناه، لا بد من تصور اللفظ و المعنی و لکن التصور لیس قیدا للفظ و لا للمعنی، فلیس اللفظ دالا بما هو متصور فی الذهن و إن کانت دلالته فی ظرف التصور و لا المعنی مدلولا بما هو متصور و إن کانت مدلولیته فی ظرف تصوره. و یستحیل إن یکون التصور قیدا للفظ أو المعنی و مع ذلک لا یصح الاستعمال بدونه، فالتصور مقوم للاستعمال لا للمستعمل فیه و لا للفظ. و کذلک هو مقوم للحمل و مصحح له، لا للمحمول و لا للمحمول علیه. و علی هذا یتضح ما نحن بصدد بیانه و هو إنه إذا أردنا إن نضع اللفظ للمعنی لا یعقل إن نفسر اللحاظ علی ذات المعنی بما هو هو مع قطع النظر عن کل ما عداه، لأن الوضع من المحمولات الوارده علیه، فلا بد إن یلاحظ المعنی حینئذ مقیسا إلی ما هو خارج عن ذاته، فقد یؤخذ بشرط شیء و قد یؤخذ بشرط ل و قد یؤخذ لا بشرط. و لا یلزم إن یکون الموضوع له هو المعنی بماله من الاعتبار الذهنی، بل الموضوع له نفس المعتبر و ذاته لا بما هو معتبر و الاعتبار مصحح للوضع.
ص 166
3 - الأقوال فی المسأله:
قلنا فیما سبق: إن المعروف عن قدماء الأصحاب إنهم یقولون بأن أسماء الأجناس موضوعه للمعانی المطلقه، علی وجه یکون الإطلاق قیدا للموضوع له، فلذلک ذهبوا إلی إن استعماله فی المقید مجاز و قد صور هذا القول علی نحوین: (الأول) - إن الموضوع له المعنی بشرط الإطلاق علی وجه یکون اعتباره من باب اعتباره بشرط شیء. (الثانی) - إن الموضوع له المعنی المطلق أی المعتبر لا بشرط. و قد أورد علی هذ القول بتصوریه - کما تقدم - بأنه یلزم علی کلا التصورین إن یکون الموضوع له موجود ذهنیا، فتکون جمیع القضایا ذهنیه، فلو جعل اللفظ بماله من معناه موضوعا فی القضیه الخارجیه أو الحقیقیه وجب تجریده عن هذا القید الذهنی، فیکون مجازا دائما فی القضایا المتعارفه. و هذا یکذبه الواقع. و لکن نحن قلنا: إن هذا الإیراد إنما یتوجه إذا جعل الاعتبار قیدا فی الموضوع له. أما لو جعل الاعتبار مصححا للوضع فلا یلزم هذا الإیراد کما سبق. هذا قول القدماء و أما المتأخرون ابتدءا من سلطان العلماء (رحمه الله) فإنهم جمیعا اتفقوا علی إن الموضوع له ذات المعنی لا المعنی المطلق حتی لا یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا. و هذا القول بهذا المقدار من البیان واضح. و لکن العلماء من أساتذتنا اختلفوا فی تأدیه هذا المعنی بالعبارات الفنیه مما أوجب الارتباک علی الباحث وإغلاق طریق البحث فی المسأله. لذلک التجأنا إلی تقدیم المقدمتین السابقتین لتوضیح هذه الاصطلاحات و التعبیرات الفنیه التی وقعت فی عباراتهم. و اختلفوا فیها علی أقوال.
1 - منهم من قال:
إن الموضوع له هو الماهیه المهمله المبهمه أی الماهیه من حیث هی.
ص 167
2 - و منهم من قال:
إن الموضوع له الماهیه المعتبره باللابشرط المقسمی
3 - و منهم من جعل التعبیر الأول نفس التعبیر الثانی.
