پایه پنجم-اصول المظفر

اصول المظفر

تعریف علم الأصول

تعریف علم الأصول:

علم أصول الفقه هو (علم یبحث فیه عن قواعد تقع نتیجتها فی طرق استنباط الحکم الشرعی). (مثاله) - إن الصلاه واجبه فی الشریعه الإسلأمیه المقدسه و قد دل علی و جوبها من القران الکریم قوله تعالی: (وإن أقیموا الصلاه). (إن الصلاه کانت علی المؤمنین کتابا موقوتا). و لکن دلاله الآیه الأولی متوقفه علی ظهور صیغه الأمر نحو (أقیموا) هنا - فی الوجوب و متوقفه أیضا علی إن ظهور القران حجه یصح الاستدلال به. و هاتان المسألتان یتکفل ببیانهما (علم الأصول). فإذا علم الفقیه من هذا العلم إن صیغه الأمر ظاهره فی الوجوب و إن ظهور القران حجه - استطاع إن یستنبط من هذه الآیه الکریمه المذکوره إن الصلاه واجبه. و هکذا فی کل حکم شرعی مستفاد من أی دلیل شرعی أو عقلی لا بد إن یتوقف استنباطه من الدلیل علی مسأله أو أکثر من مسائل هذا العلم.

ص 6

الحکم: واقعی و ظاهری. و الدلیل: اجتهادی و فقاهتی. ثم لا یخفی إن الحکم الشرعی الذی جاء ذکره فی التعریف السابق علی نحوین:

1 إن یکون ثابتا للشیء بما هو فی نفسه فعل من الأفعال، کالمثال المتقدم اعنی. وجوب الصلاه، فالوجوب ثابت للصلاه بما هی صلاه فی نفسها و فعل من الأفعال مع قطع النظر عن أی شیء آخر. و یسمی مثل هذا الحکم (الحکم الواقعی). و الدلیل الدال علیه (الدلیل الاجتهادی).

2 إن یکون ثابتا للشیء بما إنه مجهول حکمه الواقعی، کما إذا اختلف الفقهاء فی حرمه النظر إلی الأجنبیه، أو وجوب الإقأمه للصلاه. فعند عدم قیأم الدلیل علی أحد الأقوال لدی الفقیه یشک فی الحکم الواقعی الأولی المختلف فیه و لأجل ألا یبقی فی مقام العمل متحیرا لا بد له من وجود حکم آخر و لو کان عقلیا، کوجوب الاحتیاط أو البراءه أو عدم الاعتناء بالشک. و یسمی مثل هذا الحکم الثانوی (الحکم الظاهری). و الدلیل الدال علیه (الدلیل الفقاهتی) أو (الأصل العملی). و مباحث الأصول منها ما یتکفل للبحث عما تقع نتیجته فی طریق استنباط الحکم الواقعی و منها ما یقع فی طریق الحکم الظاهری. و یجمع الکل. (وقوعها فی طریق استنباط الحکم الشرعی) عدی ما ذکرناه فی التعریف. موضوع علم الأصول: إن هذا العلم غیر متکفل للبحث عن موضوع خاص، بل یبحث عن موضوعات شتی تشترک کلها فی غرضنا المهم منه و هو استنباط الحکم الشرعی. فلا وجه لجعل موضوع هذا العلم خصوص (الأدله الأربعه) فقط و هی الکتاب و السنه و الإجماع و العقل، أو بإضافه الاستصحاب، أو بإضافه القیاس و الاستحسان، کما صنع المتقدمون. و لا حاجه إلی الالتزأم بأن العلم لا بد له من موضوع یبحث عن

ص 7

عوارضه الذاتیه فی ذلک العلم، کما تسالمت علیه کلمه المنطقیین، فإن هذا لا ملزم له و لا دلیل علیه. فائدته: إن کل متشرع یعلم إنه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختیاریه الا و له حکم فی الشریعه الإسلأمیه المقدسه من وجوب أو حرمه أو نحوهما من الأحکام الخمسه. و یعلم أیضا إن تلک الأحکام لیست کلها معلومه لکل أحد بالعلم الضروری، بل یحتاج أکثرها لإثباتها إلی إعمال النظر و إقأمه الدلیل، أی إنها من العلوم النظریه. و علم الأصول هو العلم الوحید المدون للاستعانه به علی الاستدلال علی إثبات الأحکام الشرعیه، ففائدته أذن الاستعانه علی الاستدلال للأحکام من أدلتها.

المقدمه

المدخل

المقدمه

1- حقیقه الوضع

2- من الواضع؟

3 - الوضع تعیینی و تعینی

4 - أقسأم الوضع

5- استحاله القسم الرابع

6 - وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقیق المعنی الحرفی

7- الاستعمال حقیقی و مجازی

8 - الدلاله تابعه للإراده

9 - الوضع شخصی و نوعی

10 - وضع المرکبات

11- علأمات الحقیقه و المجاز

12 - الأصول اللفظیه

13 - الترادف و الاشتراک:

14 - الحقیقه الشرعیه:

تنبیهان

1 - لا یجری النزاع فی المعاملات بمعنی المسببات:

2 - لا ثمره للنزاع فی المعاملات الا فی الجمله:

تبحث عن أمور لها علاقه بوضع الألفاظ و استعمالها و دلالتها و فیها أربعه عشر مبحثا:

1- حقیقه الوضع

1- حقیقه الوضع

لاشک إن دلاله الألفاظ علی معانیها فی أیه لغه کانت لیست ذاتیه، کذاتیه دلاله الدخان - مثلا - علی وجود النار و إن توهم ذلک بعضهم، لأن لازم هذا الزعم إن یشترک جمیع البشر فی هذه الدلاله، مع إن الفارسی مثلا لا یفهم الألفاظ العربیه و لا غیرها من دون تعلم و کذلک العکس فی جمیع اللغات. و هذا واضح و علیه، فلیست دلاله الألفاظ علی معانیها الا بالجعل و التخصیص من واضع تلک الألفاظ لمعانیها. ولذ تدخل الدلاله اللفظیه هذه فی الدلاله الوضعیه.

2- من الواضع؟

2- من الواضع؟

ولکن من ذلک الواضع الأول فی کل لغه من اللغات؟ قیل: إن الواضع لا بد إن یکون شخصا واحدا یتبعه جماعه من البشر فی التفاهم بتلک اللغه. و قیل - و هو الأقرب إلی الصواب - إن الطبیعه البشریه حسب القوه المودعه من الله تعالی فیها تقتضی إفاده مقاصد الإنسان بالألفاظ،

ص 10

فیخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إراده معنی مخصوص - کما هو المشاهد من الصبیان عند أول أمرهم - فیتفاهم مع الآخرین الذین یتصلون به و الآخرون کذلک یخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم و تتألف علی مرور الزمن من مجموع ذلک طائفه صغیره من الألفاظ، حتی تکون لغه خاصه، لها قواعدها یتفاهم بها قوم من البشر. و هذه اللغه قد تتشعب بین أقوأم متباعده و تتطور عند کل قوم بما یحدث فیها من التغییر و الزیاده، حتی قد تنبثق منها لغات أخری فیصبح لکل جماعه لغتهم الخاصه. و علیه، تکون حقیقه الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنی و تخصیصه به. و مما یدل علی اختیار القول الثانی فی الواضع إنه لو کان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلک فی تاریخ اللغات و لعرف عند کل لغه واضعها.

3 - الوضع تعیینی و تعینی

3 - الوضع تعیینی و تعینی

ثم إن دلاله الألفاظ علی معانیها الأصل فیها إن تکون ناشئه من الجعل و التخصیص و یسمی الوضع حینئذ (تعیینیا). و قد تنشأ الدلاله من اختصاص و یسمی بالمعنی الحاصل هذا الاختصاص من الکثره فی الاستعمال علی درجه من الکثره إنه تألفه الأذهان بشکل إذا سمع اللفظ ینتقل السأمع منه إلی المعنی. و یسمی الوضع حینئذ (تعینیا).

4 - أقسأم الوضع

4 - أقسأم الوضع

لا بد فی الوضع من تصور اللفظ و المعنی؟ لأن الوضع حکم علی المعنی و علی اللفظ و لا یصح الحکم علی الشیء الا بعد تصوره و معرفته بوجه من الوجوه و لو علی نحو الإجمال، لأن تصور الشیء قد یکون بنفسه و قد یکون بوجهه أی بتصور عنوان عام ینطبق علیه و یشار به إلیه إذ یکون ذلک العنوان العام مرآه و کاشفا عنه کم إذا حکمت علی شبح من بعید إنه ابیض مثلا و أنت لا تعرفه بنفسه إنه أی شیء هو و أکثر ما تعرف عنه - مثلا إنه شیء من الأشیاء أو حیوان من الحیوانات. فقد صح حکمک علیه بأنه ابیض مع إنک لم تعرفه و لم تتصوره بنفسه و إنما تصورته بعنوان إنه شیء أو حیوان لا أکثر

ص 11

وأشرت به إلیه. و هذا ما یسمی فی عرفهم (تصور الشیء بوجهه) و هو کاف لصحه الحکم علی الشیء. و هذا بخلاف المجهول محضا فإنه لا یمکن الحکم علیه أبدا. و علی هذا، فإنه یکفینا فی صحه الوضع للمعنی إن نتصوره بوجهه، کما لو کنا تصورناه بنفسه. و لما عرفن إن المعنی لا بد من تصوره و إن تصوره علی نحوین - فإنه بهذا الاعتبار و باعتبار ثان هو إن المعنی قد یکون خاصا أی جزئیا و قد یکون عاما أی کلیا، نقول إن الوضع ینقسم إلی أربعه أقسأم عقلیه:

1 - إن یکون المعنی المتصور جزئیا و الموضوع له نفس الجزئی، أی إن الموضوع له معنی متصور بنفسه لا بوجهه. و یسمی هذا القسم (الوضع خاص و الموضوع له خاص).

2 - إن یکون المتصور کلیا و الموضوع له نفس ذلک الکلی أی إن الموضوع له کلی متصور بنفسه لا بوجهه. و یسمی هذا القسم (الوضع عام و الموضوع له عام).

3 - إن یکون المتصور کلیا و الموضوع له أفراد الکلی لا نفسه، أی إن الموضوع له جزئی غیر متصور بنفسه بل بوجهه و یسمی هذا القسم (الوضع عام و الموضوع له خاص).

4 - إن یکون المتصور جزئیا و الموضوع له کلیا لذلک الجزئی و یسمی هذا القسم (الوضع خاص و الموضوع له عام). إذا عرفت هذه الأقسأم المتصوره العقلیه، فنقول. لا نزاع فی أمکان الأقسأم الثلاثه الأولی، کما لا نزاع فی وقوع القسمین الأولین. و مثال الأول الأعلام الشخصیه کمحمد و علی و جعفر و مثال الثانی أسماء الأجناس کماء و سماء و نجم و إنسان و حیوان. و إنما النزاع وقع فی أمرین: الأول فی أمکان القسم الرابع و الثانی فی وقوع القسم الثالث بعد التسلیم بأمکانه. و الصحیح عندنا استحاله الرابع و وقوع

ص 12

الثالث و مثاله الحروف و أسماء الإشاره و الضمائر و الاستفهأم و نحوها علی ما سیأتی.

5- استحاله القسم الرابع

5- استحاله القسم الرابع

أما استحاله الرابع و هو الوضع الخاص و الموضوع له العام فنقول فی بیانه: إن النزاع فی أمکان ذلک ناشئ من النزاع فی أمکان إن یکون الخاص وجه و عنوانا للعام و ذلک لما تقدم إن المعنی الموضوع له لا بد من تصوره بنفسه أو بوجهه لاستحاله الحکم علی المجهول و المفروض فی هذا القسم إن المعنی الموضوع له لم یکن متصورا و إنما تصور الخاص فقط و إلا لو کان متصورا بنفسه و لو بسبب تصور الخاص کان من القسم الثانی و هو الوضع العام و الموضوع له العام. و لا کلأم فی أمکانه بل فی وقوعه کما تقدم. فلا بد حینئذ للقول بأمکان القسم الرابع من إن نفرض إن الخاص یصح إن یکون وجها من وجوه العام وجهه من جهاته حتی یکون تصوره کافیا عن تصور العام بنفسه و مغنی عنه، لأجل إن یکون تصورا للعام بوجه. و لکن الصحیح الواضح لکل مفکر إن الخاص لیس من وجوه العام بل الأمر بالعکس من ذلک، فإن العام هو وجه من وجوه الخاص وجهه من جهاته. و لذا قلنا بأمکان القسم الثالث و هو (الوضع العام و الموضوع له الخاص) لأنا إذ تصورنا العام فقد تصورنا فی ضمنه جمیع أفراده بوجه، فیمکن الوضع لنفس ذلک العام من جهه تصوره بنفسه فیکون من القسم الثانی و یمکن الوضع لأفراده من جهه تصورها بوجهها فیکون من الثالث. بخلاف الأمر فی تصور الخاص فلا یمکن الوضع معه الا لنفس ذلک الخاص و لا یمکن الوضع للعام لأنا لم نتصوره أصلا لا بنفسه بحسب الفرض و لا بوجهه إذ لیس الخاص وجها له. و یستحیل الحکم علی المجهول المطلق.

6 - وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقیق المع

6 - وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقیق المعنی الحرفی

أما وقوع القسم الثالث، فقد قلنا: إن مثاله وضع الحروف و ما یلحق بها

ص 13

من أسماء الإشاره و الضمائر و الموصولات و الاستفهأم و نحوها. و قبل إثبات ذلک لا بد من (تحقیق معنی الحرف و ما یمتاز به عن الاسم) فنقول: الأقوال فی وضع الحروف و ما یلحق بها من الأسماء ثلاثه:

1 - إن الموضوع له فی الحروف هو بعینه الموضوع له فی الأسماء المسانخه لها فی المعنی، فمعنی (من) الابتدائیه هو عین معنی کلمه الابتداء بلا فرق. و کذا معنی (علی) معنی کلمه الاستعلاء و معنی (فی) معنی کلمه الظرفیه. . و هکذا. و إنما الفرق فی جهه أخری و هی إن الحرف وضع لأجل إن یستعمل فی معناه إذا لوحظ ذلک المعنی حاله و آله لغیره، أی إذا لوحظ المعنی غیر مستقل فی نفسه و الاسم وضع لأجل إن یستعمل فی معناه إذا لوحظ مستقلا فی نفسه. مثلا - مفهوم (الابتداء) معنی واحد وضع له لفظان أحدهما لفظ (الابتداء) و الثانی کلمه (من) لکن الأول وضع له لأجل إن یستعمل فیه عندما یلاحظ المستعمل مستقلا فی نفسه، کما إذا قیل (ابتداء السیر کان سریع). و الثانی وضع له لأجل إن یستعمل فیه عندما یلاحظه المستعمل غیر مستقل فی نفسه، کم إذا قیل (سرت من النجف). فتحصل إن الفرق بین معنی الحرف و معنی الاسم إن الأول یلاحظه المستعمل حین الاستعمال آله لغیره و غیر مستقل فی نفسه و الثانی یلاحظه حین الاستعمال مستقلا، مع إن المعنی فی کلیهما واحد. و الفرق بین وضعیهما إنما هو الغایه فقط. و لازم هذا القول إن الوضع و الموضوع له فی الحروف عامان. و هذا القول منسوب إلی الشیخ الرضی نجم الأئمه و اختاره المحقق صاحب الکفایه.

2 - إن الحروف لم توضع لمعان أصلا، بل حالها حال علأمات الإعراب فی إفاده کیفیه خاصه فی لفظ آخر، فکما إن علأمه الرفع فی قولهم (حدثنا زراره) تدل علی إن زراره فاعل الحدیث کذلک (من) فی المثال المتقدم تدل علی إن النجف مبتدأ منها و السیر مبتدأ به.

ص 14

3 - إن الحروف موضوعه لمعان متبأینه فی حقیقتها و سنخها للمعانی الاسمیه، فإن المعانی الاسمیه فی حد ذاتها معان مستقله فی أنفسها و معانی الحروف لا استقلال له بل هی متقومه بغیرها. و الصحیح هذا القول الثالث. و یحتاج إلی توضیح و بیان: إن المعانی الموجوده فی الخارج علی نحوین: الأول - ما یکون موجودا فی نفسه، (کزید) الذی هو من جنس الجوهر و (قیأمه) مثلا الذی هو من جنس العرض، فإن کلا منهما موجود فی نفسه. و الفرق إن الجوهر موجود فی نفسه لنفسه و العرض موجود فی نفسه لغیره. الثانی - ما یکون موجودا لا فی نفسه، کنسبه القیأم إلی زید. و الدلیل علی کون هذ المعنی لا فی نفسه: إنه لو کان للنسب و الروابط وجودات استقلالیه، للزم وجود الرابط بینها و بین موضوعاتها، فننقل الکلام إلی ذلک الرابط و المفروض إنه موجود مستقل، فل بد له من رابط أیضا. . و هکذا ننقل الکلام إلی هذا الرابط فیلزم التسلسل و التسلسل باطل، فیعلم من ذلک إن وجود الروابط و النسب فی حد ذاته متعلق بالغیر و لا حقیقه له الا التعلق بالطرفین. ثم إن الإنسان فی مقام إفاده مقاصده کما یحتاج إلی التعبیر عن المعانی المستقله کذلک یحتاج إلی التعبیر عن المعانی غیر المستقله فی ذاتها، فحکمه الوضع تقتضی إن توضع بإزاء کل القسمین ألفاظ خاصه و الموضوع بإزاء المعانی المستقله هی الأسماء و الموضوع بإزاء المعانی غیر المستقله هی الحروف و ما یلحق بها. و هذه المعانی غیر المستقله لما کانت علی أقسأم شتی فقد وضع بإزاء کل قسم لفظ یدل علیه، أو هیئه لفظیه تدل علیه. مثلا - إذا قیل (نزحت البئر فی دارنا بالدلو) ففیه عده نسب مختلفه و معان غیر مستقله: احدها نسبه النزح إلی فاعله و الدال علیها هیئه الفعل للمعلوم و ثانیتها نسبته إلی ما وقع علیه أی مفعوله و هو البئر و الدال علیها هیئه النصب

ص 15

فی الکلمه و ثالثتها إلی المکان و الدال علیها کلمه (فی) و رابعتها نسبته إلی الآله و الدال علیها لفظ الباقی فی کلمه (بالدلو). و من هنا یعلم إن الدال علی المعانی غیر المستقله ربما یکون لفظا مستقلا کلفظه من و الی و فی. و ربما یکون هیئه فی اللفظ کهیئات المشتقات و الأفعال و هیئات الإعراب،

(النتیجه):

فقد تحقق مما بیناه إن الحروف لها معان تدل علیها کالأسماء و الفرق إن المعانی الاسمیه مستقله فی أنفسها و قابله لتصورها فی ذاتها و إن کانت فی الوجود الخارجی محتاجه إلی غیرها کالأعراض و أم المعانی الحرفیه فهی معان غیر مستقله و غیر قابله للتصور الا فی ضمن مفهوم آخر. و من هنا یشبه کل أمر مستقل بالمعنی الحرفی.

(بطلان القولین الأولین)

وعلی هذا، یظهر بطلان القول الثانی القائل إن الحروف لا معانی لها و کذلک القول الأول القائل إن المعنی الحرفی و الاسمی متحدان بالذات مختلفان باللحاظ. و یرد هذا القول أیضا إنه لو صح اتحاد المعنیین لجاز استعمال کل من الحرف و الاسم فی موضع الآخر، مع إنه لا یصح بالبداهه حتی علی نحو المجاز، فلا یصح بدل قولنا: زید فی الدار - مثلا - إن یقال زید الظرفیه الدار. و قد أجیب عن هذا الإیراد بأنه إنما لا یصح أحدهما فی موضع الآخر لأن الواضع اشترط ألا یستعمل لفظ الظرفیه الا عند لحاظ معناه مستقلا و لا یستعمل لفظ (فی) الا عند لحاظ معناه غیر مستقل و آله لغیره. ولکنه جواب غیر صحیح لأنه ل دلیل علی وجوب أتباع ما یشترطه الواضع إذا لم یکن اشتراطه یوجب اعتبار خصوصیه فی اللفظ و المعنی. و علی تقدیر إن یکون الواضع ممن تجب طاعته فمخالفته توجب العصیان ل غلط الکلام.

ص 16

(زیاده أیضاح)

إذ قد عرفت إن الموجودات (1) منها ما یکون مستقلا فی الوجود و منه ما یکون رابطا بین موجودین - فاعلم إن کل کلأم مرکب من کلمتین أو أکثر إذا ألقیت کلماته بغیر ارتباط بینهما فإن کل واحد منها کلمه مستقله فی نفسها لا ارتباط له بالأخری و إنما الذی یربط بین المفردات و یؤلفها کلأما واحدا هو الحرف أو إحدی الهیئات الخاصه. فأنت إذا قلت مثلا: إنا. کتب. قلم - لا یکون بین هذه الکلمات ربط و إنما هی مفردات صرفه منثوره. أما إذا قلت: کتبت بالقلم - کان کلأما واحدا مرتبط بعضه مع بعض مفهما للمعنی المقصود منه. و ما حصل هذا الارتباط و الوحده الکلامیه ال بفضل الهیئه المخصوصه لکتبت و حرف الباء و أل. و علیه یصح إن یقال إن الحروف هی روابط المفردات المستقله و المؤلفه للکلأم الواحد و الموحده للمفردات المختلفه، شأنها شأن النسبه بین المعانی المختلفه و الرابطه بین المفاهیم غیر المربوطه. فکما إن النسبه رابطه بین المعانی و مؤلفه بینها فکذلک الحرف الدال علیها رابط بین الألفاظ و مؤلف بینها. و الی هذا أشار سید الأولیاء أمیر المؤمنین علیه السلأم بقوله المعروف فی تقسیم الکلمات: (الاسم ما أنبأ عن المسمی و الفعل ما أنبأ عن حرکه المسمی و الحرف ما أوجد معنی فی غیره). فأشار إلی إن المعانی الاسمیه معان استقلالیه و معانی الحروف غیر مستقله فی نفسها و إنما هی تحدث الربط بین المفردات. و لم نجد فی تعاریف القوم للحرف تعریفا جأمعا صحیحا مثل هذا التعریف.

(هامش)

(1) ینبغی إن یقال للتوضیح إن الموجودات علی أربعه إنحاء: موجود فی نفسه لنفسه بنفسه و هو واجب الوجود و موجود فی نفسه لنفسه و هو الجوهر کالجسم و النفس و موجود فی نفسه لغیره بغیره و هو العرض و موجود فی غیره و هو أضعفها و هو المعنی الحرفی المعبر عنه بالرابط. فالأقسأم الثلاثه الأولی الموجودات المستقله و الرابع، عداها الذی هو المعنی الحرفی؟ ؟ الذی لا وجود له الا وجود طرفیه.

ص 17

الوضع فی الحروف عام و الموضوع له خاص

إذا اتضح جمیع ما تقدم یظهر إن کل نسبه حقیقتها متقومه بطرفیها علی وجه لو قطع النظر عن الطرفین لبطلت و انعدمت، فکل نسبه فی وجودها الرابط مباینه لأیه نسبه أخری و لا تصدیق علیها و هی فی حد ذاتها مفهوم جزئی حقیقی. و علیه لا یمکن فرض النسبه مفهوما کلیا ینطبق علی کثیرین و هی متقومه بالطرفین و إلا لبطلت و انسلخت عن حقیقه کونها نسبه. ثم إن النسب غیر محصوره فلا یمکن تصور جمیعها للواضع، فلا بد فی مقام الوضع لها من تصور معنی اسمی یکون عنوانا للنسب غیر المحصوره حاکیا عنها و لیس العنوان فی نفسه نسبه، کمفهوم لفظ (النسبه الابتدائیه) المشار به إلی أفراد النسب الابتدائیه الکلامیه. ثم یضع لنفس الأفراد غیر المحصوره التی لا یمکن التعبیر عنها الا بعنوانها. و بعباره أخری إن الموضوع له هو النسبه الابتدائیه بالحمل الأولی فلیست بنسبه حقیقه بل تکون طرفا للنسبه کما لو قلت: الابتداء کان من هذا المکان. و من هذا یعلم حال أسماء الإشاره و الضمائر و الموصولات و نحوها. فالوضع فی الجمیع عام و الموضوع له خاص.

7- الاستعمال حقیقی و مجازی

7- الاستعمال حقیقی و مجازی

استعمال اللفظ فی معناه الموضوع له (حقیقه) و استعماله فی غیره المناسب له (مجاز) و فی غیر المناسب (غلط). و هذا أمر محل وفاق. ولکنه وقع الخلاف فی الاستعمال المجازی فی إن صحته هل هی متوقفه علی ترخیص الواضع و ملاحظه العلاقات المذکوره فی علم البیان، أو إن صحته طبعیه تابعه لاستحسان الذوق السلیم، فکلما کان المعنی غیر الموضوع له مناسبا للمعنی الموضوع له و استحسنه الطبع صح استعمال اللفظ فیه و إلا فلا؟

ص 18

وإلا رجع القول الثانی، لأنا نجد صحه استعمال الأسد فی الرجل الشجاع مجازا و إن منع منه الواضع و عدم صحه استعماله مجازا فی کریه رائحه الفم - کما یمثلون - و إن رخص الواضع. و مؤید ذلک اتفاق اللغات المختلفه غالبا فی المعانی المجازیه فتری فی کل لغه یعبر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد. و هکذا فی کثیر من المجازات الشائعه عند البشر.

8 - الدلاله تابعه للإراده

8 - الدلاله تابعه للإراده

قسموا الدلاله إلی قسمین: التصوریه و التصدیقیه:

1 - (التصوریه) و هی إن ینتقل ذهن الإنسان إلی معنی اللفظ بمجرد صدوره من لافظ و لو علم إن اللافظ لم یقصده، کانتقال الذهن إلی المعنی الحقیقی عند استعمال اللفظ فی معنی مجازی، مع إن المعنی الحقیقی لیس مقصودا للمتکلم، کانتقال الذهن إلی المعنی من اللفظ الصادر من الساهی أو النائم أو الغالط. 2 - (التصدیقیه) و هی دلاله اللفظ علی إن المعنی مراد للمتکلم فی اللفظ و قاصد لاستعماله فیه. و هذه الدلاله متوقفه علی عده أشیاء (أولا) علی إحراز کون المتکلم فی مقام البیان و الإفاده و (ثانیا) علی إحراز إنه جاد غیر هازل و (ثالثا) علی إحراز إنه قاصد لمعنی کلأمه شاعر به و (رابع) علی عدم نصب قرینه علی إراده خلاف الموضوع له و إلا کانت الدلاله التصدیقیه علی طبق القرینه المنصوبه. و المعروف إن الدلاله الأولی (التصوریه) معلوله للوضع، أی إن الدلاله الوضعیه هی الدلاله التصوریه. و هذا هو مراد من یقول:

(إن الدلاله غیر تابعه للإراده بل تابعه لعلم السأمع بالوضع). و الحق إن الدلاله تابعه للإراده و أول من تنبه لذلک فیما نعلم الشیخ نصیر الدین الطوسی أعلی الله مقامه، لأن الدلاله فی الحقیقه منحصره فی الدلاله التصدیقیه و الدلاله التصوریه التی یسمونها دلاله لیست بدلاله و إن سمیت کذلک فإنه من باب التشبیه و التجوز، لأن التصوریه فی الحقیقه هی

ص 19

من باب تداعی المعانی الذی یحصل بأدنی مناسبه فتقسیم الدلاله إلی تصدیقیه و تصوریه تقسیم الشیء إلی نفسه و الی غیره. و السر فی ذلک إن الدلاله حقیقه - کما فسرناها فی کتاب المنطق الجزء الأول بحث الدلاله - هی إن یکشف الدال عن وجود المدلول، فیحصل من العلم به العلم بالمدلول، سواء کان الدال لفظا أو غیر لفظ. مثلا - إن طرقه الباب یقال إنها داله علی وجود شخص علی الباب طالب لأهل الدار، باعتبار إن المطرقه موضوعه لهذه الغایه. و تحلیل هذا المعنی إن سماع الطرقه یکشف عن وجود طالب قاصد للطلب فیحصل من العلم بالطرقه، العلم بالطارق و قصده و لذلک یتحرک السأمع إلی إجابته. لا إنه ینتقل ذهن السأمع من تصور الطرقه إلی تصور شخص ما، فإن هذا الأنتقال قد یحصل فمجرد تصور معنی الباب أو الطرقه من دون إن یسمع طرقه و لا یسمی ذلک دلاله. و لذا إن الطرقه - لو کانت علی نحو مخصوص یحصل من حرکه الهواء مثلا - لا تکون داله علی ما وضعت له المطرقه و إن خطر فی ذهن السأمع معنی ذلک. و هکذا نقول فی دلاله الألفاظ علی معانیه بدون فرق، فإن اللفظ إذا صدر من المتکلم علی نحو یجرز معه إنه جاد فیه غیر هازل و إنه عن شعور و قصد و إن غرضه البیان و الإفهأم و معنی إحراز ذلک إن السأمع علم بذلک، فإن کلأمه یکون حینئذ دالا علی وجود المعنی أی وجوده فی نفس المتکلم بوجود قصدی، فیکون علم السأمع بصدور الکلام منه یستلزم علمه بأن المتکلم قاصد لمعناه لأجل إن یفهمه السأمع. و بهذا یکون الکلام دالا کما تکون الطرقه داله. و ینعقد بهذا للکلأم ظهور فی معناه الموضوع له أو المعنی الذی أقیمت علی أرادته قرینه. و لذا نحن عرفن الدلاله اللفظیه فی المنطق (1 / 26) بأنها (هی کون اللفظ بحاله ینشأ من العلم بصدوره من المتکلم العلم بالمعنی المقصود به). و من هنا سمی المعنی معنی، أی المقصود، من عناه إذا قصده. و لأجل إن یتضح هذا الأمر جیدا اعتبر باللافتات التی توضع فی هذا

ص 20

العصر للدلاله علی إن الطریق مغلوق - مثلا - أو إن الاتجاه فی الطریق إلی الیمین أو الیسار و نحو ذلک. فإن اللافته إذا کانت موضوعه فی موضعها اللائق علی وجه منظم بنحو یظهر منه إن وضعها لهدأیه المستطرقین کان مقصودا لواضعها، فإن وجودها هکذا یدل حینئذ علی ما یقصد منها من غلق الطریق أو الاتجاه. أما لو شاهدتها مطروحه فی الطریق مهمله أو عند الکاتب یرسمها فإن المعنی المکتوب یخطر فی ذهن القارئ و لکن لا تکون داله عنده علی إن الطریق مغلوقه أو إن الاتجاه کذا، بل أکثر ما یفهم من ذلک إنه ستوضع لتدل علی هذا بعد ذلک لا إن لها الدلاله فعلا.

9 - الوضع شخصی و نوعی

9 - الوضع شخصی و نوعی

قد عرفت فی المبحث الرابع إنه لا بد فی الوضع من تصور اللفظ و المعنی و عرفت هناک إن المعنی تاره یتصوره الواضع بنفسه و أخری بوجهه و عنوانه. فاعرف هنا إن اللفظ أیضا کذلک ربم یتصوره الواضع بنفسه و یضعه للمعنی کما هو الغالب فی الألفاظ، فیسمی الوضع حینئذ (شخصیا). و ربما یتصوره بوجهه و عنوانه، فیسمی الوضع (نوعیا). و مثال الوضع النوعی الهیئات، فإن الهیئه غیر قابله للتصور بنفسها، بل إنما یصح تصورها فی ماده من مواد اللفظ کهیئه کلمه ضرب مثلا - و هی هیئه الفعل الماضی - فإن تصورها لا بد إن یکون فی ضمن الضاد و الراء و الباء أو ضمن الفاء و العین و اللأم فی فعل. و لما کانت المواد غیر محصوره و لا یمکن تصور جمیعها فلا بد من الإشاره إلی أفرادها بعنوان عام فیضع کل هیئه تکون علی زنه فعل مثلا أو زنه فاعل أو غیرهما و یتوصل إلی تصور ذلک العام بوجود الهیئه فی إحدی المواد کماده فعل التی جرت الاصطلاحات علیها عند علماء العربیه.

10 - وضع المرکبات

10 - وضع المرکبات

ثم إن الهیئه الموضوعه؟ ؟ لمعنی تاره تکون فی المفردات کهیئات المشتقات التی تقدمت الإشاره إلیها و أخری فی المرکبات کالهیئه الترکیبیه بین المبتدأ و الخبر

ص 21

لإفاده حمل شیء علی شیء و کهیئه تقدیم ماحقه التأخیر لإفاده الاختصاص. و من هنا تعرف إنه لا حاجه إلی وضع الجمل و المرکبات فی إفاده معانیها زائدا علی وضع المفردات بالوضع الشخصی و الهیئات بالوضع النوعی - کما قیل - بل هو لغو محض. و لعل من ذهب إلی وضعها أراد به وضع الهیئات الترکیبیه لا الجمله بأسرها بموادها و هیئاتها زیاده علی وضع أجزائها. فیعود النزاع حینئذ لفظیا.

11- علأمات الحقیقه و المجاز

11- علأمات الحقیقه و المجاز

علأمات الحقیقه و المجاز:

قد یعلم الإنسان - أما من طریق نص أهل اللغه أو لکونه نفسه من أهل اللغه - إن لفظ کذا موضوع لمعنی کذا و لا کلأم لأحد فی ذلک، فإنه من الواضح إن استعمال اللفظ فی ذلک المعنی حقیقه و فی غیره مجاز. و قد یشک فی وضع لفظ مخصوص لمعنی مخصوص، فلا یعلم إن استعماله فیه هل کان علی سبیل الحقیقه فلا یحتاج إلی نصب قرینه علیه، أو علی سبیل المجاز فیحتاج إلی نصب القرینه. و قد ذکر الأصولیون لتعیین الحقیقه من المجاز - أی لتعیین إنه موضوع لذلک المعنی أو غیر موضوع - طرقا و علأمات کثیره نذکر هنا أهمها:

(الأولی - التبادر)

دلاله کل لفظ علی أی معنی لا بد لها من سبب. و السبب لا یخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثه: المناسبه الذاتیه. و قد عرفت بطلانها، أو العلقه الوضعیه، أو القرینه الحالیه أو المقالیه. فإذا علم إن الدلاله مستنده إلی نفس اللفظ من غیر اعتماد علی قرینه فإنه یثبت إنها من جهه العلقه الوضعیه. و هذا هو المراد بقولهم (التبادر علأمه الحقیقه). و المقصود من کلمه التبادر هو إنسباق المعنی من نفس اللفظ مجردا عن کل قرینه. و قد یعترض علی ذلک بأن التبادر لا بد له من سبب و لیس هو إلا العلم بالوضع، لأن من الواضح إن الأنسباق لا یحصل من اللفظ إلی معناه فی أیه

ص 22

لغه لغیر العالم بتلک اللغه، فیتوقف التبادر علی العلم بالوضع. فلو أردنا إثبات الحقیقه و تحصیل العلم بالوضع بسبب التبادر - لزم الدور المحال. فلا یعقل - علی هذ - إن یکون التبادر علأمه للحقیقه یستفاد منه العلم بالوضع و المفروض إنه مستفاد من العلم بالوضع. و (الجواب): إن کل فرد من أیه أمه یعیش معها لا بد إن یستعمل الألفاظ المتداوله عندها تبعا لها و لا بد إن یرتکز فی ذهنه معنی اللفظ ارتکازا یستوجب إنسباق ذهنه إلی المعنی عند سماع اللفظ و قد یکون ذلک الارتکاز من دون التفات تفصیلی إلیه و إلی خصوصیات المعنی. فإذا أراد الإنسان معرفه المعنی و تلک الخصوصیات و توجهت نفسه إلیه - فإنه یفتش عما هو مرتکز فی نفسه من المعنی، فینظر إلیه مستقل عن القرینه، فیری إن المتبادر من اللفظ الخاص ما هو من معناه الارتکازی. فیعرف إنه حقیقه فیه. فالعلم بالوضع لمعنی خاص بخصوصیاته التفصیلیه أی الالتفات التفصیلی إلی الوضع و التوجه إلیه یتوقف علی التبادر و التبادر إنما هو موقوف علی العلم الارتکازی بوضع اللفظ لمعناه غیر الملتفت إلیه. و الحاصل إن هناک علمین: أحدهما یتوقف علی التبادر و هو العلم التفصیلی و الآخر یتوقف التبادر علیه و هو العلم الإجمالی الارتکازی. هذا الجواب بالقیاس إلی العالم بالوضع و أما بالقیاس إلی غیر العالم به فلا یعقل حصول التبادر عنده لفرض جهله باللغه. نعم یکون التبادر أماره علی الحقیقه عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغه، یعنی إن الأماره عنده تبادر غیره من أهل اللغه. مثلا إذا شاهد الأعجمی من أصحاب اللغه العربیه إنسباق أذهانهم من لفظ الماء المجرد عن القرینه إلی الجسم السائل البارد بالطبع، فلا بد إن یحصل له العلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنی عندهم. و علیه فلا دور هنا لأن علمه یتوقف علی التبادر یتوقف علی علم غیره.

(العلأمه الثانیه - عدم صحه السلب و صحته، الحمل و عدمه)

ذکروا: إن عدم صحه سلب اللفظ عن المعنی الذی یشک فی وضعه له

ص 23

علأمه إنه حقیقه فیه و إن صحه السلب علأمه علی إنه مجاز فیه. و ذکروا أیضا: إن صحه حمل اللفظ علی ما یشک فی وضعه له علأمه الحقیقه و عدم صحه الحمل علأمه علی المجاز. و هذا ما یحتاج إلی تفصیل و بیان، فلتحقیق الحمل و عدمه و السلب و عدمه نسلک الطرق الآتیه:

1 - نجعل المعنی الذی یشک فی وضع اللفظ له (موضوعا) و نعبر عنه بأی لفظ کان یدل علیه. ثم نجعل اللفظ المشکوک فی وضعه لذلک المعنی (محمولا) بما له من المعنی الارتکازی. ثم نجرب إن نحمل بالحمل الأولی اللفظ بما له من المعنی المرتکز فی الذهن علی ذلک اللفظ الدال علی المعنی المشکوک وضع اللفظ له. و الحمل الأولی ملاکه الاتحاد فی المفهوم و التغایر بالاعتبار (1). و حینئذ إذا أجرینا هذه التجربه فإن وجدنا عند أنفسنا صحه الحمل و عدم صحه السلب علمنا تفصیلا بأن اللفظ موضوع لذلک المعنی. و إن وجدنا عدم صحه الحمل و صحه السلب علمنا إنه لیس موضوعا لذلک المعنی بل یکون استعماله فیه مجازا.

2 - إذا لم یصح عندنا الحمل الأولی نجرب إن نحمله هذه المره بالحمل الشایع الصناعی الذی ملاکه الاتحاد وجودا و التغایر مفهوما. و حینئذ، فإن صح الحمل علمنا إن المعنیین متحدان وجودا سواء کانت النسبه التساوی أو العموم من وجه (2) أو مطلقا و لا یتعین واحد منها بمجرد صحه الحمل. و إن لم یصح الحمل وصح السلب علمن أنهما متبأینان.

(هامش)

(1) و قد شرحنا الحمل و أقسأمه فی الجزء الأول من المنطق ص 76. من الطبعه الثانیه. (2) إنما یفرض العموم من وجه إذا کانت القضیه مهمله. (*)

ص 24

3 - نجعل موضوع القضیه أحد مصادیق المعنی المشکوک وضع اللفظ له لا نفس المعنی المذکور. ثم نجرب الحمل - و ینحصر الحمل فی هذه التجربه بالحمل الشایع - فإن صح الحمل علم منه حال المصداق من جهه کونه أحد المصادیق الحقیقه لمعنی اللفظ الموضوع له سواء کان ذلک المعنی نفس المعنی المذکور أو غیره المتحد معه وجودا. کما یستعلم منه حال الموضوع له فی الجمله من جهه شموله لذلک المصداق. بل قد یستعلم منه تعیین الموضوع له، مثلما إذا کان الشک فی وضعه لمعنی عام أو خاص. کلفظ (الصعید) المردد بین إن یکون موضوعا لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص، فإذا وجدنا صحه الحمل و عدم صحه السلب بالقیاس إلی غیر التراب الخالص من مصادیق الأرض یعلم قهرا تعیین وضعه لعموم الأرض. و إن لم یصح الحمل وصح السلب علم إنه لیس من أفراد الموضوع له و مصادیقه الحقیقیه و إذا کان قد استعمل فیه اللفظ فالاستعمال یکون مجازا أما فیه رأسا أو فی معنی یشمله و یعمه. تنبیه: إن الدور الذی ذکر فی التبادر یتوجه إشکاله هنا أیضا. و الجواب عنه نفس الجواب هناک، لأن صحه الحمل و صحه السلب إنما هما باعتبار ما للفظ من المعنی المرتکز إجمالا، فلا تتوقف العلأمه الا علی العلم الارتکازی و ما یتوقف علی العلأمه هو العلم التفصیلی. هذا کله بالنسبه إلی العارف باللغه. و أم الجاهل بها فیرجع إلی أهلها فی صحه الحمل و السلب و عدمهما کالتبادر.

(العلأمه الثالثه - الاطراد) و ذکروا من جمله علأمات الحقیقه و المجاز الاطراد و عدمه، فالاطراد علأمه الحقیقه و علأمه المجاز. و معنی الاطراد: إن اللفظ لا تختص صحه استعماله بالمعنی المشکوک بمقام دون مقام و لا بصوره دون صوره، کما لا یختص بمصداق دون مصداق.

ص 25

والصحیح إن الاطراد لیس علأمه للحقیقه، لأن صحه استعمال اللفظ فی معنی بما له من الخصوصیات مره واحده تستلزم صحته دائما سواء کان حقیقه أم مجازا. فالاطراد لا یختص بالحقیقه حتی یکون علأمه لها.

12 - الأصول اللفظیه

12 - الأصول اللفظیه

تمهید:

اعلم إن الشک فی اللفظ علی نحوین:

1 - الشک فی وضعه لمعنی من المعانی.