4 - و منهم من قال:
إن الموضوع له ذات المعنی لا الماهیه المهمله و لا الماهیه المعتبره باللابشرط المقسمی، ولکنه ملاحظ حین الوضع باعتبار (اللابشرط القسمی) علی إن یکون هذا الاعتبار مصححا للموضوع لا قیدا للموضوع له. و علیه یکون هذا القول نفس قول القدماء علی التصویر الثانی الا إنه لا یلزم منه إن یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا. و لکن المنسوب إلی القدماء إنهم یقولون: بأنه مجاز فی المقید فینحصر قولهم فی التصویر الأول علی تقدیر صحه النسبه إلیهم. و یتضح حال هذه التعبیرات أو الأقوال من المقدمتین السابقتین فإنه یعرف منهم: (أولا) إن الماهیه بما هی هی غیر الماهیه باعتبار اللابشرط المقسمی، لأن النظر فیه علی الأول مقصور علی ذاتها و ذاتیاتها، بخلافه علی الثانی إذ تلاحظ مقیسه إلی الغیر. و بهذا یظهر بطلان القول الثالث. (ثانیا) إن الوضع حکم من الأحکام و هو محمول علی الماهیه خارج عن ذاتها و ذاتیاتها، فلا یعقل إن یلاحظ الموضوع له بنحو الماهیه بم هی هی، لأنه لا تجتمع ملاحظتها مقیسه إلی الغیر و ملاحظتها مقصوره علی ذاته و ذاتیاتها. و بهذا یظهر بطلان القول الأول. (ثالثا) إن اللابشرط المقسمی لیس اعتبار مستقلا فی قبال الاعتبارات الثلاثه، لأن المفروض إنه مقسم لها و لا تحقق للمقسم ال بتحقق أحد أنواعه کما تقدم، فکیف یتصور إن یحکم باعتبار اللابشرط المقسمی بل ل معنی لهذا علی ما تقدم توضیحه. و بهذا یظهر بطلان القول الثانی. فتعین القول الرابع و هو إن الموضوع له ذات المعنی ولکنه حین الوضع یلاحظ المعنی بنحو اللابشرط القسمی. و هو یطابق القول المنسوب إلی القدماء علی التصویر الثانی کما اشرنا إلیه، فل اختلاف و یقع التصالح بین القدماء
ص 168
والمتأخرین إذا لم یثبت عن القدماء إنهم یقولون إنه مجاز فی المقید و هو مشکوک فیه. بیان هذا القول الرابع: إن ذات المعنی لما أراد الواضع إن یحکم علیه بوضع لفظ له، فمعناه إنه قد لاحظه مقیسا إلی الغیر، فهو فی هذا الحال لا یخرج عن کونه معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه للماهیه. و إذ یراد تسریه الوضع لذات المعنی بجمیع أطواره و حالاته و قیوده لا بد إن یعتبر علی نحو اللابشرط القسمی. و لا منافاه بین کون الموضوع له ذات المعنی و بین کون ذات المعنی ملحوظا فی مرحله الوضع بنحو اللابشرط القسمی لأن هذا اللحاظ و الاعتبار الذهنی - کما تقدم - صرف طریق إلی الحکم علی ذات المعنی و هو المصحح للموضوع له. و حین الاستعمال فی ذات المعنی لا یجب إن یکون المعنی ملحوظا بنحو اللابشرط القسمی، بل یجوز إن یعتبر بأی اعتبار کان ما دام الموضوع له ذات المعنی فیجوز فی مرحله الاستعمال إن یقصر النظر علی نفسه و یلحظه بما هو هو و یجوز إن یلحظه مقیسا إلی الغیر فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه. و ملاحظه ذات المعنی بنحو اللابشرط القسمی حین الوضع تصحیحا له لا توجب إن تکون قیدا للموضوع له. و علیه فلا یکون الموضوع له موجودا ذهنیا، إذا کان له اعتبار اللابشرط القسمی حین الوضع، لأنه لیس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر، بل ذات المعتبر، کما إن استعماله فی المقید لا یکون مجازا لما تقدم إنه یجوز إن یلحظ ذات المعنی حین الاستعمال مقیسا إلی الغیر، فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه التی منها اعتباره بشرط شیء و هو المقید.
المسأله الخأمسه - مقدمات الحکمه
المسأله الخأمسه - مقدمات الحکمه
لما ثبت إن الألفاظ موضوعه لذات المعانی، لا للمعانی بما هی مطلقه، فلا بد فی إثبات إن المقصود من اللفظ المطلق لتسریه الحکم إلی تمأم الأفراد و المصادیق من قرینه خاصه، أو قرینه عامه تجعل الکلام فی نفسه ظاهرا فی أراد الإطلاق.