2 - الشک فی المراد منه بعد فرض العلم بالوضع، کان یشک فی إن المتکلم أراد بقوله (رأیت أسدا) معناه الحقیقی أو معناه المجازی، مع العلم بوضع لفظ الأسد للحیوان المفترس و بأنه غیر موضوع للرجل الشجاع. أما (النحو الأول) فقد کان البحث السابق معقودا لأجله، لغرض بیان العلأمات المثبته للحقیقه أو المجاز، أی المثبته للوضع أو عدمه. و هنا نقول: إن الرجوع إلی تلک العلأمات و أشباهها کنص أهل اللغه أمر لا بد منه فی إثبات أوضاع اللغه أیه لغه کانت و لا یکفی فی إثباتها إن نجد فی کلأم أهل تلک اللغه استعمال اللفظ فی المعنی الذی شک فی وضعه له، لأن الاستعمال کما یصح فی المعنی الحقیقی یصح فی المعنی المجازی و ما یدرینا لعل المستعمل اعتمد علی قرینه حالیه أو مقالیه فی تفهیم المعنی المقصود له فاستعمله فیه علی سبیل المجاز. و لذا اشتهر فی لسان المحققین حتی جعلوه کقاعده قولهم: إن الاستعمال اعم من الحقیقه و المجاز. و من هنا نعلم بطلان طریقه العلماء السابقین لإثبات وضع اللفظ بمجرد وجدان استعماله فی لسان العرب، کما وقع ذلک لعلم الهدی السید المرتضی قدس سره فإنه کان یجری أصاله الحقیقه فی الاستعمال، بینما إن أصاله الحقیقه إنما تجری عند الشک فی المراد لا فی الوضع، کما سیأتی. و أم (النحو الثانی) فالمرجع فیه لإثبات مراد المتکلم الأصول اللفظیه و هذا

ص 26

البحث معقود لأجلها. فینبغی الکلام فیها من جهتین: أولا فی ذکرها و فی ذکر موارده. ثانیا - فی حجیتها و مدرک حجیتها. أما من (الجهه الأولی) فنقول: أهم الأصول اللفظیه ما یأتی:

1 - أصاله الحقیقه:

وموردها ما إذا شک فی إراده المعنی الحقیقی أو المجازی من اللفظ بأن لم یعلم وجود القرینه علی إراده المجاز مع احتمال وجودها، فیقال حینئذ (الأصل الحقیقه)، أی الأصل إن نحمل الکلام علی معناه الحقیقی، فیکون حجه فیه للمتکلم علی السأمع و حجه فیه للسأمع علی المتکلم، فلا یصح من السأمع الاعتذار فی مخالفه الحقیقه، بأن یقول للمتکلم: لعلک أردت المعنی المجازی و لا یصح الاعتذار من المتکلم بأن یقول للسأمع: إنی أردت المعنی المجازی.

2 - أصاله العموم:

وموردها م إذا ورد لفظ عام و شک فی إراده العموم منه أو الخصوص أی شک فی تخصیصه، فیقال حینئذ (الأصل العموم) فیکون حجه فی العموم علی المتکلم أو السأمع.

3 - أصاله الإطلاق:

وموردها ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات و قیود یمکن إراده بعضها منه و شک فی إراده هذ البعض لاحتمال وجود القید، فیقال:

(الأصل الإطلاق) فیکون حجه علی السأمع و المتکلم کقوله تعالی: أحل الله البیع فلو شک - مثلا - فی البیع إنه هل یشترط فی صحته إن ینشأ بألفاظ عربیه، فإننا نتمسک بأصاله إطلاق البیع فی الآیه لنفی اعتبار هذا الشرط و التقیید به فنحکم حینئذ بجواز البیع بالألفاظ غیر العربیه.

4 - أصاله عدم التقدیر:

وموردها ما إذا احتمل التقدیر فی الکلام و لیس هناک دلاله علی التقدیر،

ص 27

فالأصل عدمه. و یلحق بأصاله عدم التقدیر أصاله عدم النقل و أصاله عدم الاشتراک. و موردهما ما إذا احتمل معنی ثان موضوع له اللفظ، فإن کان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنی الأول و هو المسمی بالمنقول فالأصل (عدم النقل) و إن کان مع عدم هذا الفرض و هو المسمی بالمشترک فإن الأصل (عدم الاشتراک)، فیحمل اللفظ فی کل منهما علی إراده المعنی الأول ما لم یثبت النقل و الاشتراک. أما إذا ثبت النقل فإنه یحمل علی المعنی الثانی و إذا ثبت الاشتراک فإن اللفظ یبقی مجملا لا یتعین فی أحد المعنیین ال بقرینه علی القاعده المعروفه فی کل مشترک.

5 - أصاله الظهور:

وموردها ما إذا کان اللفظ ظاهرا فی معنی خاص لا علی وجه النص فیه الذی لا یحتمل معه الخلاف، بل کان یحتمل إراده خلاف الظاهر، فإن الأصل حینئذ إن یحمل الکلام علی الظاهر فیه. و فی الحقیقه إن جمیع الأصول المتقدمه راجعه إلی هذا الأصل، لأن اللفظ مع احتمال المجاز - مثلا - ظاهر فی الحقیقه و مع احتمال التخصیص ظاهر فی العموم و مع احتمال التقیید ظاهر فی الإطلاق و مع احتمال التقدیر ظاهر فی عدمه. فمؤدی أصاله الحقیقه نفس مؤدی أصاله الظهور فی مورد احتمال التخصیص. . و هکذا فی باقی الأصول المذکوره. فلو عبرن بدلا عن کل من هذه الأصول بأصاله الظهور کان التعبیر صحیحا مؤدیا للغرض، بل کله یرجع اعتبارها إلی اعتبار أصاله الظهور، فلیس عندنا فی الحقیقه الا أصل واحد هو أصاله الظهور و لذا لو کان الکلام ظاهرا فی المجاز و احتمل إراده الحقیقه انعکس الأمر و کان الأصل من اللفظ المجاز، بمعنی إن الأصل الظهور و مقتضاه الحمل علی المعنی المجازی و لا تجری أصاله الحقیقه حینئذ. و هکذا لو کان الکلام ظاهرا فی التخصیص أو التقیید.

حجیه الأصول اللفظیه:

وهی الجهه الثانیه من البحث عن الأصول اللفظیه و البحث عنها یأتی فی

ص 28

بابه و هو باب مباحث الحجه. و لکن ینبغی الآن إن نتعجل فی البحث عنها لکثره الحاجه إلیها، مکتفین بالإشاره فنقول: إن المدرک و الدلیل فی جمیع الأصول اللفظیه واحد و هو تبنی العقلاء فی الخطابات الجاریه بینهم علی الأخذ بظهور الکلام و عدم الاعتناء باحتمال إراده خلاف الظاهر، کما لا یعتنون باحتمال الغفله أو الخطأ أو الهزل أو إراده الأهمال و الإجمال، فإذا احتمل الکلام المجاز أو التخصیص أو التقیید أو التقدیر لا یوقفهم ذلک عن الأخذ بظاهره، کما یلغون أیضا احتمال الاشتراک و النقل و نحوهما. و لابد: إن الشارع قد أمضی هذا البناء و جری فی خطاباته علی طریقتهم هذه و إلا لزجرنا و نهانا عن هذا البناء فی خصوص خطاباته، أو لبین لنا طریقته لو کان له غیر طریقتهم طریقه خاصه یجب أتباعها و لا یجوز التعدی عنها إلی غیرها. فیعلم من ذلک علی سبیل الجزم إن الظاهر حجه عنده کما هو عند العقلاء بلا فرق.

13 - الترادف و الاشتراک

13 - الترادف و الاشتراک:

لا ینبغی الإشکال فی أمکان الترادف و الاشتراک، بل فی وقوعهما فی اللغه العربیه، فلا یصغی إلی مقاله من انکرهما. و هذه بین أیدینا اللغه العربیه و وقوعهم فیها واضح لا یحتاج إلی بیان. و لکن ینبغی إن نتکلم فی نشأتهما، فإنه یجوز إن یکون من وضع واضع واحد، بأن یضع شخص واحد لفظین لمعنی واحد أو لفضا لمعنیین و یجوز إن یکونا من وضع واضعین متعددین، فتضع قبیله - مثلا - لفظا لمعنی و قبیله أخری لفظا آخر لذلک المعنی، أو تضع قبیله لفظا لمعنی و قبیله. أخری ذلک اللفظ لمعنی آخر. و عند الجمع بین هذه اللغات باعتبار إن کل لغه منها لغه عربیه صحیحه یجب أتباعها یحصل الترادف و الاشتراک. و الظاهر إن الاحتمال الثانی أقرب إلی واقع اللغه العربیه کم صرح به بعض المؤرخین للغه و علی الأقل فهو الأغلب فی نشأه الترادف و الاشتراک ولذ نسمع علماء العربیه یقولون: لغه الحجاز کذا و لغه حمیر کذا و لغه تمیم

ص 29

کذا … و هکذا. فهذا دلیل علی تعدد الوضع بتعدد القبائل و الأقوأم و الأقطار فی الجمله. و لا تهمنا الإطاله فی ذلک.

استعمال اللفظ فی أکثر من معنی:

ولا شک فی جواز استعمال اللفظ المشترک فی أحد معانیه بمعونه القرینه المعینه و علی تقدیر عدم القرینه یکون اللفظ مجملا لا دلاله له علی أحد معانیه. کما لا شبهه فی جواز استعماله فی مجموع معانیه بما هو مجموع المعانی غایه الأمر یکون هذا الاستعمال مجازا یحتاج إلی القرینه، لأنه استعمال للفظ فی غیر ما وضع له. و إنما وقع البحث و الخلاف فی جواز إراده أکثر من معنی واحد من المشترک فی استعمال واحد، علی إن یکون کل من المعانی مرادا من اللفظ علی حده و کان اللفظ قد جعل للدلاله علیه وحده. و للعلماء فی ذلک أقوال و تفصیلات کثیره لا یهمنا الآن التعرض لها. و إنما الحق عندن عدم جواز مثل هذا الاستعمال (الدلیل): إن استعمال أی لفظ فی معنی إنما هو بمعنی أیجاد ذلک المعنی باللفظ، لکن لا بوجوده الحقیقی، بل بوجوده الجعلی التنزیلی، لأن وجود اللفظ وجود للمعنی تنزیلا. فهو وجود واحد ینسب إلی اللفظ حقیقه، أولا و بالذات و الی المعنی تنزیلا، ثانیا و بالعرض (1) فإذا أوجد المتکلم اللفظ لأجل استعماله فی المعنی فکأنما أوجد المعنی و ألقاه بنفسه إلی المخاطب. فلذلک یکون اللفظ ملحوظ للمتکلم بل للسأمع آله و طریقا للمعنی و فانیا فیه و تبعا للحاظه و الملحوظ بالأصاله و الاستقلال هو المعنی نفسه. و هذا نظیر الصوره فی المرآه، فإن الصوره موجوده بوجود المرآه و الوجود الحقیقی للمرآه و هذا الوجود نفسه ینسب إلی الصوره ثانیا و بالعرض. فإذا

(هامش)

(1) راجع عن توضیح الوجود اللفظی للمعنی الجزء الأول من المنطق ص 22 الطبعه الثانیه للمؤلف. (*)

ص 30

نظر الناظر إلی الصوره فی المرآه فإنما ینظر إلیها بطریق المرآه بنظره واحده هی للصوره بالاستقلال و الأصاله و للمرآه بالآلیه و التبع فتکون المرآه کاللفظ ملحوظه تبعا للحاظ الصوره و فانیه فیها فناء العنوان فی المعنون (1). و علی هذا، لا یمکن استعمال لفظ واحد الا فی معنی واحد، فإن استعماله فی معنیین مستقلا بأن یکون کل منهما مرادا من اللفظ کما إذا لم یکن الا نفسه، یستلزم لحاظ کل منهما بالأصاله، فل بد من لحاظ اللفظ فی إن واحد مرتین بالتبع و معنی ذلک اجتماع لحاظین فی إن واحد علی ملحوظ واحد أعنی به اللفظ الفانی فی کل من المعنیین. و هو محال بالضروره فإن الشیء الواحد لا یقبل الا وجودا واحدا فی النفس فی إن واحد. الا تری إنه لا یمکن إن یقع لک إن تنظر فی مرآه واحده إلی صوره تسع المرآه کلها و تنظر - فی نفس الوقت - إلی صوره أخری تسعها أیضا. إن هذا لمحال. و کذلک النظر فی اللفظ إلی معنیین، علی إن یکون کل منهما قد استعمل فیه اللفظ مستقلا و لم یحک الا عنه. نعم یجوز لحاظ اللفظ فإنی فی معنی فی استعمال، ثم لحاظه فإنیا فی معنی آخر فی استعمال ثان، مثل ما تنظر فی المرآه إلی صوره تسعها، ثم تنظر فی وقت آخر إلی صوره أخری تسعها. و کذا یجوز لحاظ اللفظ فی مجموع معنیین فی استعمال واحد و لو مجازا مثلما تنظر فی المرآه فی إن واحد إلی صورتین لشیئین مجتمعین. و فی الحقیقه إنما استعملت اللفظ فی معنی واحد هو مجموع المعنیین و نظرت فی المرآه إلی صوره واحده لمجموع الشیئین.

تنبیهان:

(الأول)

إنه لا فرق فی جواز الاستعمال فی المعنیین بین إن یکونا

(هامش)

(1) راجع عن توضیح فناء العنوان فی المعنون الجزء الأول من المنطق ص 55 من الطبعه الثانیه. (*)

ص 31

حقیقیین أو مجازیین أو مختلفین، فإن المانع و هو تعلق لحاظین بملحوظ واحد فی إن واحد موجود فی الجمیع، فلا یختص بالمشترک کما اشتهر.

(الثانی)

ذکر بعضهم إن الاستعمال فی أکثر من معنی إن لم یجز فی المفرد یجوز فی التثنیه و الجمع، بأن یراد من کلمه عینین - مثلا - فرد من العین الباصره و فرد من العین النابعه، فلفظ عین - و هو مشترک - قد استعمل حال التثنیه فی معنیین: فی الباصره و النابعه. و هذا شأنه فی الأمکان و الصحه شأن ما لو أرید معنی واحد من کلمه عینین بأن یراد بها فردان من العین الباصره مثلا، فإذا صح هذا فلیصح ذاک بلا فرق. و استدل علی ذلک بما ملخصه: إن التثنیه و الجمع فی قوه تکرار الواحد بالعطف، فإذا قیل: عینان فکأنما قیل: عین و عین. و إذ یجوز فی قولک (عین و عین) إن تستعمل أحدهما فی الباصره و الثانیه فی النابعه فکذلک ینبغی إن یجوز فیما هو بقوتهما أعنی (عینین). و کذا الحال فی الجمع. و الصحیح عندنا عدم الجواز فی التثنیه و الجمع کالمفرد. و (الدلیل) إن التثنیه و الجمع و إن کانا موضوعین لإفاده التعدد، الا إن ذلک من جهه وضع الهیئه فی قبال وضع الماده و هی - أی الماده - نفس لفظ المفرد الذی طرأت علیه التثنیه و الجمع. فإذا قیل (عینان) مثلا، فإن أرید من الماده خصوص الباصره فالتعدد یکون فیها أی فردان منهما و إن أرید منها خصوص النابعه مثلا فالتعدد یکون بالقیاس إلیها، فلو أرید الباصره و النابعه فل بد إن یراد التعدد من کل منهما أی فرد من الباصره و فرد من النابعه، لکنه مستلزم لاستعمال الماده فی أکثر من معنی و قد عرفت استحالته. و أما إن التثنیه و الجمع فی قوه تکرار الواحد فمعناه إنها تدل علی تکرار أفراد المعنی المراد من الماده ل تکرار نفس المعنی المراد منها. فلو أرید من استعمال التثنیه أو الجمع فردان أو فرد من طبیعتین أو طبائع متعدده لا یمکن ذلک أبدا الا إن یراد من الماده (المسمی بهذ اللفظ) علی نحو المجاز، فتستعمل الماده فی معنی واحد و هو معنی (مسمی هذا اللفظ) و إن کان مجازا، نظیر الأعلام الشخصیه غیر القابله لعروض التعداد علی مفاهیمها الجزئیه الا بتأویل المسمی. فإذا قیل (محمدان) فمعناه فردان فمعناه فردان من المسمی بلفظ (محمد)،

ص 32

فاستعملت الماده و هی لفظ محمد فی مفهوم المسمی مجازا.

14 - الحقیقه الشرعیه

14 - الحقیقه الشرعیه:

لا شک فی إنا - نحن المسلمین - نفهم من بعض الألفاظ المخصوصه کالصلاه و الصوم و نحوهم معانی خاصه شرعیه و نجزم بأن هذه المعانی حادثه لم یکن یعرفها أهل اللغه العربیه قبل الإسلأم و إنما نقلت تلک الألفاظ من معانیها اللغویه إلی هذه المعانی الشرعیه. هذا لا شک فیه و لکن الشک وقع عند الباحثین فی إن هذا النقل وقع فی عصر الشارع المقدس علی نحو الوضع التعیینی أو التعینی فتثبت الحقیقه الشرعیه، أو إنه وقع فی عصر بعده علی لسان أتباعه المتشرعه فلا تثبت الحقیقه الشرعیه، بل الحقیقه المتشرعیه. و الفائده من هذا النزاع تظهر فی الألفاظ الوارده فی کلأم الشارع مجرده عن القرینه سواء کانت فی القران الکریم أم السنه. فعلی القول الأول یجب حملها علی المعانی الشرعیه و علی الثانی تحمل علی المعانی اللغویه أو یتوقف فیها فلا تحمل علی المعانی الشرعیه و لا علی اللغویه، بناء علی رأی من یذهب إلی التوقف فیما إذا دار الأمر بین المعنی الحقیقی و بین المجاز المشهور، إذ من المعلوم إنه إذا لم تثبت الحقیقه الشرعیه فهذه المعانی المستحدثه تکون - علی الأقل - مجازا مشهورا فی لسان صلی الله علیه و آله. و التحقیق فی المسأله إن یقال:

إن نقل تلک الألفاظ إلی المعانی المستحدثه أما بالوضع التعیینی أو التعینی: أما (الأول) فهو مقطوع العدم لأنه لو کان لنقل إلینا بالتواتر أو بالآحاد علی الأقل، لعدم الداعی إلی الإخفاء، بل الدواعی متظافره علی نقله، مع إنه لم ینقل ذلک أبدا. و أما (الثانی) فهو مما لا ریب فیه بالنسبه إلی زمان أمأمنا أمیر المؤمنین علیه السلأم، لأن اللفظ إذا استعمل فی معنی خاص فی لسان جماعه کثیره زمانا معتدا به - لا سیما إذا کان المعنی جدید - یصبح حقیقه فیه بکثره الاستعمال،

ص 33

فکیف إذا کان ذلک عند المسلمین قاطبه فی سنین متمادیه. فلا بد - أذن - من حمل تلک الألفاظ علی المعانی المستحدثه فیما إذا تجردت عن القرائن فی روایات الأئمه علیهم السلأم. نعم کونها حقیقه فیها فی خصوص زمان النبی صلی الله علیه و آله غیر معلوم و إن کان غیر بعید، بل من المظنون ذلک و لکن الظن فی هذا الباب لا یغنی عن الحق شیئ. غیر إنه لا أثر لهذا الجهل، نظرا إلی إن السنه النبویه غیر مبتلی بها الا ما نقل لنا من طریق آل البیت علیهم السلأم علی لسانهم و قد عرفت الحال فی کلماتهم إنه ل بد من حملها علی المعانی المستحدثه. و أما القران المجید فأغلب ما ورد فیه من هذه الألفاظ أو کله محفوف بالقرائن المعینه لإراده المعنی الشرعی، فلا فائده مهمه فی هذا النزاع بالنسبه إلیه. علی إن الألفاظ الشرعیه لیست علی نسق واحد، فإن بعضه کثیر التدوال کالصلاه و الصوم و الزکاه و الحج، لا سیما الصلاه التی یؤدونها کل یوم خمس مرات، فمن البعید جدا ألا تصبح حقائق فی معانیها المستحدثه بأقرب وقت فی لسان صلی الله علیه و آله.

الصحیح و الأعم:

من ملحقات المسأله السابقه مسأله (الصحیح و الأعم). فقد وقع النزاع فی إن ألفاظ العبادات أو المعاملات أهی أسأم موضوعه للمعانی الصحیحه أو للأعم منها و من الفاسده. و قبل بیان المختار لا بد من تقدیم مقدمات: (الأولی) إن هذا النزاع لا یتوقف علی ثبوت الحقیقه الشرعیه، لأنه قد عرفت إن هذه الألفاظ مستعمله فی لسان المتشرعه بنحو الحقیقه و لو علی نحو الوضع التعینی عندهم. و لا ریب إن استعمالهم کان یتبع الاستعمال فی لسان الشارع، سواء کان استعماله علی نحو الحقیقه أو المجاز. فإذا عرفنا - مثلا - إن هذه الألفاظ فی عرف المتشرعه کانت حقیقه فی خصوص الصحیح، یستکشف منه إن المستعمل فیه فی لسان الشارع هو الصحیح أیضا، مهما کان استعماله عنده أحقیقه کان أم مجازا. کما لو علم

ص 34

إنها کانت حقیقه فی الأعم فی عرفهم کان ذلک أماره علی کون المستعمل فیه فی لسانه هو الأعم أیضا و إن کان استعماله علی نحو المجاز. (الثانیه) - إن المراد من الصحیحه من العباده أو المعامله: هی التی تمت أجزاؤها و کملت شروطها و الصحیح أذن معناه: تأم الإجزاء و الشرائط، فالنزاع یرجع هنا إلی إن الموضوع له خصوص تأم الإجزاء و الشرائط من العباده أو المعامله، أو الأعم منه و من الناقص. (الثالثه) - إن ثمره النزاع هی: صحه رجوع القائل بالوضع للأعم - المسمی (بالأعمی) - إلی أصاله الإطلاق، دون القائل بالوضع للصحیح - المسمی (بالصحیحی) فإنه لا یصح له الرجوع إلی أصاله إطلاق اللفظ. توضیح ذلک: إن المولی إذا أمرنا بإیجاد شیء و شککنا فی حصول امتثاله بالإتیان بمصداق خارجی فله صورتان یختلف الحکم فیهما:

1 - إن یعلم صدق عنوان المأمور به علی ذلک المصداق و لکن یحتمل دخل قید زائد فی غرض المولی غیر متوفر فی ذلک المصداق، کما إذ أمر المولی یعتق رقبه، فإنه یعلم بصدق عنوان المأمور به علی الرقبه الکافره و لکن یشک فی دخل وصف الإیمان فی غرض المولی فیحتمل إن یکون قیدا للمأمور به. فالقاعده فی مثل هذا: الرجوع إلی أصاله الإطلاق فی نفی اعتبار القید المحتمل اعتباره فلا یجب تحصیله، بل یجوز الاکتفاء فی الامتثال بالمصداق المشکوک، فیمتثل فی المثال لو اعتق رقبه کافره.

2 - إن یشک فی صدق نفس عنوان المأمور به علی ذلک المصداق الخارجی، کم إذا أمر المولی بالتیمم بالصعید و لا ندری إن ما عدا التراب هل یسمی صعیدا أول فیکون شکنا فی صدق الصعید علی غیر التراب. و فی مثله لا یصح الرجوع إلی أصاله الإطلاق لإدخال المصداق المشکوک فی عنوان المأمور به لیکتفی به فی مقام الامتثال، بل لا بد من الرجوع إلی الأصول

ص 35

العملیه، مثل قاعده الاحتیاط أو البراءه. و من هذا البیان تظهر ثمره النزاع فی المقام الذی نحن فیه، فإنه فی فرض الأمر بالصلاه و الشک فی إن السوره - مثلا - جزء للصلاه أم لا إن قلنا إن الصلاه اسم للأعم، کانت المسأله من باب الصوره الأولی، لأنه بناء علی هذا القول یعلم بصدق عنوان الصلاه علی المصداق الفاقد للسوره و إنم الشک فی اعتبار قید زائد علی المسمی، فیتمسک حینئذ بإطلاق کلأم المولی فی نفی اعتبار القید الزائد و هو کون السوره جزءا من الصلاه و یجوز الاکتفاء فی الامتثال بفاقدها. و إن قلنا إن الصلاه اسم للصحیح کانت المسأله من باب الصوره الثانیه لأنه عند الشک فی اعتبار السوره یشک فی صدق عنوان المأمور به (اعنی الصلاه) علی المصداق الفاقد للسوره، إذ عنوان المأمور به هو الصحیح و الصحیح هو عنوان المأمور به، فم لیس بصحیح لیس بصلاه. فالفاقد للجزء المشکوک کما یشک فی صحته یشک فی صدق عنوان المأمور به علیه. فلا یصح الرجوع إلی أصاله الإطلاق لنفی اعتبار جزئیه السوره حتی یکتفی بفاقدها فی مقام الامتثال، بل لا بد من الرجوع إلی أصاله الاحتیاط أو أصاله الاحتیاط أو أصاله البراءه علی خلاف بین العلماء فی مثله سیأتی فی بابه إن شاء الله تعالی.

المختار فی المسأله:

إذا عرفت ما ذکرنا من المقدمات فالمختار عندنا هو الوضع للأعم. و الدلیل التبادر و عدم صحه السلب عن الفاسد و هما أمارتا الحقیقه - کما تقدم .

وهم و دفع:

(الوهم) - قد یتعرض علی المختار فیقال:

إنه لا یمکن الوضع بإزاء الأعم، لأن الوضع له یستدعی إن نتصور معنی کلیا جأمعا بین أفراده و مصادیقه هو الموضوع له، کما فی أسماء الأجناس. و کذلک الوضع للصحیح یستدعی تصور کلی جأمع بین مراتبه و أفراده.

ص 36

و لا شک إن مراتب الصلاه - مثلا - الفاسده و الصحیحه کثیره متفاوته و لیس بینها قدر جأمع یصح وضع اللفظ بإزائه. توضیح ذلک: إن أی جزء من إجزاء الصلاه حتی الأرکان إذ فرض عدمه یصح اسم الصلاه علی الباقی، بناء علی القول بالأعم، کما یصح صدقه مع وجوده و فقدان غیره من الإجزاء. و علیه یکون کل جزء مقوما للصلاه عند وجوده غیر مقوم عند عدمه، فیلزم التبدل فی حقیقه الماهیه، بل یلزم التردید فیها عند وجود تمأم الإجزاء لأن أی جزء منها لو فرض عدمه یبقی صدق الاسم علی حاله. وکل منهما - أی التبدل و التردید فی الحقیقه الواحده - غیر معقول إذ إن کل ماهیه تفرض لا بد إن تکون متعینه فی حد ذاتها و إن کانت مبهمه من جهه تشخصاتها الفردیه و التبدل أو التردید فی ذات الماهیه معناه أبهأمها فی حد ذاتها و هو مستحیل. (الدفع): إن هذا التبادل فی الإجزاء و تکثر مراتب الفاسده لا یمنع من فرض قدر مشترک جأمع بین الأفراد و لا یلزم التبدل و التردید فی ذات الحقیقه الجأمعه بین الأفراد. و هذا نظیر لفظ (الکلمه) الموضوع لم ترکب من حرفین فصاعدا و یکون الجأمع بین الأفراد هو ما ترکب من حرفین فصاعدا، مع إن الحروف کثیره، فربما تترکب الکلمه من الألف و الباء کأب و یصدق علیها إنها کلمه و ربما تترکب من حرفین آخرین مثل ید و یصدق علیها إنها کلمه. . و هکذا. فکل حرف یجوز إن یکون داخلا و خارجا فی مختلف الکلمات، مع صدق اسم الکلمه. و کیفیه تصحیح الوضع فی ذلک: إن الواضع یتصور - أولا - جمیع الحروف الهجائیه، ثم یضع لفظ (الکلمه) بإزاء طبیعه المرکب من اثنین فصاعدا إلی حد سبعه حروف مثلا. و الغرض من التقیید بقولن (فصاعدا) بیان الکلمه تصدق علی الأکثر من حرفین کصدقها علی المرکب من حرفین. ول یلزم التردید فی الماهیه، فإن الماهیه الموضوع لها هی طبیعه اللفظ الکلی المترکب من حرفین فصاعدا و التبدل و التردید إنما یکون فی إجزاء

ص 37

أفرادها. و قد یسمی ذلک الکلی فی المعین أو الکلی المحصور فی إجزاء معینه. و فی المثال أجزاؤه المعینه هی الحروف الهجائیه کلها. و علی هذا ینبغی إن یقاس لفظ الصلاه مثلا، فإنه یمکن تصور جمیع إجزاء الصلاه فی مراتبها کلها و هی - أی هذا الإجزاء - معینه معروفه کالحروف الهجائیه، فیضع اللفظ بإزاء طبیعه العمل المرکب من خمسه إجزاء منها - مثلا - فصاعدا، فعند وجود تمأم الإجزاء یصدق علی المرکب إنه صلاه و عند وجود بعضها - و لو خمسه علی أقل تقدیر علی الفرض - یصدق اسم الصلاه أیضا. بل الحق إن الذی لا یمکن تصور الجأمع فیه هو خصوص المراتب الصحیحه و هذا المختصر لا یسع تفصیل ذلک.

تنبیهان

تنبیهان

1 - لا یجری النزاع فی المعاملات بمعنی المسببات:

إن ألفاظ المعاملات - کالبیع و النکاح - و الإیقاعات کالطلاق و العتق یمکن تصویر وضعها علی أحد نحوین.

1 - إن تکون موضوعه للأسباب التی تسبب مثل الملکیه و الزوجیه و الفراق و الحریه و نحوه. و نعنی بالسبب إنشاء العقد و الإیقاع، کالإیجاب و القبول معا فی العقود و الإیجاب فقط فی الإیقاعات. و إذا کانت کذلک فالنزاع المتقدم یصح إن نفرضه فی ألفاظ المعاملات من کونها أسأمی لخصوص الصحیحه أعنی تأمه الإجزاء و الشرائط فی المسبب، أو للأعم من الصحیحه و الفاسده. و نعنی بالفاسده مالا یؤثر فی المسبب أما لفقدان جزء أو شرط.

2 - إن تکون موضوعه للمسببات و نعنی بالمسبب نفس الملکیه و الزوجیه و الفراق و الحریه و نحوها. و علی هذا فالنزاع المتقدم لا یصح فرضه فی المعاملات، لأنها لا تتصف بالصحه و الفساد، لکونها بسیطه غیر مرکبه من إجزاء و شرائط، بل إنما تتصف بالوجود تاره و بالعدم أخری. فهذا عقد البیع - مثلا - أما إن یکون واجدا لجمیع ما هو معتبر فی صحه العقد أولا، فإن کان الأول اتصف

ص 38

بالصحه و إن کان الثانی اتصف بالفساد. و لکن الملکیه المسببه للعقد یدور أمرها بین الوجود و العدم لأنها توجد عند صحه العقد و عند فساده لا توجد أصلا لا إنها توجد فاسده. فإذا أرید من البیع نفس المسبب و هو الملکیه المنتقله إلی المشتری فلا تتصف بالصحه و الفساد حتی یمکن تصویر النزاع فیها.

2 - لا ثمره للنزاع فی المعاملات الا فی الجمله:

قد عرفت إنه علی القول بوضع ألفاظ (العبادات) للصحیحه لا یصح التمسک بالإطلاق عند الشک فی اعتبار شیء فیها، جزءا کان أو شرطا، لعدم إحراز صدق الاسم علی الفاقد له. و إحراز صدق الاسم علی الفاقد شرط فی صحه التمسک بالإطلاق. الا إن هذ الکلام لا یجری فی ألفاظ (المعاملات)، لأن معانیها غیر مستحدثه و الشارع بالنسبه إلیها کواحد من أهل العرف، فإذا استعمل أحد ألفاظها فیحمل لفظه علی معناه الظاهر فیه عندهم الا إذا نصب قرینه علی خلافه. فإذا شککنا فی اعتبار شیء - عند الشارع - فی صحه البیع مثلا و لم ینصب قرینه علی ذلک فی کلأمه، فإنه یصح التمسک بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال، حتی لو قلنا بأن ألفاظ المعاملات موضوعه للصحیح، لأن المراد من الصحیح هو الصحیح عند العرف العام، لا عند الشارع. فإذا اعتبر الشارع قیدا زائد علی ما یعتبره العرف کان ذلک قیدا زائدا علی أصل معنی اللفظ، فلا یکون دخیلا فی صدق عنوان المعامله الموضوعه - حسب الفرض - للصحیح، علی المصداق المجرد عن القید. و حالها فی ذلک حال ألفاظ العبادات لو کانت موضوعه للأعم. نعم إذا احتمل إن هذ القید دخیل فی صحه المعامله عند أهل العرف أنفسهم أیضا، فلا یصح التمسک بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال، بناء علی القول بالصحیح (کما هو شأن ألفاظ العبادات)، لأن الشک یرجع إلی الشک

ص 39

فی صدق عنوان المعامله. و أما علی القول بالأعم، فیصح التمسک بالإطلاق لدفع الاحتمال. فتظهر ثمره النزاع - علی هذا - فی ألفاظ المعاملات أیضا، ولکنها ثمره نادره. * * *

ص 41

المقصد الاول: مباحث الالفاظ و فیه مباحث

المقصد الاول: مباحث الالفاظ

المصد الاول: مباحث الالفاظ

تمهید:

المقصود من (مباحث الألفاظ) تشخیص ظهور الألفاظ من ناحیه عامه أما بالوضع أو بإطلاق الکلام، لتکون نتیجتها قواعد کلیه تنقح صغریات أصاله الظهور التی سنبحث عن حجیتها فی المقصد الثالث. و قد سبقت الإشاره إلیه. و تلک المباحث تقع فی هیئات الکلام التی یقع فیها الشک و النزاع، سواء کانت هیئات المفردات کهیئه المشتق و الأمر و النهی، أو هیئات الجمل کالمفاهیم و نحوها. أما البحث عن مواد الألفاظ الخاصه و بیان وضعها و ظهورها - مع إنها تنقح أیضا صغریات أصاله الظهور - فإنه لا یمکن ضبط قاعده کلیه عامه فیها. فلذا لا یبحث عنها فی علم الأصول. و معاجم اللغه و نحوها هی المتکفله بتشخیص مفرداتها. و علی أی حال، فنحن نعقد (مباحث الألفاظ) فی سبعه أبواب: 1 - المشتق.

2 - الأوأمر.

3 - النواهی.

4 - المفاهیم.

5 - العام و الخاص.

6 - المطلق و المقید.

7 - المجمل و المبین.

ص 45

الباب الاول: المشتق

الباب الاول: المشتق

المشتق

اختلف الأصولیون من القدیم فی المشتق: فی إنه حقیقه فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال و مجاز فیما انقضی عنه التلبس، أو إنه حقیقه فی کلیهما، بمعنی إنه موضوع للأعم منهما؟ بعد اتفاقهم علی إنه مجاز فیما یتلبس بالمبدأ فی المستقبل. - ذهب المعتزله و جماعه من المتأخرین من أصحابنا إلی الأول. - و ذهب الأشاعره و جماعه من المتقدمین من أصحابنا إلی الثانی. و الحق هو القول الأول. و للعلماء أقوال أخر فیها تفصیلات بین هذین القولین لا یهمنا التعرض لها بعد اتضاح الحق فیما یأتی. و أهم شیء یعنینا فی هذه المسأله - قبل بیان الحق فیها و هو أصعب ما فیها - إن نفهم محل النزاع و موضع النفی و الإثبات. و لأجل إن یتضح فی الجمله موضع الخلاف نذکر مثالا له فنقول: إنه ورد کراهه الوضوء و الغسل بالماء المسخن بالشمس، فمن قال بالأول لا بد ألا یقول بکراهتهما بالماء الذی برد و انقضی عنه التلبس، لأنه عنده لا یصدق علیه حینئذ إنه مسخن بالشمس، بل کان مسخنا. و من قال بالثانی لا بد إن یقول بکراهتهما بالماء حال انقضاء التلبس أیضا، لأنه عنده یصدق علیه إنه مسخن حقیقه بلا مجاز. و لتوضیح ذلک نذکر الآن أربعه أمور مذلله لتلک الصعوبه، ثم نذکر القول المختار و دلیله: 1 - ما المراد من المشتق المبحوث عنه؟

اعلم إن (المشتق) باصطلاح النحاه ما یقابل الجأمد و مرادهم واضح.

ص 48

ولکن لیس هو موضع النزاع هنا بل بین المشتق بمصطلح النحویین و بین المشتق المبحوث عنه عموم و خصوص من وجه. لأن موضع النزاع هنا یشمل کل ما یحمل علی الذات باعتبار قیأم صفه فیها خارجه عنها تزول عنها و إن کان باصطلاح النحاه معدودا من الجوأمد، کلفظ الزوج و الأخ و الرق و نحو ذلک. و من جهه أخری لا یشمل الفعل بأقسأمه و لا المصدر و إن کانت تسمی مشتقات عند النحویین. و السر فی ذلک إن موضع النزاع هنا یعتبر فیه شیئان:

1 - إن یکون جاریا علی الذات، بمعنی إنه یکون حاکیا عنها و عنوانا لها، نحو اسم الفاعل و اسم المفعول و أسماء المکان و الآله و غیرهما و ما شابه هذه الأمور من الجوأمد. و من أجل هذا الشرط لا یشمل هذا النزاع الأفعال و لا المصادر، لأنها کلها ل تحکی عن الذات و لا تکون عنوانا لها و إن کانت تسند إلیها.

2 - ألا تزول الذات بزوال تلبسها بالصفه - و نعنی بالصفه المبدأ الذی منه یکون النزاع المشتق و اشتقاقه و یصح صدقه علی الذات - بمعنی إن تکون الذات باقیه محفوظه لو زال تلبسها بالصفه، فهی تتلبس بها تاره و لا تتلبس بها أخری و الذات تلک الذات فی کلا الحالین. و إنما نشترط ذلک فلأجل إن نتعقل انقضاء التلبس بالمبدأ مع بقاء الذات حتی یصح إن نتنازع فی صدق المشتق حقیقه علیها مع انقضاء حال التلبس بعد الاتفاق علی صدقه حقیقه علیها حال التلبس. و إلا لو کانت الذات تزول بزوال التلبس لا یبقی معنی لفرض صدق المشتق علی الذات مع انقضاء حال التلبس لا حقیقه و لا مجازا. و علی هذا، لو کان المشتق من الأوصاف التی تزول الذات بزوال التلبس بمبادئها، فلا یدخل فی محل النزاع و إن صدق علیها اسم المشتق، مثلها لو کان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقیاس إلی الذات، کالناطق و الصاهل و الحساس و المتحرک بالإراده.

ص 49

واعتبر ذلک فی مثال کراهه الجلوس للتغوط تحت الشجره المثمره، فإن هذا المثال یدخل فی محل النزاع لو زالت الثمره عن الشجره، فیقال:

هل یبقی اسم المثمره صادقا حقیقه علیها حینئذ فیکره الجلوس أو لا؟ أما لو اجتثت الشجره فصارت خشبه فإنها لا تدخل فی محل النزاع، لأن الذات و هی (الشجره) قد زالت بزوال الوصف الداخل فی حقیقتها، فل یتعقل معه بقاء وصف الشجره المثمره لها، لا حقیقه و لا مجازا. و أما الخشب فهو ذات أخری لم یکن فیما مضی قد صدق علیه - بما إنه خشب - وصف الشجره المثمره حقیقه، إذ لم یکن متلبسا بما هو خشب بالشجره ثم زال عنه التلبس. * * * و بناء علی اعتبار هذین الشرطین یتضح ما ذکرناه فی صدر البحث من إن موضع النزاع فی المشتق یشمل کل ما کان جاریا علی الذات باعتبار قیأم صفه خارجه عن الذات و إن کان معدودا من الجوأمد اصطلاحا. و یتضح أیضا عدم شمول النزاع للأفعال و المصادر. کما یتضح إن النزاع یشمل کل وصف جار علی الذات و لا یفرق فیه بین إن یکون مبدأه من الأعراض الخارجیه المتأصله کالبیاض و السواد و القیأم و القعود، أو من الأمور الأنتزاعیه کالفوقیه و التحتیه و التقدم و التأخر أو من الأمور الاعتباریه المحضه کالزوجیه و الملکیه و الوقف و الحریه.

2 - جریان النزاع فی اسم الزمان

بناء علی ما تقدم قد یظن عدم جریان النزاع فی اسم الزمان، لأنه قد تقدم إنه یعتبر فی جریانه بقاء الذات مع زوال الوصف، مع إن زوال الوصف فی اسم الزمان ملازم لزوال الذات، لأن الزمان متصرم الوجود فکل جزء منه ینعدم بوجود الجزء اللاحق، فلا تبقی ذات مستمره. فإذا کان یوم الجمعه مقتل زید - مثل - فیوم السبت الذی بعده ذات أخری من الزمان لم یکن لها وصف القتل فیها و یوم الجمعه تصرم و زال کما زال نفس الوصف. و الجواب: إن هذا صحیح لو کان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص،

ص 50

ولکن الحق إن هیئه اسم الزمان موضوعه لما هو یعم اسم الزمان و المکان و یشملهما معا، فمعنی (المضرب) مثلا: الذات المتصفه بکونها ظرفا للضرب و الظرف أعم من إن یکون زمانا أو مکانا و یتعین أحدهما بالقرینه. و الهیئه إذا کانت موضوعه للجأمع بین الظرفین، فهذا الجأمع یکفی فی صحه الوضع له و تعمیمه لما تلبس بالمبدأ و ما انقضی عنه إن یکون أحد فردیه یمکن إن یتصور فیه انقضاء المبدأ و بقاء الذات. و الخلاصه: إن النزاع حینئذ یکون فی وضع أصل الهیئه التی تصلح للزمان و المکان لا لخصوص اسم الزمان. و یکفی فی صحه الوضع للأعم أمکان الفرد المنقضی عنه المبدأ فی أحد أقسأمه و إن أمتنع الفرد الآخر.

3 - اختلاف المشتقات من جهه المبادئ

وقد یتوهم بعضهم إن النزاع هنا لا یجری فی بعض المشتقات الجاریه علی الذات، مثل النجار و الخیاط و الطبیب و القاضی و نحو ذلک مما کان للحرف و المهن، بل فی هذه من المتفق علیه إنه موضوع للأعم. و منشأ الوهم إنا نجد صدق هذه المشتقات حقیقه علی من انقضی عنه التلبس بالمبدأ - من غیر شک - و ذلک نحو صدقها علی من کان نائما - مثلا - مع إن النائم غیر متلبس بالنجاره فعلا أو الخیاطه أو الطبابه أو القضاء و لکنه کان متلبسا بها فی زمان مضی. و کذلک الحال فی أسماء الآله کالمنشار و المقود و المکنسه فإنها تصدق علی ذواته حقیقه مع عدم التلبس بمبادئها. و الجواب عن ذلک: إن هذا التوهم منشأه الغفله عن معنی المبدأ المصحح لصدق المشتق فإنه یختلف باختلاف المشتقات، لأنه تاره یکون من الفعلیات و أخری من الملکات و ثالثه من الحرف و الصناعات. (مثلا): اتصاف زید بأنه قائم إنما یتحقق إذا تلبس بالقیأم فعلا، لأن القیأم یؤخذ علی نحو الفعلیه مبدأ لوصف (قائم) و یفرض الانقضاء بزوال فعلیه القیأم عنه. و أما اتصافه بأنه عالم بالنحو أو إنه قاضی البلد، فلیس بمعنی إنه یعلم ذلک فعلا أو إنه مشغول بالقضاء بین الناس فعلا، بل بمعنی إن له ملکه العلم أو منصب القضاء، فما دامت الملکه أو الوظیفه موجودتین فهو متلبس بالمبدأ حالا و إن کان نائما أو

ص 51

غافلا. نعم یصح إن نتعقل الانقضاء إذا زالت الملکه أو سلبت عنه الوظیفه و حینئذ یجری النزاع فی إن وصف القاضی - مثلا - هل یصدق حقیقه علی من زال عنه منصب القضاء و کذلک الحال فی مثل النجار و الخیاط و المنشار فلا یتصور فیها الانقضاء الا بزوال حرفه النجاره و مهنه الخیاطه و شأنیه النشر فی المنشار. و الخلاصه: إن الزوال و الانقضاء فی کل شیء بحسبه و النزاع فی المشتق إنما هو فی وضع الهیئات مع قطع النظر عن خصوصیات المبادئ المدلول علیها بالمواد التی تختلف اختلافا کثیرا.