ص 169
وهذه القرینه العامه إنما تحصل إذا توفرت جمله مقدمات تسمی (مقدمات الحکمه). و المعروف إنها ثلاث. (الأولی) - أمکان الإطلاق و التقیید بأن یکون متعلق الحکم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحکم به قابلا للانقسأم، فلو لم یکن قابلا للقسمه الا بعد فرض تعلق الحکم به کما فی باب قصد القربه، فإنه یستحیل فیه التقیید، فیستحیل فیه الإطلاق، کما تقدم فی بحث التعبدی و التوصلی. . و هذا واضح. (الثانیه) - عدم نصب قرینه علی التقیید لا متصله و لا منفصله، لأنه مع القرینه المتصله لا ینعقد ظهور للکلأم الا فی المقید و مع المنفصله ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق، ولکنه یسقط عن الحجیه لقیأم القرینه المقدمه علیه و الحاکمه، فیکون ظهوره ظهورا بدویا، کما قلنا فی تخصیص العموم بالخاص المنفصل و لا تکون للمطلق الدلاله التصدیقیه الکاشفه عن مراد المتکلم، بل الدلاله التصدیقیه إنما هی علی إراده التقیید واقعا. (الثالثه) - إن یکون المتکلم فی مقام البیان، فإنه لو لم یکن فی هذا المقام بأن کان فی مقام التشریع فقط أو کان فی مقام الأهمال أما رأسا أو لأنه فی صدد بیان حکم آخر، فیکون فی مقام الأهمال من جهه مورد الإطلاق - و سیأتی مثاله - فإنه فی کل ذلک لا ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق: أما فی مقام التشریع بأن کان فی مقام بیان الحکم لا للعمل به فعلا بل لمجرد تشریعه، فیجوز ألا یبین تمأم مراده، مع إن الحکم فی الواقع مقید بقید لم یذکره فی بیانه انتظارا لمجیء وقت العمل فلا یحرز إن المتکلم فی صدد بیان جمیع مراده. و کذلک إذا کان المتکلم فی مقام الأهمال رأسا، فإنه لا ینعقد معه ظهور فی الإطلاق، کما لا ینعقد للکلأم ظهور فی أی مرأم. و مثله ما إذا کان فی صدد حکم آخر مثل قوله تعالی: (فکلوا مما أمسکن) الوارد فی مقام بیان حل صید الکلاب المعلمه من جهه کونه میته و لیس هو فی مقام بیان مواضع الأمساک إنها تتنجس فیجب تطهیرها أم لا، فلم یکن هو فی مقام بیان هذه الجهه، فلا ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق من هذه الجهه.
ص 170
ولو شک فی إن المتکلم فی مقام البیان أو الأهمال، فإن الأصل العقلائی یقتضی بأن یکون فی مقام البیان، فإن العقلاء کما یحملون المتکلم علی إنه ملتفت غیر غافل و جاد غیر هازل عند الشک فی ذلک، کذلک یحملونه علی إنه فی مقام البیان و التفهیم، لا فی مقام الأهمال و الإیهأم. * * * و إذا تمت هذه المقدمات الثلاث فإن الکلام المجرد عن القید یکون ظاهرا فی الإطلاق و کاشفا عن إن المتکلم لا یرید المقید و إلا لو کان قد أراده واقعا، لکان علیه البیان و المفروض إنه حکیم ملتفت جاد غیر هازل و هو فی مقام البیان و لا مانع من التقیید حسب الفرض. و إذا لم یبین و لم یقید کلأمه فیعلم إنه أراد الإطلاق و إلا لکان مخلا بغرضه. فأتضح من ذلک إن کل کلأم صالح للتقیید و لم یقیده المتکلم مع کونه حکیما ملتفتا جادا و فی مقام البیان و التفهیم، فإنه یکون ظاهرا فی الإطلاق و یکون حجه علی المتکلم و السأمع.
تنبیهان:
التنبیه الاول: القدر المتیقن فی مقام التخاطب
إن الشیخ المحقق صاحب الکفایه (قدس سره) أضاف إلی مقدمات الحکمه مقدمه أخری غیر ما تقدم و هی ألا یکون هناک قدر متیقن فی مقام التخاطب و المحاوره و إن کان لا یضر وجود القدر المتیقن خارجا فی التمسک بالإطلاق. و مرجع ذلک إلی إن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاوره یکون بمنزله القرینه اللفظیه علی التقیید، فل ینعقد للفظ ظهور فی الإطلاق مع فرض وجوده. و لتوضیح البحث نقول: إن کون المتکلم فی مقام البیان یتصور علی نحوین:
1 - إن یکون المتکلم فی صدد بیان تمأم موضوع حکمه، بأن یکون غرض المتکلم
ص 171
یوقف علی إن یبین للمخاطب و یفهمه ما هو تمأم الموضوع و إن ما ذکره هو تمأم موضوعه ل غیره.