4 - استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقه

اعلم إن المشتقات التی هی محل النزاع بأجمعها هی من الأسماء. و الأسماء مطلقا لا دلاله لها علی الزمان حتی اسم الفاعل و اسم المفعول فإنه کما یصدق العالم حقیقه علی من هو عالم فعلا کذلک یصدق حقیقه علی من کان عالما فیم مضی أو یکون عالما فیما یأتی بلا تجوز إذا کان إطلاقه علیه بلحاظ حال التلبس بالمبدأ، کما إذا قلنا: کان عالما أو سیکون عالما، فإن ذلک حقیقه بلا ریب، نظیر الجوأمد لو تقول فیها مثلا: الرماد کان خشبا أو الخشب سیکون رمادا. فأذن إذا کان الأمر کذلک فما موقع النزاع فی إطلاق المشتق علی ما مضی علیه التلبس إنه حقیقه أو مجاز؟

نقول: إن الإشکال و النزاع هنا إنما هو فیما إذا انقضی التلبس بالمبدأ و أرید إطلاق المشتق فعلا علی الذات التی انقضی عنها التلبس، أی إن الإطلاق علیها بلحاظ حال النسبه و الإسناد الذی هو حال النطق غالبا، کان تقول مثلا: (زید عالم فعلا) أی إنه الآن موصوف بأنه عالم، لأنه کان فیما مضی عالما، کمثال إثبات الکراهه للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعمیم لفظ المسخن فی الدلیل لما کان مسخن.

ص 52

فتحصل مما ذکرناه ثلاثه أمور:

1 - إن إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقه مطلقا، سواء کان بالنظر إلی ما مضی أو الحال أو المستقبل. و ذلک بالاتفاق.

2 - إن إطلاقه علی الذات فعلا بلحاظ حال النسبه و الإسناد قبل زمان التلبس لأنه سیتلبس به فیم بعد، مجاز بلا إشکال و ذلک بعلاقه الأول أو المشارفه. و هذا متفق علیه أیضا.

3 - إن إطلاقه علی الذات فعلا - أی بلحاظ حال النسبه و الإسناد - لأنه کان متصفا به سابقا، هو محل الخلاف و النزاع فقال قوم بأنه حقیقه و قال آخرون بأنه مجاز.

المختار:

إذ عرفت ما تقدم من الأمور، فنقول: الحق إن المشتق حقیقه فی خصوص المتلبس بالمبدأ و مجاز فی غیره. و (دلیلنا) التبادر و صحه السلب عمن زال عنه الوصف، فلا یقال لمن هو قاعد بالفعل: إنه قائم. و لا لمن هو جاهل بالفعل: إنه عالم. و ذلک لمجرد إنه کان قائما أو عالما فیما سبق. نعم یصح ذلک علی نحو المجاز، أو یقال:

إنه کان قائما أو عالما، فیکون حقیقه حینئذ، إذ یکون الإطلاق بلحاظ حال التلبس. و عدم تفرقه بعضهم بین الإطلاق بلحاظ حال التلبس و بین الإطلاق بلحاظ حال النسبه و الإسناد هو الذی أوهم القول بوضع المشتق للأعم، إذ وجد إن الاستعمال یکون علی نحو الحقیقه فعلا مع إن التلبس قد مضی، ولکنه غفل عن إن الإطلاق کان بلحاظ حال التلبس، فلم یستعمله - فی الحقیقه - الا فی خصوص المتلبس بالمبدأ، لا فیما مضی عنه التلبس حتی یکون شاهدا له. ثم إنک عرفت - فیما سبق - إن زوال الوصف یختلف باختلاف

ص 53

المواد من جهه کون المبدأ أخذ علی نحو الفعلیه، أو علی نحو الملکه أو الحرفه. فمثل صدق الطبیب حقیقه علی من لا یشتغل بالطبابه فعلا لنوم أو راحه أو أکل لا یکشف عن کون المشتق حقیقه فی الأعم - کما قیل - و ذلک لأن المبدأ فیه أخذ علی نحو الحرفه أو الملکه و هذا لم یزل تلبسه به حین النوم أو الراحه. نعم إذا زالت الملکه أو الحرفه عنه کان إطلاق الطبیب علیه مجازا، إذا لم یکن بلحاظ حال التلبس کما قیل: هذا طبیبن بالأمس، بأن یکون قید (بالأمس) لبیان حال التلبس. فإن هذا الاستعمال لا شک فی کونه علی نحو الحقیقه. و قد سبق بیان ذلک.

ص 55

الباب الثانی: الاوامر
اشاره

الباب الثانی: الاوامر

الاوامر:

وفیه بحثان:

- فی ماده الأمر

- و صیغه الأمر

- و خاتمه فی تقسیمات الواجب

المبحث الأول ماده الأمر

المبحث الأول ماده الأمر

ماد ه الامر:

وهی کلمه (الأمر) المؤلفه من الحروف (أ. م. ر) و فیها ثلاث مسائل

1 - معنی کلمه الأمر

قیل: إن کلمه (الأمر) لفظ مشترک بین الطلب و غیره مم تستعمل فیه هذه الکلمه، کالحادثه و الشأن و الفعل، کما تقول (جئت لأمر کذا)، أو (شغلنی أمر) أو (أتی فلأن بأمر عجیب). و لا یبعد إن تکون المعانی التی تستعمل فیه کلمه الأمر ما خلا الطلب ترجع إلی معنی واحد جأمع بینها و هو مفهوم (الشیء). فیکون لفظ الأمر مشترکا بین معنیین فقط: (الطلب) و (الشیء). و المراد من الطلب: إظهار الإراده و الرغبه بالقول أو الکتابه أو الإشاره أو نحو هذه الأمور مما یصح إظهار الإراده و الرغبه و إبرازهما به (1) فمجرد الإراده و الرغبه من دون إظهارها بمظهر ل تسمی طلبا. و الظاهر إنه لیس کل طلب یسمی أمرا، بل بشرط مخصوص سیأتی ذکره فی المسأله الثانیه فتفسیر الأمر بالطلب من باب تعریف الشیء بالأعم.

(هامش)

(1) و الظاهر إن تفسیر بعض الأصولیین للفظ الأمر بأنه (الطلب بالقول) لیس القصد منه إن لهم اصطلاحا مخصوصا فیه، بل باعتبار إنه أحد مصادیق المعنی. فإن الأمر کما یصدق علی الطلب بالقول یصدق علی الطلب بالکتابه أو الإشاره أو نحوهم.

ص 58

والمراد من الشیء من لفظ الأمر أیضا لیس کل شیء علی الإطلاق، فیکون تفسیره به من باب تعریف الشیء بالأعم أیضا، فإن الشیء لا یقال له (أمر) الا إذا کان من الأفعال و الصفات و لذا لا یقال:

رأیت أمر إذا رأیت إنسانا أو شجرا أو حائطا. و لکن لیس المراد من الفعل و الصفه المعنی الحدثی أی المعنی المصدری بل المراد منه نفس الفعل أو الصفه بما هو موجود فی نفسه. یعنی لم یلاحظ فیه جهه الصدور من الفاعل و الإیجاد و هو المعبر عنه عند بعضهم بالمعنی: الاسم المصدری، أی ما یدل علیه اسم المصدر. ولذ لا یشتق منه فلا یقال:

(أمر. یأمر. أمر. مأمور) بالمعنی المأخوذ من الشیء و لو کان معنی حدثیا لاشتق منه. بخلاف الأمر بمعنی الطلب فإن المقصود منه المعنی الحدثی وجهه الصدور و الإیجاد و لذا یشتق منه فیقال:

(أمر. یأمر. أمر. مأمور). و الدلیل علی إن لفظ الأمر مشترک بین معنیین الطلب و الشیء، لا إنه موضوع للجأمع بینهما:

1 - إن (الأمر) - کما تقدم - بمعنی الطلب یصح الاشتقاق منه و لا یصح الاشتقاق منه بمعنی الشیء. و الاختلاف بالاشتقاق و عدمه دلیل علی تعدد الوضع.

2 - إن (الأمر) بمعنی الطلب یجمع علی أوأمر و بمعنی الشیء علی (أمور) و اختلاف الجمع فی المعنیین دلیل علی تعدد الوضع.

2 - اعتبار العلو فی معنی الأمر

قد سبق إن الأمر یکون بمعنی الطلب و لکن لا مطلقا بل بمعنی طلب مخصوص. و الظاهر إن الطلب المخصوص هو الطلب من العالی إلی الدانی، فیعتبر فیه العلو فی الأمر. و علیه لا یسمی الطلب من الدانی إلی العالی أمرا، بل یسمی (استدعاء). و کذا لا یسمی الطلب من المساوی إلی مساویه فی العلو أو الحطه أمرا، بل یسمی (التماسا) و إن استعمل الدانی أو المساوی و أظهر علوه

ص 59

وترفعه و لیس هو بعال حقیقه. أما العالی فطلبه یکون أمرا و إن لم یکن متظاهرا بالعلو. کل هذا بحکم التبادر و صحه سلب الأمر عن طلب غیر العالی و لا یصح إطلاق الأمر علی الطلب من غیر العالی الا بنحو العنایه و المجاز و إن استعلی.

3- دلاله لفظ الأمر علی الوجوب

اختلفوا فی دلاله لفظ الأمر بمعنی (الطلب) علی الوجوب، فقیل: إنه موضوع لخصوص الطلب الوجوبی. و قیل: للأعم منه و من الطلب الندبی. و قیل مشترک بینهما اشتراک لفظیا. و قیل غیر ذلک. و الحق عندنا إنه دال علی الوجوب و ظاهر فیه، فیما إذا کان مجردا و عاریا عن قرینه علی الاستحباب. و إحراز هذا الظهور بهذا المقدار کاف فی صحه استنباط الوجوب من الدلیل الذی یتضمن کلمه (الأمر) و لا یحتاج إلی إثبات منشأ هذ الظهور هل هو الوضع أو شیء آخر. و لکن من ناحیه علمیه صرفه یحسن إن نفهم منشأ هذ الظهور، فقد قیل: إن معنی الوجوب مأخوذ قیدا فی الموضوع له لفظ الأمر. و قیل: مأخوذ قیدا فی المستعمل فیه إن لم یکن مأخوذا فی الموضوع له. و الحق إنه لیس قیدا فی الموضوع له و لا فی المستعمل فیه. بل منشأ هذا الظهور من جهه حکم العقل بوجوب طاعه الأمر، فإن العقل یستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولی و الإنزجار عن زجره، قضاء لحق المولویه و العبودیه، فبمجرد بعث المولی یجد العقل إنه لا بد للعبد من الطاعه و الانبعاث ما لم یرخص فی ترکه و یأذن فی مخالفته. فلیس المدلول للفظ الأمر الا الطلب من العالی و لکن العقل هو الذی یلزم العبد الانبعاث و یوجب علیه الطاعه لأمر المولی ما لم یصرح المولی بالترخیص و یأذن بالترک.

ص 60

وعلیه فلا یکون استعماله فی موارد الندب مغایرا لاستعماله فی موارد الوجوب من جهه المعنی المستعمل فیه اللفظ. فلیس هو موضوعا للوجوب، بل و لا موضوعا للأعم من الوجوب و الندب، لأن الوجوب و الندب لیسا من التقسیمات اللاحقه للمعنی المستعمل فیه اللفظ، بل من التقسیمات اللاحقه للأمر بعد استعماله فی معناه الموضوع له.

ص 61

المبحث الثانی صیغه الأمر
1 - معنی صیغه الأمر

صیغه الأمر، أی هیئته، کصیغه افعل و نحوها (1): تستعمل فی موارد کثیره: (منها) البعث، کقوله تعالی (فأقیموا الصلاه). (أوفوا بالعقود). و (منها) التهدید، کقوله تعالی: (اعملوا ما شئتم). و (منه) التعجیز، کقوله تعالی: (فأتوا بسوره من مثله). و غیر ذلک، من التسخیر و الإنذار و الترجی و التمنی و نحوها. و لکن الظاهر إن الهیئه فی جمیع هذه المعانی استعملت فی معنی واحد، لکن لیس هو واحدا من هذه المعانی، لأن الهیئه مثل (افعل) شأنها شأن الهیئات الأخری وضعت لإفاده نسبه خاصه کالحروف و لم توضع لإفاده معان مستقله، فل یصح إن یراد منها مفاهیم هذه المعانی المذکوره التی هی معان اسمیه. و علیه، فالحق إنها موضوعه للنسبه الخاصه القائمه بین المتکلم و المخاطب و الماده و المقصود من الماده الحدث الذی وقع علیه مفاد الهیئه، مثل الضرب و القیأم و القعود فی اضرب و قم و اقعد و نحو ذلک. و حینئذ ینتزع منها عنوان

(هامش)

(1) المقصود بنحو صیغه أفعل: أیه صیغه و کلمه تؤدی مؤداها فی الدلاله علی الطلب و البعث، کالفعل المضارع المقرون بلأم الأمر أو المجرد منه إذا قصد به إنشاء الطلب نحو قولنا: (تصلی. تغتسل. أطلب منک کذا) أو جمله اسمیه نحو (هذا مطلوب منک) أو اسم فعل نحو: صه و مه و مهلا و غیر ذلک.

ص 62

طالب و مطلوب منه و مطلوب. فقولنا: (اضرب)، یدل علی النسبه الطلبیه بین الضرب و المتکلم و المخاطب و معنی ذلک جعل الضرب علی عهده المخاطب و بعثه نحوه و تحریکه إلیه و جعل الداعی فی نفسه للفعل. و علی هذا فمدلول هیئه الأمر و مفادها هو النسبه الطلبیه و إن شئت فسمها النسبه البعثیه، لغرض إبراز جعل المأمور به - أی المطلوب - فی عهده المخاطب و جعل الداعی فی نفسه و تحریکه و بعثه نحوه. ما شئت فعبر. غیر إن هذا الجعل أو الإنشاء یختلف فیه الداعی له من قبل المتکلم، (فتاره) یکون الداعی له هو البعث الحقیقی و جعل الداعی فی نفس المخاطب لفعل المأمور به، فیکون هذا الإنشاء حینئذ مصداقا للبعث و التحریک و جعل الداعی، أو إن شئت فقل یکون مصداقا للطلب، فإن المقصود واحد. و (أخری) یکون الداعی له هو التهدید، فیکون مصداقا للتهدید و یکون تهدید بالحمل الشایع. و (ثالثه) یکون الداعی له هو التعجیز فیکون مصداقا للتعجیز و تعجیز بالحمل الشایع. . و هکذا فی باقی المعانی المذکوره و غیرها. و الی هنا یتجلی ما نرید إن نوضحه، فإنا نرید إن نقول بنص العباره. إن البعث أو التهدید أو التعجیز أو نحوه لیست هی معانی لهیئه الأمر قد استعملت فی مفاهیمها - کما ظنه القوم - لا معانی حقیقه و لا مجازیه. بل الحق إن المنشأ بها لیس الا النسبه الطلبیه الخاصه و هذ الإنشاء یکون مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعی فیکون تاره بعثا بالحمل الشایع و أخری تهدیدا بالحمل الشایع و هکذا. لا إن هذه المفاهیم مدلوله للهیئه و منشأه بها حتی مفهوم البعث و الطلب. لاختلطوا فی الوهم بین المفهوم و المصداق هو الذی جعل أولئک یظنون إن هذه الأمور مفاهیم لهیئه الأمر و قد استعملت فیها استعمال اللفظ فی معناه، حتی اختلفوا فی إنه أیها المعنی الحقیقی الموضوع له الهیئه و أیها المعنی المجازی.

ص 63

2 - ظهور الصیغه فی الوجوب
اشاره

اختلف الأصولیون فی ظهور صیغه الأمر فی الوجوب و فی کیفیته علی أقوال. و الخلاف یشمل صیغه افعل و ما شابهها و ما بمعناها من صیغ الأمر. و الأقوال فی المسأله کثیره و أهمها قولان: (أحدهما) إنها ظاهره فی الوجوب،، أم کونها موضوعه فیه، أو من جهه انصراف الطلب إلی أکمل الأفراد. (ثانیهما) إنها حقیقه فی القدر المشترک بین الوجوب و الندب و هو - أی القدر المشترک - مطلق الطلب الشامل لهما من دون إن تکون ظاهره فی أحدهما. و الحق إنها ظاهره فی الوجوب و لکن لا من جهه کونها موضوعه للوجوب و لا من جهه کونها موضوعه لمطلق الطلب و إن الوجوب أظهر أفراده. و شأنها فی ظهورها فی الوجوب شأن ماده الأمر علی ما تقدم هناک، من إن الوجوب یستفاد من حکم العقل بلزوم إطاعه أمر المولی و وجوب الانبعاث عن بعثه، قضاء لحق المولویه و العبودیه، ما لم یرخص نفس المولی بالترک و یأذن به. و بدون الترخیص فالأمر لو خلی و طبعه شأنه إن یکون من مصادیق حکم العقل بوجوب الطاعه. فیکون الظهور هذا لیس من نحو الظهورات اللفظیه و لا الدلاله هذه علی الوجوب من نوع الدلالات الکلامیه. إذ صیغه الأمر - کماده الأمر - لا تستعمل فی مفهوم الوجوب لا استعمالا حقیقیا و لا مجازیا، لأن الوجوب کالندب أمر خارج عن حقیقه مدلولها و لا من کیفیاته و أحواله. و تمتاز الصیغه عن ماده کلمه الأمر إن الصیغه لا تدل إلا علی النسبه الطلبیه کما تقدم، فهی بطریق أولی لا تصلح للدلاله علی الوجوب الذی هو مفهوم اسمی و کذا الندب. و علی هذ فالمستعمل فیه الصیغه علی کلا الحالین (الوجوب و الندب) واحد لا اختلاف فیه. و استفاده الوجوب - علی تقدیر تجردها عن القرینه علی أذن الأمر بالترک - إنما هو حکم کالعقل کما قلنا، إذ هو من لوازم صدور

ص 64

الأمر من المولی. و یشهد لما ذکرناه من کون المستعمل فیه واحدا فی مورد الوجوب و الندب ما جاء فی کثیر من الأحادیث من الجمع بین الواجبات و المندوبات بصیغه واحده و أمر واحد أو أسلوب واحد مع تعدد الأمر. و لو کان الوجوب و الندب من قبیل المعنیین للصیغه لکان ذلک فی الأغلب من باب استعمال اللفظ فی أکثر من معنی و هو مستحیل، أو تأویله بإراده مطلق الطلب البعید أرادته من مساق الأحادیث فإنه تجوز - علی تقدیره - لا شاهد له و لا یساعد علیه أسلوب الأحادیث الوارده.

تنبیهان

تنبیهان:

(الأول) ظهور الجمله الخبریه الداله علی الطلب فی الوجوب.

اعلم إن الجمله الخبریه فی مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صیغه إفعل فی ظهورها فی الوجوب، کما أشرنا إلیه سابقا، بقولن صیغه افعل و ما شابهه. و الجمله الخبریه مثل قول: یغتسل. یتوضأ. یصلی بعد السؤال عن شیء یقتضی مثل هذا الجواب و نحو ذلک. و السر فی ذلک إن المناط فی الجمیع، واحد فإنه إذا ثبت البعث من المولی بأی مظهر کان و بأی لفظ کان، فلا بد إن یتبعه حکم العقل بلزوم الانبعاث ما لم یأذن المولی بترکه. بل ربما یقال إن دلاله الجمله الخبریه علی الوجوب آکد، لأنها فی الحقیقه أخبار عن تحقق الفعل بادعاء إن وقوع الامتثال من المکلف مفروغ عنه.

(الثانی) ظهور الأمر بعد الحظر أو توهمه.

قد یقع إنشاء الأمر بعد تقدم الحظر - أی المنع - أو عند توهم الحظر، کما لو منع الطبیب المریض عن شرب الماء، ثم قال له: اشرب الماء. أو قال ذلک عندما یتوهم المریض إنه ممنوع منه و محظور علیه شربه. و قد اختلف الأصولیون فی مثل هذا الأمر إنه هل هو ظاهر فی الوجوب

ص 65

أو ظاهر فی الإباحه، أو الترخیص فقط أی رفع المنع فقط من دون التعرض لثبوت حکم آخر من إباحه أو غیرها، أو یرجع إلی ما کان علیه سابقا قبل المنع؟ علی أقوال کثیره. و أصح الأقوال هو الثالث و هو دلالتها علی الترخیص فقط. و الوجه فی ذلک: إنک قد عرفت إن دلاله الأمر علی الوجوب إنما تنشأ من حکم العقل بلزوم الانبعاث ما لم یثبت الأذن بالترک. و منه تستطیع إن تتفطن إنه لا دلاله للأمر فی المقام علی الوجوب، لأنه لیس فیه دلاله علی البعث و إنما هو ترخیص فی العقل لا أکثر. و أوضح من هذا إن نقول: إن مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعی الترخیص فی الفعل و الإذن به، فهو لا یکون الا ترخیص و إذنا بالحمل الشایع. و لا یکون بعثا الا إذا کان الإنشاء بداعی البعث. و وقوعه بعد الحظر أو توهمه قرینه علی کونه بداعی البعث، فلا یکون دالا علی الوجوب. و عدم دلالته علی الإباحه بطریق أولی. فیرجع فیه إلی دلیل آخر من أصل أو أماره. مثاله قوله تعالی: و إذا حللتم فاصطادو فإنه أمر بعد الحظر عن الصید حال الإحرأم فلا یدل علی وجوب الصید. نعم لو اقترن الکلام بقرینه خاصه علی إن الأمر صدر بداعی البعث أو لغرض بیان إباحه الفعل فإنه حینئذ یدل علی الوجوب أو الإباحه. و لکن هذا أمر آخر ل کلأم فیه، فإن الکلام فی فرض صدور الأمر بعد الحظر أو توهمه مجردا عن کل قرینه أخری غیر هذه القرینه.