2 - إن یکون المتکلم فی صدد بیان تمأم موضوع الحکم واقعا و لو لم یفهم المخاطب إنه تمأم الموضوع، فلیس له غرض الا بیان ذات موضوع الحکم بتمأمه حتی یحصل من المکلف الامتثال و إن لم یفهم المکلف تفصیل الموضوع بحدوده. فإن کان المتکلم فی مقام البیان علی (النحو الأول)، فلا شک فی إن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاوره لا یضر فی ظهور المطلق فی إطلاقه فیجوز التمسک بالإطلاق، لأنه لو کان القدر المتیقن المفروض هو تمأم الموضوع لوجب بیانه و ترک البیان اتکالا علی وجود القدر المتیقن إخلال بالغرض لأنه لا یکون مجرد ذلک بیانا لکونه تمأم الموضوع. و إن کان المتکلم فی مقام البیان علی (النحو الثانی)، فإنه یجوز إن یکتفی بوجود القدر المتیقن فی مقام التخاطب لبیان تمأم موضوعه واقعا، مادام إنه لیس له غرض الا إن یفهم المخاطب ذات الموضوع بتمأمه لا بوصف التمأم أی إن یفهم ما هو تمأم الموضوع بالحمل الشائع. و بذلک یحصل التبلیغ للمکلف و یمتثل فی الموضوع الواقعی، لأنه هو المفهوم عنده فی مقام المحاوره و لا یجب فی مقام الامتثال إن یفهم إن الذی فعله هو تمأم الموضوع أو الموضوع اعم منه و من غیره. (مثلا): لو قال المولی (اشتر اللحم) و کان القدر المتیقن فی مقام المحاوره هو لحم الغنم و کان هو تمأم موضوعه واقعا، فإن وجود هذا القدر المتیقن کاف لانبعاث المکلف و شرائه للحم الغنم، فیحصل موضوع حکم المولی، فلو إن المولی لیس له غرض أکثر من تحقیق موضوع حکمه، فیجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن لتحقیق غرضه و لبیانه و لا یحتاج إلی إن یبین إنه تمأم الموضوع أما لو کان غرضه أکثر من ذلک بأن کان غرضه إن یفهم المکلف تحدید الموضوع بتمأمه، فلا یجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن و إلا لکان مخلا بغرضه، فإذا لم یبین و أطلق الکلام، استکشف إن تمأم موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتیقن و غیره.
ص 172
إذا عرفت هذا التقدیر فینبغی إن نبحث عما ینبغی للأمر إن یکون بصدد بیانه، هل إنه علی النحو الأول أو الثانی؟ و الذی یظهر من الشیخ صاحب الکفایه إنه لا ینبغی من الأمر أکثر من النحو الثانی، نظرا إلی إنه إذا کان بصدد بیان موضوع حکمه حقیقه کفاه ذلک لتحصیل مطلوبه و هو الامتثال. و لا یجب علیه مع ذلک بیان إنه تمأم الموضوع. نعم إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاوره و کان تمأم الموضوع هو المطلق فقد یظن المکلف إن القدر المتیقن هو تمأم الموضوع و إن المولی أطلق کلأمه اعتمادا علی وجوده - فإن المولی دفعا لهذا الوهم یجب علیه إن یبین إن المطلق هو تمأم موضوعه و إلا کان مخلا بغرضه. و من هذا ینتج إنه إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاوره و أطلق المولی و لم یبین إنه تمأم الموضوع، فإنه یعرف منه إن موضوعه هو القدر المتیقن. هذ خلاصه ما ذهب إلیه فی الکفایه مع تحقیقه و توضیحه. و لکن شیخنا النائینی رحمه الله علی ما یظهر من التقریرات لم یرتضه و الأقرب إلی الصحه ما فی الکفایه. و لا نطیل بذکر هذه المناقشه و الجواب عنها.