3 - التعبدی و التوصلی

3 - التعبدی و التوصلی

تمهید:

کل متفقه یعرف إن فی الشریعه المقدسه واجبات لا تصح و لا تسقط أوأمرها الا بإتیانها قریبه إلی وجه الله تعالی. و کونه قریبه إنما هو بإتیانها بقصد امتثال أوأمرها أو بغیره من وجوه قصد

ص 66

القربه إلی الله تعالی، علی ما ستأتی الإشاره إلیها. و تسمی هذه الواجبات (العبادیات) أو (التعبدیات) کالصلاه و الصوم و نحوها. و هناک واجبات أخری تسمی (التوصلیات) و هی التی تسقط أوأمرها بمجرد وجودها و إن لم یقصد بها القربه، کإنقاذ الغریق و أداء الدین و دفن المیت و تطهیر الثوب و البدن للصلاه و نحو ذلک. و للتعبدی و التوصلی تعریف آخر کان مشهورا عند القدماء. و هو إن التوصلی: (ما کان الداعی للأمر به معلوما) و فی قباله التعبدی و هو: (ما لم یعلم الغرض منه). و إنما سمی تعبدیا لأن الغرض الداعی للمأمور لیس الا التعبد بأمر المولی فقط. و لکن التعریف غیر صحیح ال إذا أرید به اصطلاح ثان للتعبدی و التوصلی، فیراد بالتعبد التسلیم لله تعالی فیم أمر به و إن کان المأمور به توصلیا بالمعنی الأول، کما یقولون مثلا: (نعمل هذ تعبدا) و یقولون: (نعمل هذا من باب التعبد) أی نعمل هذا من باب التسلیم لأمر الله و إن لم نعلم المصلحه فیه. و علی ما تقدم من بیان معنی التوصلی و التعبدی - المصطلح الأول - فإن علم حال واجب بأنه تعبدی أو توصلی فلا إشکال و إن شک فی ذلک فهل الأصل کونه تعبدیا أو توصلیا؟ فیه خلاف بین الأصولیین. و ینبغی لتوضیح ذلک و بیان المختار تقدیم أمور:

(1) منشأ الخلاف و تحریره:

إن منشأ الخلاف هنا هو الخلاف فی أمکان اخذ قصد القربه فی متعلق الأمر - کالصلاه مثلا - قیدا له علی نحو الجزء أو الشرط، علی و جه یکون المأمور به المتعلق للأمر هو الصلاه المأتی بها بقصد القربه، بهذا القید، کقید الطهاره فیها إذ یکون المأمور به الصلاه عن طهاره المجرده عن هذا القید من حیث هی هی. فمن قال بأمکان أخذ هذا القید - و هو قصد القربه - کان مقتضی الأصل عنده التوصلیه، الا إذا دل دلیل خاص علی التعبدیه، کسائر القیود الأخری،

ص 67

لما عرفت إن إطلاق کلأم المولی حجه یجب الأخذ به ما لم یثبت التقیید، فعند الشک فی اعتبار قید یمکن أخذه فی المأمور به فالمرجع (أصاله الإطلاق) لنفی اعتبار ذلک القید. و من قال باستحاله أخذ قید قصد القربه فلیس له التمسک بالإطلاق، لأن الإطلاق لیس الا عباره عن عدم التقیید فیما من شأنه التقیید، لأن التقابل بینهما من باب تقابل العدم و الملکه (الملکه هی التقیید و عدمها الإطلاق). و إذا استحالت الملکه استحال عدمها بما هو عدم ملکه، لا بما هو عدم مطلق. و هذا واضح لأنه إذا کان التقیید مستحیلا فعدم التقیید فی لسان الدلیل لا یستکشف منه إراده الإطلاق، فإن عدم التقیید یجوز إن یکون لاستحاله التقیید و یجوز إن یکون لعدم إراده التقیید و لا طریق لإثبات الثانی بمجرد عدم ذکر القید وحده. و بعد هذا نقول: إذا شککنا فی اعتبار شیء فی مراد المولی و ما تعلق به غرضه واقعا و لم یمکن له بیانه. فلا محاله یرجع ذلک إلی الشک فی سقوط الأمر إذا خلا المأتی به من ذلک القید الا شکوک. و عند الشک فی سقوط الأمر - أی فی امتثاله - یحکم العقل بلزوم الإتیان به مع القید المشکوک کیما یحصل له العلم بفراغ ذمته من التکلیف، لأنه إذا اشتغلت الذمه بواجب یقینا فلا بد من إحراز الفراغ منه فی حکم العقل. و هذا معنی ما اشتهر فی لسان الأصولیین من قولهم: (الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی). و هذا ما یسمی عندهم بأصل الاشتغال أو أصاله الاحتیاط

(ب) محل الخلاف من وجوه قصد القربه:

إن محل الخلاف فی المقام هو أمکان اخذ قصد امتثال الأمر فی المأمور به. و أما غیر قصد الامتثال من وجوه قصد القربه، کقصد محبوبیه الفعل المأمور به الذاتیه باعتبار إن کل مأمور به لا بد إن یکون محبوب للأمر و مرغوبا فیه عنده و کقصد التقرب إلی الله تعالی محضا بالفعل لا من جهه قصد امتثال أمره بل رجاءا لرضاه و نحو ذلک من وجوه قصد القربه فإن کل

ص 68

هذه الوجوه لا مانع قطعا من اخذها قیدا للمأمور به و لا یلزم المحال الذی ذکروه فی أخذ قصد الامتثال علی ما سیأتی. و لکن الشأن فی إن هذه الوجوه هل هی مأخوذه فی المأمور به فعلا علی نحو لا تکون العباده عباده الا بها؟ الحق إنه لم یؤخذ شیء منها فی المأمور به. و الدلیل علی ذلک ما نجده من الاتفاق علی صحه العباده - کالصلاه مثلا - إذا أتی بها بداعی أمره مع عدم قصد الوجوه الأخری. و لو کان غیر قصد الامتثال من وجوه القربه مأخوذا فی المأمور به لما صحت العباده و لما سقط أمرها بمجرد الإتیان بداعی أمرها بدون قصد ذلک الوجه. فالخلاف - أذن - منحصر فی أمکان أخذ قصد الامتثال و استحالته.

(ج) الإطلاق و التقیید فی التقسیمات الأولیه للواجب:

إن کل واجب فی نفسه له تقسیمات باعتبار الخصوصیات التی یمکن إن تلحقه فی الخارج، مثلا - الصلاه تنقسم فی ذاتها مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها إلی:

1 - ذات سوره و فاقدتها.

2 - ذات تسلیم و فاقدته.

3 - صلاه عن طهاره و فاقدتها.

4 - صلاه مستقبل بها القبله و غیر مستقبل بها.

5 - صلاه مع الساتر و بدونه. و هکذا یمکن تقسیمها إلی ما شاء الله من الأقسأم بملاحظه أجزائها و شروطها و ملاحظه کل ما یمکن فرض اعتباره فیها و عدمه. و تسمی مثل هذه التقسیمات: التقسیمات الأولیه، لأنه تقسیمات تلحقها فی ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلق شیء بها و تقابله التقسیمات الثانویه التی تلحقها بعد فرض تعلق شیء بها کالأمر مثلا و سیأتی ذکره.

ص 69

فإذا نظرنا إلی هذه التقسیمات الأولیه للواجب فالحکم بالوجوب بالقیاس إلی کل خصوصیه منها لا یخلو فی الواقع من أحد احتمالات ثلاثه:

(1) إن یکون مقیدا بوجودها و یسمی ب (شرط شیء) مثل شرط الطهاره و الساتر و إلاستقبال و السوره و الرکوع و السجود و غیره من إجزاء و شرائط بالنسبه إلی الصلاه.

(2) إن یکون مقیدا بعدمها و یسمی ب شرط ل، مثل شرط الصلاه بعدم الکلام و القهقهه و الحدیث، إلی غیر ذلک من قواطع الصلاه.

(3 إن یکون مطلقا بالنسبه الیهما أی غیر مقید بوجودها و لا بعدمها و یسمی (لا بشرط)، مثل عدم اشتراط الصلاه بالقنوت، فإن و جوبها غیر مقید بوجوده و لا بعدمه. هذا فی مرحله الواقع و الثبوت و أما فی مرحله الإثبات و الدلاله، فإن الدلیل الذی یدل علی وجوب شیء إن دل علی اعتبار قید فیه أو علی اعتبار عدمه فذاک و إن لم یکن الدلیل متضمنا لبیان التقیید بما هو محتمل التقیید لا وجودا و لا عدما، فإن المرجع فی ذلک هو أصاله الإطلاق، إذا توفرت المقدمات المصححه للتمسک بأصاله الإطلاق علی ما سیأتی فی بابه - و هو باب المطلق و المقید - و بأصاله الإطلاق بستکشف إن إراده المتکلم الأمر متعلقه بالمطلق واقعا، أی إن الواجب لم یؤخذ بالنسبه إلی القید ال علی نحو اللابشرط.

(د) عدم أمکان الإطلاق و التقیید فی التقسیمات الثانویه:

للواجب و الخلاصه إنه لا مانع من التمسک بالإطلاق لرفع احتمال التقیید فی التقسیمات الأولیه. ثم إن کل واجب - بعد ثبوت الوجوب و تعلیق الأمر به واقعا - ینقسم إلی م یؤتی به فی الخارج بداعی أمره و ما یؤتی به لا بداعی أمره. ثم ینقسم أیضا إلی معلوم الواجب و مجهوله. و هذه التقسیمات تسمی التقسیمات الثانویه لأنها من لواحق الحکم و بعد فرض

ص 70

ثبوت الوجوب واقعا، إذ قبل تحقق الحکم لا معنی لفرض إتیان الصلاه - مثلا - بداعی أمرها، لأن المفروض فی هذه الحاله لا أمر بها حتی یمکن فرض قصده. و کذا الحال بالنسبه إلی العلم و الجهل بالحکم. و فی مثل هذه التقسیمات یستحیل التقیید أی تقیید المأمور به، لأن قصد امتثال الأمر - مثلا - فرع وجود الأمر، فکیف یعقل إن یکون الأمر مقیدا به و لازمه إن یکون الأمر فرع قصد الأمر و قد کان قصد الأمر فرع وجود الأمر، فیلزم إن یکون المتقدم متأخرا و المتأخر متقدما. و هذا خلف أو دور. و إذ استحال التقیید استحال الإطلاق أیضا، لما قلنا سابقا إن الإطلاق من قبیل عدم الملکه بالقیاس إلی التقیید فلا یفرض الا فی مورد قابل للتقیید و مع عدم أمکان التقیید ل یستکشف من عدم التقیید إراده الإطلاق.

(النتیجه) و إذا عرفنا هذه المقدمات یحسن بن إن نرجع إلی صلب الموضوع، فنقول: قد اختلف الأصولیون فی إن الأصل فی الواجب - إذ شک فی کونه تعبدیا أو توصلیا - هل إنه تعبدی أو توصلی؟ ذهب جماعه إلی إن الأصل فی الواجبات إن تکون عبادیه الا إن یقوم دلیل خاص علی عدم دخل قصد القربه فی المأمور به، لأنه لا بد من الإتیان به تحصیلا للفراغ الیقینی مع عدم الدلیل علی الاکتفاء بدونه و لا یمکن التمسک بالإطلاق لنفیه حسب الفرض. و قد تقدم ذلک فی الأمر الأول. فتکون أصاله الاحتیاط فی المرجع هنا و هی تقتضی العبادیه. و ذهب جماعه إلی إن الأصل فی الواجبات إن تکون توصلیه، لا لأجل التمسک بأصاله الإطلاق فی نفس الأمر و لا لأجل أصاله البراءه من اعتبار قید القربه، بل نتمسک لذلک بإطلاق المقام. توضیح ذلک: إنه لاریب فی إن المأمور به إطلاقا و تقییدا یتبع الغرض سعه و ضیقا، فإن کان القید دخیل فی الغرض فلا بد من بیانه و أخذه فی المأمور به قیدا و إلا فل.

ص 71

غیر إن ذلک فیما یمکن أخذه من القیود فی المأمور به - کما فی التقسیمات الأولیه. أما مالا یمکن أخذه فی المأمور به قید ا - کالذی نحن فیه و هو قید قصد الامتثال - فلا یصح من الأمر إن یتغافل عنه حیث لا یمکن أخذه قیدا فی الکلام الواحد المتضمن للأمر، بل لا مناص له من أتباع طریقه أخری ممکنه لاستیفاء غرضه و لو بأنشاء أمرین أحدهما یتعلق بذات الفعل مجردا عن القید و الثانی یتعلق بالقید. مثلا - لو فرض إن غرض المولی قائم بالصلاه المأتی بها بداعی أمرها فإنه إذا لم یمکن تقیید المأمور به بذلک فی نفس الأمر المتعلق بها لما عرفت من امتناع التقیید فی التقسیمات الثانویه. . فلا بد له (أی الأمر) لتحصیل غرضه إن یسلک طریقه أخری کان یأمر أولا بالصلاه ثم یأمر ثانیا بإتیانها بداعی أمرها الأول، مبینا ذلک بصریح العباره. و هذان الأمران یکونان فی حکم أمر واحد ثبوتا و سقوطا، لأنهما ناشیءإن من غرض واحد و الثانی یکون بیانا للأول، فمع عدم امتثال الأمر الثانی لا یسقط الأمر الأول بامتثاله فقط و ذلک بأن یأتی بالصلاه مجرده عن قصد أمرها، فیکون الأمر الثانی بأنضمأمه إلی الأول مشترکا مع التقیید فی النتیجه و إن لم یسم تقییدا اصطلاحا. إذا عرفت ذلک، فإذا أمر المولی بشیء - و کان فی مقام البیان - و اکتفی بهذا الأمر و لم یلحقه بما یکون بیان له فلم یأمر ثانیا بقصد الامتثال، فإنه یستکشف منه عدم دخل قصد الامتثال فی الغرض و إلا لبینه بأمر ثان. و هذا ما سمیناه بإطلاق المقام. و علیه، فالأصل فی الواجبات کونها توصلیه حتی یثبت بالدلیل إنها تعبدیه.

4 - الواجب العینی و إطلاق الصیغه

4 - الواجب العینی و إطلاق الصیغه

الواجب العینی: (ما یتعلق بکل مکلف و لا یسقط بفعل الغیر) کالصلاه

ص 72

الیومیه و الصوم. و یقابله الواجب الکفائی و هو: (المطلوب فیه وجود الفعل من أی مکلف کان) فیسقط بفعل بعض المکلفین عن الباقی، کالصلاه عن المیت و تغسیله و دفنه. و سیأتی فی تقسیمات الواجب ذکرهما. و فیما یتعلق فی مسأله تشخیص الظهور نقول: إن دل الدلیل علی إن الواجب عینی أو کفائی فذاک و إن لم یدل فإن إطلاق صیغه افعل تقتضی إن یکون عینیا سواء أتی بذلک العمل شخص آخر أم لم یأت به، فإن العقل یحکم بلزوم امتثال الأمر ما لم یعلم سقوطه بفعل الغیر. فالمحتاج إلی مزید البیان علی أصل الصیغه هو الواجب الکفائی، فإذا لم ینصب المولی قرینه علی أرادته - کما هو المفروض - یعلم إن مراده الوجوب العینی.

5 - الواجب التعیینی و إطلاق الصیغه

5 - الواجب التعیینی و إطلاق الصیغه

الواجب التعیینی: هو (الواجب بلا واجب آخر یکون عدلا له و بدیلا عنه فی عرضه) کالصلاه الیومیه. و یقابله الواجب التخییری کخصال کفاره الإفطار العمدی فی صوم رمضان، المخیره بین إطعام ستین مسکینا و صوم شهرین متتابعین و عتق رقبه. و سیأتی فی الخاتمه توضیح الواجب التعیینی و التخییری. فإذا علم واجب إنه من أی القسمین فذاک و إلا فمقتضی إطلاق صیغه الأمر وجوب ذلک الفعل سواء أتی بفعل آخر أم لم یأت به، فالقاعده تقتضی عدم سقوطه بفعل شیء آخر، لأن التخییر محتاج إلی مزید بیان مفقود.

6 - الواجب النفسی و إطلاق الصیغه

6 - الواجب النفسی و إطلاق الصیغه

الواجب النفسی: هو (الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر) کالصلاه الیومیه. و یقابله الواجب الغیری کالوضوء فإنه إنما یجب مقدمه للصلاه الواجبه، لا لنفسه إذ لو لم تجب الصلاه لما وجب الوضوء. فإذا شک فی واجب إنه نفسی أو غیری فمقتضی إطلاق تعلق الأمر به

ص 73

سواء وجب شیء آخر أم لا، إنه واجب نفسی. فالإطلاق یقتضی النفسیه ما لم تثبت الغیریه.

7 - الفور و التراخی

7 - الفور و التراخی

اختلف الأصولیون فی دلاله صیغه الأمر علی الفور و التراخی علی أقوال.

1 - إنها موضوعه للفور.

2 - إنها موضوعه للتراخی.

3 - إنه موضوعه لهما علی نحو الاشتراک اللفظی.

4 - إنها غیر موضوعه لا للفور و لا للتراخی و لا للأعم منهما، بل لا دلاله لها علی أحدهما بوجه من الوجوه. و إنما یستفاد أحدهم من القرائن الخارجیه التی تختلف باختلاف المقامات. و الحق هوالأخیر. و الدلیل علیه: ما عرفت من إن صیغه افعل إنما تدل علی النسبه الطلبیه، کما إن الماده لم توضع ال لنفس الحدث غیر الملحوظه معه شیء من خصوصیاته الوجودیه. و علیه، فلا دلاله لها - ل بهیئتها و لا بمادتها - علی الفور أو التراخی. بل لا بد من دال آخر علی شیء منهما، فإن تجردت عن الدال الآخر فإن ذلک یقتضی جواز الإتیان بالمأمور به علی الفور أو التراخی. هذا بالنظر إلی نفس الصیغه، أما بالنظر إلی الدلیل الخارجی المنفصل فقد قیل بوجود الدلیل علی الفور فی جمیع الواجبات علی نحو العموم الا ما دل علیه دلیل خاص ینص علی جواز التراخی فیه بالخصوص. و قد ذکروا لذلک أیتین: (الأولی) - قوله تعالی فی سوره آل عمرإن 127: (وسارعوا إلی مغفره من ربکم). و تقریب الاستدلال بها إن المسارعه إلی المغفره لا تکون الا بالمسارعه إلی سببها و هو الإتیان بالمأمور به، لأن المغفره فعل الله تعالی فلا معنی لمسارعه العبد إلیها. و علیه فیکون الاسراع إلی فعل المأمور به واجبا لما مر من ظهور صیغه افعل فی الوجوب.

ص 74

(الثانیه) - قوله تعالی فی سوره البقره 143 و المائده 53: (فاستبقوا الخیرات) فإن الاستباق بالخیرات عباره أخری عن الإتیان بها فورا. و (الجواب) عن الاستدلال بکلت الآیتین: إن الخیرات و سبب المغفره کما تصدق علی الواجبات تصدق علی المستحبات أیضا، فتکون المسارعه و المسابقه شاملتین لما هما فی المستحبات أیضا. و من البدیهی عدم وجوب المسارعه فیها، کیف و هی یجوز ترکها رأسا. و إذا کانتا شاملتین للمستحبات بعمومهم کان ذلک قرینه علی إن طلب المسارعه لیس علی نحوالإلزأم. فلا تبقی لهما دلاله علی الفوریه فی عموم الواجبات. بل لو سلمنا باختصاصهما فی الواجبات لوجب صرف ظهور صیغه افعل فیها فی الوجوب و حملها علی الاستحباب، نظرا إلی إنا نعلم عدم وجوب الفوریه فی أکثر الواجبات، فیلزم تخصیص الأکثر بإخراج أکثر الواجبات عن عمومها. و لا شک إن الإتیان بالکلام عاما مع تخصیص الأکثر و إخراجه من العموم بعد ذلک قبیح فی المحاورات العرفیه و یعد الکلام عند العرف مستهجنا. فهل تری یصح لعارف بأسالیب الکلام إن یقول مثلا: (بعت أموالی)، ثم یستثنی واحدا فواحدا حتی لا یبقی تحت العام إلا القلیل؟ ل شک فی إن هذا الکلام یعد مستهجنا لا یصدر عن حکیم عارف. أذن، لا یبقی مناص من حمل الآیتین علی الاستحباب.

8 - المره و التکرار *

8 - المره و التکرار *

واختلفوا أیضا فی دلاله صیغه افعل علی المره و التکرار علی أقوال،

(هامش)

(*) المره و التکرار لهما معنیان: (الأول): الدفعه و الدفعات، (الثانی): الفرد و الأفراد. و الظاهر إن المراد منهما فی محل النزاع هو المعنی الأول. و الفرق بینهم إن الدفعه قد تتحقق بفرد واحد من الطبیعه المطلوبه و قد تتحقق بأفراد متعدده إذا جئ بها فی زمان واحد. فلذلک تکون الدفعه أعم من الفرد مطلقا، کما إن الأفراد أعم مطلق من الدفعات، لأن الأفراد - کما قلنا - قد تحصل دفعه واحده و قد تحصل بدفعات.

ص 75

کاختلافهم فی الفور و التراخی. و المختار هنا کالمختار هناک و الدلیل نفس الدلیل من عدم دلاله الصیغه لا بهیئتها و لا بمادتها علی المره و لا التکرار، لما عرفت من إنه لا تدل علی أکثر من طلب نفس الطبیعه من حیث هی. فلا بد من دال آخر علی کل منهم. أما الإطلاق فإنه یقتضی الاکتفاء بالمره. و تفصیل ذلک: إن مطلوب المولی لا یخلو من أحد وجوه ثلاثه (و یختلف الحکم فیها من ناحیه جواز الاکتفاء و جواز التکرار):

1 - إن یکون المطلوب صرف وجود الشیء بلا قید و لا شرط، بمعنی إنه یرید ألا یبقی مطلوبه معدوما، بل یخرج من ظلمه العدم إلی نور الوجود لا أکثر و لو بفرد واحد. و لا محاله - حینئذ - ینطبق المطلوب قهرا علی أول وجوداته، فلو أتی المکلف بما أمر به أکثر من مره فالامتثال یکون بالوجود الأول و یکون الثانی لغوا محضا، کالصلاه الیومیه.

2 - إن یکون المطلوب الوجود الواحد بقید الوحده، أی بشرط ألا یزید علی أول وجوداته فلو أتی المکلف حینئذ بالمأمور به مرتین لا یحصل الامتثال أصلا، کتکبیره الإحرأم للصلاه فإن الإتیان بالثانیه عقیب الأولی مبطل للأولی و هی تقع باطله.

3 - إن یکون المطلوب الوجود المتکرر، أما بشرط تکرره فیکون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع، فلا یحصل الامتثال بالمره أصلا کرکعات الصلاه الواحده و أما لا بشرط تکرره بمعنی إنه یکون المطلوب کل واحد من الوجودات کصوم أیأم شهر رمضان، فلکل مره امتثالها الخاص. و لا شک إن الوجهین الأخیرین یحتاجان إلی بیان زائد علی مفاد الصیغه. فلو أطلق المولی و لم یقید بأحد الوجهین - و هو فی مقام البیان - کان إطلاقه دلیلا علی إراده الوجه الأول. و علیه یحصل الامتثال - کما قلنا - بالوجود الأول و لکن لا یضر الوجود الثانی، کم إنه لا أثر له فی الامتثال و غرض المولی. و مما ذکرنا یتضح إن مقتضی الإطلاق جواز الإتیان بأفراد کثیره معا دفعه

ص 76

واحده و یحصل الامتثال بالجمیع. فلو قال المولی: تصدق علی مسکین، فمقتضی الإطلاق جواز الاکتفاء بالتصدق مره واحده علی مسکین واحد و حصول الامتثال بالتصدق علی عده مساکین دفعه واحده و یکون امتثالا واحدا بالجمیع لصدق صرف الوجود علی الجمیع، إذ الامتثال کما یحصل بالفرد الواحد یحصل بالأفراد المجتمعه بالوجود.

9 - هل یدل نسخ الوجوب علی الجواز؟

9 - هل یدل نسخ الوجوب علی الجواز؟

إذا وجب شیء فی زمان بدلاله الأمر، ثم نسخ ذلک الوجوب قطعا. فقد اختلفوا فی بقاء الجواز الذی کان مدلولا للأمر، لأن الأمر کان یدل علی جواز الفعل مع المنع من ترکه، فمنهم من قال ببقاء الجواز و منهم من قال بعدمه. و یرجع النزاع - فی الحقیقه - إلی النزاع فی مقدار دلاله نسخ الوجوب، فإن فیه احتمالین:

1 - إنه یدل علی رفع خصوص المنع من الترک فقط و حینئذ تبقی دلاله الأمر علی الجواز علی حالها ل یمسها النسخ و هو القول الأول. و منشأ هذا إن الوجوب ینحل إلی الجواز و المنع من الترک و لا شأن فی النسخ الا رفع المنع من الترک فقط و لا تعرض له لجنسه و هو الجواز أی الأذن فی الفعل.

2 - إنه یدل علی رفع الوجوب من أصله، فلا یبقی لدلیل الوجوب شیء یدل علیه. و منشأ هذا هو إن الوجوب معنی بسیط لا ینحل إلی جزأین فلا یتصور فی النسخ إنه رفع للمنع من الترک فقط. و المختار هو القول الثانی، لأن الحق إن الوجوب أمر بسیط و هو الإلزأم بالفعل و لازمه المنع من الترک، کما إن الحرمه هی المنع من الفعل و لازمها الإلزأم بالترک و لیس الإلزأم بالترک الذی هو معناه وجوب الترک جزءا من معنی حرمه الفعل و کذلک المنع من الترک الذی معناه حرمه الترک لیس جزءا من معنی وجوب الفعل، بل أحدهما لازم للآخر ینشأ منه تبعا له. فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب یحتاج إلی دلیل خاص یدل علیه و لا یکفی دلیل الوجوب، فلا دلاله لدلیل الناسخ ول لدلیل المنسوخ علی الجواز،

ص 77

ویمکن إن یکون الفعل بعد نسخ و جوبه محکوما بکل واحد من الأحکام الأربعه الباقیه. و هذا البحث لا یستحق أکثر من هذا الکلام لقله البلوی به. و ما ذکرناه فیه الکفایه.

10-الأمر بشیء مرتین

10-الأمر بشیء مرتین

إذا تعلق الأمر بفعل مرتین فهو یمکن إن یقع علی صورتین: -

1 - إن یکون الأمر الثانی بعد امتثال الأمر الأول. و حینئذ لا شبهه فی لزوم امتثاله ثانیا.

2 - إن یکون الأمر الثانی قبل امتثال الأمر الأول. و حینئذ یقع الشک فی وجوب امتثاله مرتین أو کفایه المره الواحده فی الامتثال. فإن کان الأمر الثانی تأسیس لوجوب آخر تعین الامتثال مره أخری و إن کان تأکیدا للأمر الأول فلیس لهما ال امتثال واحد. و لتوضیح الحال و بیان الحق فی المسأله نقول: إن هذا الفرض له أربع حالات: (الأولی) - إن یکون الأمران معا غیر معلقین علی شرط، کان یقول مثلا: (صل) ثم یقول ثانیا (صل) - فإن الظاهر حینئذ إن یحمل الأمر الثانی علی التأکید، لأن الطبیعه الواحده یستحیل تعلق الأمرین بها من دون أمتیاز فی البین، فلو کان الثانی تأسیس غیر مؤکد للأول لکان علی الأمر تقیید متعلقه و لو بنحو (مره أخری). فمن عدم التقیید و ظهور وحده المتعلق فیهما یکون اللفظ فی الثانی ظاهرا فی التأکید و إن کان التأکید فی نفسه خلاف الأصل و خلاف ظاهر الکلام لو خلی و نفسه. (الثانیه) - إن یکون الأمران معا معلقین علی شرط واحد، کان یقول المولی مثلا: (إن کنت محدثا فتوضأ)، ثم یکرر نفس القول ثانیا. ففی هذه الحاله أیضا یحمل علی التأکید لعین ما قلناه فی الحاله الأولی بلا تفاوت. (الثالثه) - إن یکون أحد الأمرین معلقا و الآخر غیر معلق کان یقول

ص 78

مثلا: (اغتسل) ثم یقول:

(إن کنت جنبا فاغتسل). ففی هذه الحاله أیضا یکون المطلوب واحدا و یحمل علی التأکید، لوحده المأمور به ظاهرا المانعه من تعلق الأمرین به، غیر إن الأمر المطلق - أعنی غیر المعلق - یحمل إطلاقه علی المقید - اعنی المعلق -، فیکون الثانی مقیدا لإطلاق الأول و کاشفا عن المراد منه. (الرابعه) - إن یکون أحد الأمرین معلقا علی شیء و الآخر معلقا علی شیء آخر، کان یقول مثلا: (إن کنت جنب فاغتسل) و یقول:

(إن مسست میتا فاغتسل)، ففی هذه الحاله یحمل - ظاهرا - علی التأسیس، لأن الظاهر إن المطلوب فی کل منهما غیر المطلوب فی الآخر و یبعد جدا حمله علی إن المطلوب واحد، أما التأکید فلا معنی له هنا و أما القول بالتداخل بمعنی الاکتفاء بامتثال واحد عن المطلوبین فهو ممکن، ولکنه لیس من باب التأکید، بل لا یفرض الا بعد فرض التأسیس و إن هناک أمرین یمتثلان معا بفعل واحد. و لکن التداخل - علی کل حال - خلاف الأصل و لا یصار إلیه الا بدلیل خاص، کما ثبت فی غسل الجنابه إنه یجزی عن کل غسل آخر و سیأتی البحث عن التداخل مفصلا فی مفهوم الشرط.

11-دلاله الأمر بالأمر علی الوجوب

11-دلاله الأمر بالأمر علی الوجوب

إذا أمر المولی أحد عبیده إن یأمر عبده الآخر بفعل - فهل هو أمر بذلک الفعل حتی یجب علی الثانی فعله؟ علی قولین. و هکذا یمکن فرضه علی نحوین:

1 - إن یکون المأمور الأول علی نحو المبلغ لأمر المولی إلی المأمور الثانی، مثل أن یأمر رئیس الدوله وزیره إن یأمر الرعیه عنه بفعل. و هذا النحو - لا شک - خارج عن محل الخلاف، لأنه لا یشک أحد فی ظهوره فی وجوب الفعل علی المأمور الثانی. و کل أوأمر الأنبیاء بالنسبه إلی المکلفین من هذا القبیل.

2 - ألا یکون المأمور الأول علی المبلغ، بل هو مأمور إن یستقل فی توجیه الأمر إلی الثانی من قبل نفسه و علی نحو قول الأمأم علیه السلأم (مرهم

ص 79

بالصلاه و هم أبناء سبع) یعنی الأطفال. و هذا النحو هو محل الخلاف و البحث. و یلحق به ما لم یعلم الحال فیه إنه علی أی نحو من النحوین المذکورین. و المختار: إن مجرد الأمر بالأمر ظاهر عرفا فی و جوبه علی الثانی. و توضیح ذلک: إن الأمر بالأمر لا علی نحو التبلیغ یقع علی صورتین: (الأولی) - إن یکون غرض المولی یتعلق فی فعل المأمور الثانی و یکون أمره بالأمر طریقا للتوصل إلی حصول غرضه. و إذا عرف غرضه إنه علی هذه الصوره یکون أمره بالأمر - لا شک - أمرا بالفعل نفسه. (الثانیه) - إن یکون غرضه فی مجرد أمر المأمور الأول، من دون إن یتعلق له غرض بفعل المأمور الثانی، کما لو أمر المولی ابنه - مثلا - إن یأمر العبد بشیء و لا یکون غرضه الا إن یعود ابنه علی إصدار الأوأمر أو نحو ذلک، فیکون غرضه - فقط - فی إصدار الأول أمره، فلا یکون الفعل مطلوبا له أصلا فی الواقع. و واضح لو علم الثانی المأمور بهذا الغرض لا یکون أمر المولی بالأمر أمرا له و لا یعد عاصیا لمولاه و لو ترکه، لأن الأمر المتعلق لأمر المولی یکون مأخوذا علی نحو الموضوعیه و هو متعلق الغرض، لا علی نحو الطریقیه لتحصیل الفعل من العبد المأمور الثانی. فإن قأمت قرینه علی إحدی الصورتین المذکورتین فذاک و إن لم تقم قرینه فإن ظاهر الأوأمر - عرفا - مع التجرد عن القرائن هو إنه علی نحو الطریقیه. فأذن، الأمر بالأمر مطلقا یدل علی الوجوب الا إذا ثبت إنه علی نحو الموضوعیه. و لیس مثله یقع فی الأوأمر الشرعیه.

ص 81

الخاتمه فی تقسیمات الواجب
الخاتمه فی تقسیمات الواجب

للواجب عده تقسیمات

لا بأس بالتعرض لها، إلحاقا بمباحث الأوأمر و إتمأما للفائده.

1 - المطلق و المشروط

1 - المطلق و المشروط

إن الواجب إذا قیس و جوبه إلی شیء آخر خارج عن الواجب،، فهو لا یخرج عن احد نحوین:

1 - أن یکون متوقفا و جوبه علی ذلک الشیء و هو - أی الشیء - مأخوذا فی وجوب الواجب علی نحو الشرطیه، کوجوب الحج بالقیاس إلی الاستطاعه. و هذا هو المسمی (بالواجب المشروط)، لاشتراط و جوبه بحصول ذلک الشیء الخارج و لذا لا یجب الحج الا عند حصول الاستطاعه.

2 - أن یکون وجوب الواجب غیر متوقف علی حصول ذلک الشیء الآخر، کالحج بالقیاس إلی قطع المسافه و إن توقف وجوده علیه. و هذا هو المسمی (بالواجب المطلق)، لأن و جوبه مطلق غیر مشروط بحصول ذلک الشیء الخارج. و منه الصلاه بالقیاس إلی الوضوء و الغسل و الساتر و نحوها. و من مثال الحج یظهر إنه - و هو واجب واحد - یکون واجبا مشروطا بالقیاس إلی شیء و واجبا مطلق بالقیاس إلی شیء آخر. فالمشروط و المطلق أمران إضافیان. ثم اعلم إن کل واجب هو واجب مشروط بالقیاس إلی الشرائط العامه

ص 82

وهی البلوغ و القدره و العقل، فالصبی و العاجز و المجنون لا یکلفون بشیء فی الواقع. و أما (العلم) فقد قیل إنه من الشروط العامه و الحق إنه لیس شرطا فی الوجوب و لا فی غیره من الأحکام، بل التکالیف الواقعیه مشترکه بین العالم و الجاهل علی حد سواء. نعم العلم شرط فی استحقاق العقاب علی مخالفه التکلیف علی تفصیل یأتی فی مباحث الحجه و غیرها إن شاء الله تعالی. و لیس هذا موضعه.

2 - المعلق و المنجز

2 - المعلق و المنجز

لا شک إن الواجب المشروط بعد حصول شرطه یکون و جوبه فعلیا شأن الواجب المطلق، فیتوجه التکلیف فعل إلی المکلف. و لکن فعلیه التکلیف تتصور علی وجهین:

1 - إن تکون فعلیه الوجوب مقارنه زمانا لفعلیه الواجب، بمعنی إن یکون زمان الواجب نفس زمان الوجوب. و یسمی هذا القسم (الواجب المنجز)، کالصلاه بعد دخول وقتها، فإن و جوبها فعلی و الواجب و هو الصلاه فعلی أیضا.

2 إن تکون فعلیه الوجوب. سابقه زمانا علی فعلیه الواجب فیتأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب. و یسمی هذا القسم (الواجب المعلق) لتعلیق الفعل - لا و جوبه - علی زمان غیر حاصل بعد، کالحج - مثلا - فإنه عند حصول الاستطاعه یکون و جوبه فعلی - کما قیل - و لکن الواجب معلق علی حصول الموسم، فإنه عند حصول الاستطاعه وجب الحج و لذا یجب علیه إن یهیئ المقدمات و الزاد و الراحله حتی یحصل وقته و موسمه لیفعله فی وقته المحدد له. و قد وقع البحث و الکلام هنا فی مقامین: (الأول) - فی أمکان الواجب المعلق و المعروف عن صاحب الفصول القول بأمکانه و وقوعه و الأکثر علی استحالته و هو المختار و سنتعرض له إن شاء الله تعالی فی مقدمه الواجب مع بیان السر فی الذهاب إلی أمکانه و وقوعه،

ص 83

وسنبین إن الواجب فعلا فی مثال الحج هو السیر و التهیئه للمقدمات و أما نفس أعمال الحج فوجوبها مشروط بحضور الموسم و القدره علیها فی لسان. و (الثانی) - فی إن ظاهر الجمله الشرطیه فی مثل قولهم: (إذا دخل الوقت فصل) هل إن الشرط شرط للوجوب فلا تجب الصلاه فی المثال الا بعد دخول الوقت، أو إنه شرط للواجب فیکون الواجب نفسه معلق علی دخل الوقت فی المثال و أما الوجوب فهو فعلی مطلق؟ و بعباره أخری هل إن القید شرط لمدلول هیئه الأمر فی الجزاء، أو إنه شرط لمدلول ماده الأمر فی الجزاء؟ و هذا البحث یجری حتی لو کان الشرط غیر الزمان، کما إذا قال المولی: (إذا تطهرت فصل). فعلی القول بظهور الجمله فی رجوع القید إلی الهیئه - أی إنه شرط للوجوب - یکون الواجب واجبا مشروطا، فلا یجب تحصیل شیء من المقدمات قبل حصول الشرط. و علی القول بظهوره فی رجوع القید إلی الماده - أی إنه شرط للواجب - یکون الواجب واجبا مطلقا، فیکون الواجب فعلیا قبل حصول الشرط، فیجب علیه تحصیل مقدمات المأمور به إذا علم بحصول الشرط فیما بعد. و هذا النزاع هو النزاع المعروف بین المتأخرین فی رجوع القید فی الجمله الشرطیه إلی الهیئه أو الماده. و سیجئ تحقیق الحال فی موضعه إن شاء الله تعالی.

3 - الأصلی و التبعی

3 - الأصلی و التبعی

(الواجب الأصلی): ما قصدت إفاده و جوبه مستقلا بالکلام، کوجوبی الصلاه و الوضوء المستفادین من قوله تعالی: (وأقیموا الصلاه) و قوله تعالی: (فاغسلوا وجوهکم). و (الواجب التبعی): ما لم تقصد إفاده و جوبه، بل کان من توابع م قصدت إفادته. و هذا کوجوب المشی إلی السوق المفهوم من أمر المولی

ص 84

بوجوب شراء اللحم من السوق، فإن المشی إلیها حینئذ یکون واجبا لکنه لم یکن مقصود بالإفاده من الکلام. کما فی کل دلاله إلتزامیه فیما لم یکن اللزوم فیها من قبیل البین بالمعنی الأخص.

4 - التخییری و التعیینی

4 - التخییری و التعیینی

(الواجب التعیینی): ما نعلق به الطلب بخصوصه و لیس له عدل فی مقام الامتثال، کالصلاه و الصوم فی شهر رمضان، فإن الصلاه واجبه لمصلحه فی نفسها لا یقوم مقامها واجب آخر فی عرضها. و قد عرفناه فیما سبق ص 72 بقولنا: (هو الواجب بلا واجب آخر یکون عدلا له و بدیلا عنه فی عرضه). و إنما قیدن البدیل فی عرضه، لأن بعض الواجبات التعیینیه قد یکون لها بدیل فی طولها و لا یخرجه عن کونها واجبات تعیینیه کالوضوء مثلا الذی له بدلیل فی طوله و هو التیمم، لأنه إنم یجب إذا تعذر الوضوء و کالغسل بالنسبه إلی التیمم أیضا کذلک. و کخصال الکفاره المرتبه نحو کفاره قتل الخطأ و هی العتق أولا فإن تعذر فصیأم شهرین فإن تعذر فإطعام ستین مسکینا. (الواجب التخییری) ما کان له عدل و بدیل فی عرضه و لم یتعلق به الطلب بخصوصه، بل کان المطلوب هو أو غیره یتخیر بینهما المکلف. و هو کالصوم الواجب فی کفاره فطار شهر رمضان عمدا، فإنه واجب و لکن یجوز ترکه و تبدیله بعتق رقبه أو إطعام ستین مسکینا. و الأصل فی هذا التقسیم إن غرض المولی ربما یتعلق بشیء معین، فإنه ل مناص حینئذ من إن یکون هو المطلوب و المبعوث إلیه وحده. فیکون (واجبا تعیینی). و ربما یتعلق غرضه بأحد شیئین أو أشیاء لا علی التعیین بمعنی إن کلا منها محصل لغرضه، فیکون البعث نحوها جمیعا علی نحو التخییر بینها. و کلا القسمین واقعان فی أرادتنا نحن أیضا، فلا وجه للإشکال فی أمکان الواجب التخییری و لا موجب لإطاله الکلام. ثم إن أطراف الواجب التخییری إن کان بینهما جأمع یمکن التعبیر عنه

ص 85

بلفظ واحد، فإنه یمکن إن یکون البعث فی مقام الطلب نحو هذا الجأمع فإذا وقع الطلب کذلک فإن التخییر حینئذ بین واقعان یسمی (عقلیا) و هو لیس من الواجب التخییری المبحوث عنه، فإن هذا یعد من الواجب التعیینی فإن کل واجب تعیینی کلی - یکون المکلف مخیرا عقلا بین أفراده و التخییر یسمی حینئذ عقلیا. مثاله قول الأستاذ لتلمیذه (اشتر قلما) الجأمع بین أنواع الأقلأم من قلم الحبر و قلم الرصاص و غیرهما، فإن التخییر بین هذه الأنواع یکون عقلیا کما إن التخییر بین أفراد کل نوع یکون عقلی أیضا. و إن لم یکن هناک جأمع مثل ذلک - کما فی مثال خصال الکفاره - فإن البعث أما إن یکون نحو عنوان أنتزاعی کعنوان (أحد هذه الأمور)، أو نحو کل واحد منها مستقلا و لکن مع العطف ب (أو) و نحوها مما یدل علی التخییر. فیقال فی النحو الأول مثلا: أوجد أحد هذه الأمور. و یقال فی النحو الثانی مثلا: صم أو أطعم أو اعتق. و یسمی حینئذ التخییر بین واقعان (شرعیا) و هو المقصود من التخییر المقابل للتعیین هنا. ثم هذا التخییری الشرعی (تاره) یکون بین المتباینین کالمثال المتقدم و (أخری) بین الأقل و الأکثر کالتخییر بین تسبیحه واحده و ثلاث تسبیحات فی ثلاثیه الصلاه الیومیه و رباعیتها علی قول. و کما لو أمر المولی برسم خط مستقیم - مثلا - مخیرا فیه بین القصیر و الطویل. و هذا الأخیر - اعنی التخییر بین الأقل و الأکثر - إنما یتصور فیما إذا کان الغرض مترتبا علی الأقل بحده و یترتب علی الأکثر بحده أیضا، أما لو کان الغرض مترتبا علی الأقل مطلقا و إن وقع فی ضمن الأکبر فالواجب حینئذ هو الأقل فقط و لا تکون الزیاده واجبه فلا یکون من باب الواجب التخییری، بل الزیاده لا بد إن تحمل علی الاستحباب.