التنبیه الثانی: الانصراف:
اشتهر إن انصراف الذهن من اللفظ إلی بعض مصادیق معناه أو بعض أصنافه یمنع من التمسک بالإطلاق و إن تمت مقدمات الحکمه، مثل انصراف المسح فی آیتی التیمم و الوضوء إلی المسح بالید و بباطنها خاصه. و الحق إن یقال:
إن انصراف الذهن إن کان ناشئا من ظهور اللفظ فی المقید بمعنی إن نفس اللفظ ینصرف منه المقید لکثره استعماله فیه و شیوع أرادته منه - فلا شک فی إنه حینئذ لا مجال للتمسک بالإطلاق، لأن هذا الظهور یجعل اللفظ بمنزله المقید بالتقیید اللفظی و معه لا ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق حتی یتمسک بأصاله الإطلاق التی هی مرجعها فی الحقیقه إلی أصاله الظهور.
ص 173
وأما إذا کان الانصراف غیر ناشئ من اللفظ، بل کان من سبب خارجی، کغلبه وجود الفرد المنصرف إلیه أو تعارف الممارسه الخارجیه له، فیکون ما لوفا قریبا إلی الذهن من دون إن یکون للفظ تأثیر فی هذا الانصراف، کانصراف الذهن من لفظ الماء فی العراق - مثل - إلی ماء دجله أو الفرات فالحق إنه لا أثر لهذا الانصراف فی ظهور اللفظ فی إطلاقه فلا یمنع من التمسک بأصاله الإطلاق، لأن هذا الانصراف قد یجتمع مع القطع بعدم إراده المقید بخصوصه من اللفظ. و لذا یسمی هذا الانصراف باسم (الانصراف البدوی) لزواله عند التأمل و مراجعه الذهن. و هذا کله واضح لا ریب فیه. و إنما الشأن فی تشخیص الانصراف إنه من أی النحوین، فقد یصعب التمییز أحیانا بینهما للاختلاط علی الإنسان فی منش هذا الانصراف. و ما أسهل دعوی الانصراف علی لسان غیر المتثبت و قد لا یسهل إقأمه الدلیل علی إنه من أی نوع. فعلی الفقیه إن یتثبت فی مواضع دعوی الانصراف و هو یحتاج إلی ذوق عال و سلیقه مستقیمه. و قلما تخلو أیه کریمه أو حدیث شریف فی مسأله فقهیه عن انصرافات تدعی. و هنا تظهر قیمه التضلع باللغه و فقهها و آدابها. و هو باب یکثر الابتلاء به و له الأثر الکبیر فی استنباط الأحکام من أدلتها. ألا تری إن المسح فی الآیتین ینصرف إلی المسح بالید و کون هذا الانصراف مستندا إلی اللفظ لا شک فیه و ینصرف أیضا إلی المسح بخصوص باطن الید. و لکن قد یشک فی کون هذا الانصراف مستند إلی اللفظ، فإنه غیر بعید إنه ناشئ من تعارف المسح بباطن الید لسهولته و لأنه مقتضی طبع الإنسان فی مسحه و لیس له علاقه باللفظ. و لذا إن جمله من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر الید عند تعذر المسح بباطنها تمسکا بإطلاق الآیه و لا معنی للتمسک بالإطلاق لو کان للفظ ظهور فی المقید. و أما عدم تجویزهم للمسح بظاهر الید عند الاختیار فلعله للاحتیاط، إذ إن المسح بالباطن هو القدر المتیقن و المفروض حصول الشک فی کون هذا الانصراف بدویا فلا یطمأن کل الاطمئنان بالتمسک بالإطلاق عند الاختیار و طریق النجاه هو الاحتیاط بالمسح بالباطن.
ص 174
المسأله السادسه - المطلق و المقید المتنافیان
المسأله السادسه - المطلق و المقید المتنافیان
معنی التنافی بین المطلق و المقید: إن التکلیف فی المطلق لا یجتمع و التکلیف فی المقید مع فرض الحافظه علی ظهورهما معا، أی أنهما یتکاذبان فی ظهورهما. مثل قول الطبیب مثلا: اشرب لبنا، ثم یقول:
اشرب لبن حلوا و ظاهر الثانی تعیین شرب الحلو منه. و ظاهر الأول جواز شرب غیر الحلو حسب إطلاقه. و إنما یتحقق التنافی بین المطلق و المقید إذا کان التکلیف فیهما واحد کالمثال المتقدم، فلا یتنافیان لو کان التکلیف فی أحدهما معلقا علی شیء و فی الآخر معلقا علی شیء آخر، کما إذا قال الطبیب فی المثال: إذا أکلت فاشرب لبنا و عند الاستیقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا. و کذلک لا یتنافیان لو کان التکلیف فی المطلق إلزأمیا و فی المقید علی نحو الاستحباب ففی المثال لو وجب أصل شرب اللبن، فإنه ل ینافیه رجحان الحلو منه باعتباره احد أفراد الواجب. و کذا لا یتنافیان لو فهم من التکلیف فی المقید إنه تکلیف فی وجود ثان غیر المطلوب من التکلیف الأول، کما إذ فهم فی المقید فی المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانیا بعد شرب لبن ما. إذا فهمت م سقناه لک من معنی التنافی، فنقول: لو ورد فی لسان الشارع مطلق و مقید متنافیان سواء تقدم أو تأخر و سواء کان مجیء المتأخر بعد وقت العمل بالمتقدم أو قبله، فإنه لا بد من الجمع بینهما أما بالتصرف فی ظهور المطلق فیحمل علی المقید، أو بالتصرف فی المقید علی وجه لا ینافی الإطلاق، فیبقی ظهور المطلق علی حاله. و ینبغی البحث هنا فی إنه أی التصرفین أولی بالأخذ، فنقول: هذا یختلف باختلاف الصور فیهما، فإن المطلق و المقید أما إن یکونا مختلفین فی الإثبات أو النفی و أما إن یکونا متفقین. (الأول) - إن یکونا مختلفین، فلا شک حینئذ فی حمل المطلق علی المقید، لأن المقید یکون قرینه علی المطلق، فإذا قال:
اشرب اللبن، ثم قال:
لتشرب اللبن الحأمض، فإنه یفهم منه إن المطلوب هو شرب اللبن الحلو. و هذا لا یفرق فیه بین إن یکون إطلاق المطلق بدلیا، نحو قوله:
اعتق رقبه و بین إن یکون شمولیا مثل قوله:
فی الغنم زکاه، المقید بقوله:
لیس فی الغنم المعلوفه زکاه. (الثانی) - إن یکونا متفقین و له مقامان: المقام الأول إن یکون الإطلاق بدلیا و المقام الثانی إن یکون شمولیا. فإن کان الإطلاق (بدلیا) فإن الأمر فیه یدور بین التصرف فی ظاهر المطلق بحمله علی المقید و بین التصرف فی ظاهر المقید و المعروف إن التصرف الأول هو الأولی، لأنه لو کانا مثبتین مثل قوله:
اعتق رقبه مؤمنه فإن المقید ظاهر فی إن الأمر فیه للوجوب التعیینی، فالتصرف فیه أما بحمله علی الاستحباب، أی إن الأمر بعتق الرقبه المؤمنه بخصوصها باعتبار إنها أفضل الأفراد، أو بحمله علی الوجوب التخییری أی إن الأمر یعتق الرقبه المؤمنه باعتبار إنها أحد أفراد الواجب، لا لخصوصیه فیها حتی خصوصیه الأفضلیه. و هذان التصرفان و إن کانا ممکنین، لکن ظهور المقید فی الوجوب التعیینی مقدم علی ظهور المطلق فی إطلاقه، لأن المقید صالح لأن یکون قرینه للمطلق و لعل المتکلم اعتمد علیه فی بیان مرأمه و لو فی وقت آخر لا سیما مع احتمال إن المطلق الوارد کان محفوفا بقرینه متصله غابت عنا، فیکون المقید کاشفا عنها. و إن کان الإطلاق (شمولیا) مثل قوله:
فی الغنم زکاه و قوله:
فی الغنم السائمه زکاه، فلا تتحقق المنافاه بینهما حتی یجب التصرف فی أحدهما لأن وجوب الزکاه فی الغنم السائمه بمقتضی الجمله الثانیه لا ینافی وجوب الزکاه فی غیر السائمه، الا علی القول بدلاله التوصیف علی المفهوم و قد عرفت إنه لا مفهوم للوصف. و علیه فلا منافاه بین الجملتین لنرفع بها عن إطلاق المطلق.