5 - العینی و الکفائی

5 - العینی و الکفائی

تقدم: إن الواجب العینی ما یتعلق بکل مکلف و لا یسقط بفعل الغیر و یقابله الواجب الکفائی و هو المطلوب فیه وجوب الفعل من أی

ص 86

مکلف کان. فهو یجب علی جمیع المکلفین و لکن یکتفی بفعل بعضهم فیسقط عن الآخرین ول یستحق العقاب بترکه. نعم إذا ترکوه جمیعا من دون إن یقوم به واحد فالجمیع منهم یستحقون العقاب، کما یستحق الثواب کل من اشترک فی فعله. و أمثله الواجب الکفائی کثیره فی الشریعه، منها تجهیز المیت و الصلاه علیه و منها إنقاذ الغریق و نحوه من التهلکه و منها إزاله النجاسه عن المسجد و منها الحرف و المهن و الصناعات التی به نظأم معایش الناس و منها طلب الاجتهاد و منها الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر. و الأصل فی هذا التقسیم إن المولی یتعلق غرضه بالشیء المطلوب له من الغیر علی نحوین: -

1 - أن یصدر من کل واحد من الناس، حینما تکون المصلحه المطلوبه تحصل من کل واحد مستقلا، فلا بد إن یوجه الخطاب إلی کل واحد منهم علی إن یصدر من کل واحد عینا، کالصوم أو الصلاه و أکثر التکالیف الشرعیه. و هذا هو (الواجب العینی).

2 - أن یصدر من أحد المکلفین لا بعینه، حینما تکون المصلحه فی صدور الفعل و لو مره واحده من أی شخص کان، فلا بد إن یوجه الخطاب إلی جمیع المکلفین لعدم خصوصیه مکلف دون مکلف و یکتفی بفعل بعضهم الذی یحصل به الغرض، فیجب علی الجمیع بفرض الکفایه الذی هو (الواجب الکفائی). و قد وقع الأقدمون من الأصولیین فی حیره من أمر (الوجوب الکفائی) و تطبیقه علی القاعده فی الوجوب الذی قوأمه بل لازمه المنع من الترک، إذ رأوا إن و جوبه علی الجمیع لا یتلاءم مع جواز ترکه بفعل بعضهم و لا وجوب بدون المنع من الترک. لذا ظن بعضهم إنه لیس المکلف المخاطب فیه الجمیع بل البعض غیر المعین أی أحد المکلفین و ظن بعضهم إنه معین عند الله غیر معین عندنا و یتعین من یسبق إلی الفعل منهم فهو المکلف حقیقه. . إلی غیر ذلک من الظنون.

ص 87

ونحن لما صورناه بذلک التصویر المتقدم لا یبقی مجال لهذه الظنون، فلا نشغل أنفسن بذکرها وردها. و تدفع الحیره بأدنی التفات، لأنه إذا کان غرض المولی یحصل بفعل البعض فلا بد إن یسقط و جوبه عن الباقی، إذ لا یبقی ما یدعو إلیه. فهو - أذن - واجب علی الجمیع من أول الأمر و لذا یمنعون جمیعا من ترکه و یسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه.

6 - الموسع و المضیق

6 - الموسع و المضیق

ینقسم الواجب باعتبار الوقت إلی قسمین: موقت و غیر موقت ثم الموقت إلی: موسع و مضیق ثم غیر الموقت إلی: فوری و غیر فوری و لنبدأ بغیر الموقت (مقدمه)، فنقول: (غیر الموقت): ما لم یعتبر فیه شرعا وقت مخصوص و إن کان کل فعل ل یخلو - عقلا - من زمن یکون ظرفا له، کقضاء الفائته و إزاله النجاسه عن المسجد و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و نحو ذلک. و هو - کما قلنا - علی قسمین: (فوری) و هو مال یجوز تأخیره عن أول أزمنه أمکانه کإزاله النجاسه عن المسجد، ورد السلأم و الأمر بالمعروف. و (غیر فوری) و هو ما یجوز تأخیره عن أول أزمنه أمکانه، کالصلاه علی المیت و قضاء الصلاه الفائته و الزکاه و الخمس. و (الموقت): ما اعتبر فیه شرعا وقت مخصوص، کالصلاه و الحج و الصوم و نحوها. و هو لا یخلو - عقلا - من وجوه ثلاثه: أما إن یکون فعله زائدا علی وقته المعین له أو مساویا له أو ناقصا عنه. و (الأول) ممتنع، لأنه من التکلیف بما لا یطاق. و (الثانی) لا ینبغی الإشکال فی أمکانه و وقوعه. و هو المسمی (المضیق) کالصوم إذ فعله ینطبق علی وقته بلا زیاده و لا نقصان من طلوع الفجر إلی الغروب.

ص 88

و (الثالث) هو المسمی (الموسع)، لأن فیه توسعه علی المکلف فی أول الوقت و فی أثنائه و آخره، کالصلاه الیومیه و صلاه الآیات، فإنه لا یجوز ترکه فی جمیع الوقت و یکتفی بفعله مره واحده فی ضمن الوقت المحدد له. و لا إشکال عند العلماء فی ورود ما ظاهره التوسعه فی الشریعه و إنما اختلفوا فی جوازه عقلا علی قولین: أمکانه و امتناعه و من قال بامتناعه أول ما ورد علی الوجه الذی یدفع الإشکال عنده علی ما سیأتی. و الحق عندنا جواز الموسع عقلا و وقوعه شرعا. و منشأ الإشکال عند القائل بامتناع الموسع، إن حقیقه الوجوب متقومه بالمنع من الترک - کما تقدم -، فینافیه الحکم بجواز ترکه فی أول الوقت أو وسطه. و الجواب عنه واضح، فإن الواجب الموسع فعل واحد و هو طبیعه الفعل المقید بطبیعه الوقت المحدود بحدین علی ألا یخرج الفعل عن الوقت، فتکون الطبیعه بملاحظه ذاتها واجبه لا یجوز ترکها. غیر إن الوقت لما کان یسع لإیقاعها فیه عده مرات، کان لها أفراد طولیه تدریجیه مقدره الوجود فی أول الوقت و ثانیه و ثالثه إلی آخره، فیقع التخییر العقلی بین الأفراد الطولیه کالتخییر العقلی بین الأفراد العرضیه للطبیعه المأمور بها، فیجوز الإتیان بفرد و ترک الآخر من دون إن یکون جواز الترک له مساس فی نفس المأمور به و هو طبیعه الفعل فی الوقت المحدود. فلا منافاه بین وجوب الطبیعه بملاحظه ذاتها و بین جواز ترک أفرادها عدا فرد واحد. و القائلون بالامتناع التجأوا إلی تأویل ما ظاهره التوسعه فی الشریعه، فقال بعضهم: بوجوبه فی أول الوقت و الإتیان به فی الزمان الباقی یکون من باب القضاء و التدارک لما فات من الفعل فی أول الوقت. و قال آخر بوجوبه فی آخر الوقت و الإتیان به قبله من باب النقل یسقط به الغرض، نظیر أیقاع غسل الجمعه فی یوم الخمیس و لیله الجمعه. و قیل غیر ذلک.

ص 89

وکلها أقوال متروکه عند علمائنا، واضحه البطلان. فلا حاجه إلی الإطاله فی ردها.

هل یتبع القضاء الأداء؟

مما یتفرع عاده علی البحث عن الموقت (مسأله تبعیه القضاء للأداء) و هی من مباحث الألفاظ و تدخل فی باب الأوأمر. و لکن أخر ذکرها إلی الخاتمه مع إن من حقها إن تذکر قبلها، لأنها - کما قلنا - من فروع بحث الموقت عاده. فنقول: إن الموقت قد یفوت فی وقته أما لترکه عن عذر أو عن عمد و اختیار و أما لفساده لعذر أو لغیر عذر. فإذا فات علی أی نحو من هذه الآنحاء، فقد ثبت فی الشریعه وجوب تدارک بعض الواجبات کالصلاه و الصوم، بمعنی إن یأتی بها خارج الوقت. و یسمی هذا التدارک (قضاء). و هذا لا کلأم فیه. الا إن الأصولیین اختلفوا فی إن وجوب القضاء: هل هو علی مقتضی القاعده، بمعنی إن الأمر بنفس الموقت یدل علی وجوب قضائه إذا فات فی وقته، فیکون وجوب القضاء بنفس دلیل الأداء، أو إن القاعده لا تقتضی ذلک، بل وجوب القضاء یحتاج إلی دلیل خاص غیر نفس دلیل الأداء؟ و فی المسأله أقوال ثلاثه: قول بالتبعیه مطلقا. و قول بعدمها مطلقا. و قول بالتفصیل بین ماإذا کان الدلیل علی التوقیت متصلا، فلا تبعیه و بین ماإذا کان منفصلا، فالقضاء تابع للأداء. و الظاهر إن منشأ النزاع فی المسأله یرجع إلی المستفاد من التوقیت هو وحده المطلوب أو تعدده؟ أی إن فی الموقت مطلوبا واحدا هو الفعل المقید بالوقت بما هو مقید، أو مطلوبین و هما ذات الفعل و کونه واقعا فی وقت معین؟ فعلی الأول إذا فات الامتثال فی الوقت لم یبق طلب بنفس الذات، فلا بد من

ص 90

فرض أمر جدید للقضاء بالإتیان بالفعل خارج الوقت. و علی الثانی إذا فات الامتثال فی الوقت فإنما فات امتثال أحد الطلبین و هو طلب کونه فی الوقت المعین و أما الطلب بذات الفعل فباق علی حاله. و لذا ذهب بعضهم إلی التفصیل المذکور باعتبار إن المستفاد من دلیل التوقیت فی المتصل وحده المطلوب فیحتاج القضاء إلی أمر جدید و المستفاد فی المنفصل تعدد المطلوب، فلا یحتاج القضاء إلی أمر جدید و یکون تابعا للأداء. و المختار هو القول الثانی و هو عدم التبعیه مطلقا. لأن الظاهر من التقیید إن القید رکن فی المطلوب: فإذا قال مثلا: (صم یوم الجمعه) فلا یفهم منه الا مطلوب واحد لغرض واحد و هو خصوص صوم هذا الیوم، لا إن الصوم بذاته مطلوب و کونه فی یوم الجمعه مطلوب آخر. و أما فی مورد دلیل التوقیت المنفصل، کما إذا قال:

(صم) ثم قال مثلا: (اجعل صومک یوم الجمعه)، فأیضا کذلک، نظرا إلی إن هذا من باب المطلق و المقید، فیجب فیه حمل المطلق علی المقید و معنی حمل المطلق علی المقید هو: تقیید أصل المطلوب الأول بالقید، فیکشف ذلک التقیید عن إن المراد بالمطلق واقعا من أول الأمر خصوص المقید، فیصبح الدلیلان بمقتضی الجمع بینهما دلیلا واحدا، لا إن المقید مطلوب آخر غیر المطلق و إلا کان معنی ذلک بقاء المطلق علی إطلاقه، فلم یکن حملا و لم یکن جمعا بین الدلیلین، بل یکون أخذا بالدلیلین. نعم یمکن إن یفرض - و إن کان هذا فرضا بعید الوقوع فی الشریعه - إن یکون دلیل التوقیت المنفصل مقیدا بالتمکن کان یقول فی المثال: (اجعل صومک یوم الجمعه إن تمکنت) أو کان دلیل التوقیت لیس فیه إطلاق یعم صورتی التمکن و عدمه و صوره التمکن هی القدر المتیقن منه. فإن فی هذا الفرض یمکن التمسک بإطلاق دلیل الواجب لإثبات وجوب الفعل خارج الوقت

، لأن دلیل التوقیت غیر صالح لتقیید إطلاق دلیل الواجب الا فی صوره التمکن و مع الاضطرار إلی ترک الفعل فی الوقت یبقی دلیل الواجب علی إطلاقه.

ص 91

وهذا الفرض هو الذی یظهر من الکفایه لشیخ أساتذتنا الآخند قدس سره، ولکنه فرض بعید جدا. علی إنه مع هذا الفرض لا یصدق الفوت و لا القضاء، بل یکون و جوبه خارج الوقت من نوع الأداء.

ص 93

الباب الثالث: النواهی و فیه خمس مسائل

الباب الثالث: النواهی و فیه خمس مسائل

1 - ماده النهی

والمقصود بها کلمه (النهی) کماده الأمر. و هی عباره عن طلب العالی من الدانی ترک الفعل. أو فقل - علی الاصح - إنها عباره عن زجر العالی للدإنی عن الفعل و ردعه عنه و لازم ذلک طلب الترک، فیکون التفسیر الأول تفسیر باللازم علی ما سیأتی توضیحه. و هی - کلمه النهی - ککلمه الأمر فی الدلاله علی الإلزأم عقلا لا وضعا و إنما الفرق بینهما إن المقصود فی الأمر الإلزأم بالفعل و المقصود فی النهی الإلزأم بالترک. و علیه تکون ماده النهی ظاهره فی الحرمه، کما إن ماده الأمر ظاهره فی الوجوب.

2 - صیغه النهی

المراد من صیغه النهی: کل صیغه تدل علی طلب الترک. أو فقل - علی الاصح -: کل صیغه تدل علی الزجر عن الفعل و ردعه عنه کصیغه (لا تفعل) أو (إیاک إن تفعل) و نحو ذلک. و المقصود ب (الفعل): الحدث الذی یدل علیه المصدر و إن لم یکن أمرا وجودیا، فیدخل فیها - علی هذا - نحو قولهم: (لا تترک الصلاه)، فإنها من صیغ النهی لا من صیغ الأمر. کما إن قولهم: (اترک شرب الخمر) تعد من صیغ الأمر لا من صیغ النهی و إن أدت مؤدی (لا تشرب الخمر). و السر فی ذلک واضح، فإن المدلول المطابقی لقولهم (لا تترک) هو الزجر

ص 96

والنهی عن ترک الفعل و إن کان لازمه الأمر بالفعل فیدل علیه بالدلاله الإلتزامیه. و المدلول المطابقی لقولهم (اترک) هو الأمر بترک الفعل و إن کان لازمه النهی عن الفعل فیدل علیه بالدلاله و الإلتزامیه.

3 - ظهور صیغه النهی فی التحریم

الحق إن صیغه النهی ظاهره فی التحریم و لکن لا لأنها موضوعه لمفهوم الحرمه و حقیقه فیه کم هو المعروف. بل حالها فی ذلک حال ظهور صیغه افعل فی الوجوب، فإنه قد قلنا هناک إن هذا الظهور إنما هو بحکم العقل، لا إن الصیغه موضوعه و مستعمله فی مفهوم الوجوب. و کذلک صیغه لا تفعل، فإنها أکثر ما تدل علی النسبه الزجریه بین الناهی و المنهی عنه و المنهی. فإذا صدرت ممن تجب طاعته و نهیب؟ ؟ الإنزجار بزجره و الانتهاء عما نهی عنه و لم ینصب قرینه علی جواز الفعل، کان مقتضی وجوب طاعه هذا المولی و حرمه عصیانه عقل - قضاء لحق العبودیه و المولویه - عدم جواز ترک الفعل الذی نهی عنه الا مع الترخیص من قبله. فیکون - علی هذا - نفس صدور النهی من المولی بطبعه مصداقا لحکم العقل بوجوب الطاعه و حرمه المعصیه، فیکون النهی مصداقا للتحریم حسب ظهوره الإطلاقی، لا إن التحریم - الذی هو مفهوم اسمی - وضعت له الصیغه و استعملت فیه. و الکلام هنا کالکلام فی صیغه افعل بلا فرق من جهه الأقوال و الاختلافات.

4 - ما المطلوب فی النهی

کل م تقدم لیس فیه خلاف جدید غیر الخلاف الموجود فی صیغه افعل. و إنما اختص النهی فی خلاف واحد و هو إن المطلوب فی النهی هل هو مجرد الترک أو کف النفس عن الفعل. و الفرق بینهما: إن المطلوب علی القول الأول أمر عدمی محض و المطلوب علی القول الثانی أمر وجودی، لأن الکف فعل من أفعال النفس.

ص 97

والحق هو القول الأول. و منشأ القول الثانی توهم هذا القائل إن الترک - الذی معناه إبقاء عدم الفعل المنهی عنه علی حاله - لیس بمقدور للمکلف، لأنه أزلی خارج عن القدره، فلا یمکن تعلق الطلب به. و المعقول من النهی إن یتعلق فیه الطلب بردع النفس و کفها عن الفعل و هو فعل نفسانی یقع تحت الاختیار. و الجواب عن هذا التوهم: إن عدم المقدوریه فی الأزل علی العدم لا ینافی المقدوریه بقاءا و استمرارا، إذ القدره علی الوجود تلازم القدره علی العدم، بل القدره علی العدم علی طبع القدره علی الوجود و إلا لو کان العدم غیر مقدور بقاء لما کان الوجود مقدورا، فإن المختار القادر هو الذی إن شاء الله فعل و إن لم یشأ لم یفعل. و التحقیق إن هذا البحث ساقط من أصله، فإنه - کما اشرنا إلیه فیما سبق - لیس معنی النهی هو الطلب، حتی یقال إن المطلوب هو الترک أو الکف و إنما طلب الترک من لوازم النهی و معنی النهی المطابقی هو الزجر و الردع. نعم الردع عن الفعل یلزمه عقلا طلب الترک، کما إن البعث نحو الفعل فی الأمر یلزمه عقلا الردع عن الترک. فالأمر و النهی کلاهما یتعلقان بنفس الفعل رأسا، فل موقع للحیره و الشک فی إن الطلب فی النهی یتعلق بالترک أو الکف.

5 - دلاله صیغه النهی علی الدوأم و التکرار

اختلفوا فی دلاله (صیغه النهی) علی التکرار أو المره کالاختلاف فی صیغه افعل. و الحق هنا ما قلناه هناک بلا فرق، فلا دلاله لصیغه (ل تفعل) لا بهیئتها و لا بمادتها علی الدوأم و التکرار و لا علی المره و إنما المنهی عنه صرف الطبیعه، کما إن المبعوث نحوه فی صیغه افعل صرف الطبیعه. غیر إن بینهما فرقا من ناحیه عقلیه فی مقام الامتثال، فإن امتثال النهی بالإنزجار عن فعل الطبیعه، ول یکون ذلک الا بترک جمیع أفرادها فإنه لو فعلها مره واحده ما کان ممتثلا. و أم امتثال الأمر فیتحقق بإیجاد أول وجود من

ص 98

أفراد الطبیعه و لا تتوقف طبیعه الامتثال علی أکثر من فعل المأمور به مره واحده. و لیس هذا الفرق من أجل وضع الصیغتین و دلالتهما، بل ذلک مقتضی طبع النهی و الأمر عقلا. (تنبیه) لم نذکر هنا ما اعتاد المؤلفون ذکره من بحثی اجتماع الأمر و النهی و دلاله النهی علی الفساد، لأنهما داخلان فی (المباحث العقلیه)، کما سیأتی و لیس هم من مباحث الألفاظ. و کذلک بحث مقدمه الواجب و مسأله الضد و مسأله الإجزاء لیست من مباحث الألفاظ أیضا. و سنذکر الجمیع فی المقصد الثانی (المباحث العقلیه) إن شاء الله تعالی.

الباب الرابع: المفاهیم
تمهید

الباب الرابع: المفاهیم

فی معنی کلمه (المفهوم) و فی النزاع فی حجیته و فی أقسأمه. فهذه ثلاثه مباحث:

1 - معنی کلمه المفهوم

تطلق کلمه المفهوم علی ثلاثه معان:

1 - المعنی المدلول للفظ الذی یفهم منه، فیساوی کلمه المدلول، سواء کان مدلولا لمفرد أو جمله و سواء کان مدلولا حقیقیا أو مجازیا.

2 - ما یقابل المصداق، فیراد منه کل معنی یفهم و إن لم یکن مدلولا للفظ، فیعم المعنی الأول و غیره.

3 - ما یقابل المنطوق و هو أخص من الأولین: و هذا هو المقصود بالبحث هنا. و هو اصطلاح أصولی یختص بالمدلولات الإلتزامیه للجمل الترکیبیه سواء کانت إنشائیه أو إخباریه، فلا یقال لمدلول المفرد مفهوم و إن کان من المدلولات الإلتزامیه. أما المنطوق فمقصودهم منه ما یدل علیه اللفظ فی حد ذاته علی وجه یکون اللفظ المنطوق حأملا لذلک المعنی و قالبا له، فیسمی المعنی (منطوقا) تسمیه للمدلول باسم الدال. و لذلک یختص المنطوق بالمدلول المطابقی فقط و إن کان المعنی مجازا قد استعمل فیه اللفظ بقرینه. و علیه، فالمفهوم الذی یقابله ما لم یکن اللفظ حأملا له دالا علیه بالمطابقه

ص 102

ولکن یدل علیه باعتباره لازما لمفاد الجمله بنحو اللزوم البین بالمعنی الأخص (1) و لأجل هذا یختص المفهوم بالمدلول الإلتزأمی مثاله: قولهم (إذا بلغ الماء کرا ل ینجسه شیء). فالمنطوق فیه هو مضمون الجمله و هو عدم تنجس الماء البالغ کرا بشیء من النجاسات. و المفهوم - علی تقدیر إن یکون لمثل هذه الجمله مفهوم - إنه إذا لم یبلغ کرا یتنجس. و علی هذا یمکن تعریفهما بما یلی: المنطوق: (هو حکم دل علیه اللفظ فی محل النطق). و المفهوم: (هو حکم دل علیه اللفظ لا فی محل النطق). و المراد من الحکم: الحکم بالمعنی الأعم، لا خصوص أحد الأحکام الخمسه. و عرفوهما أیضا بأنهما حکم مذکور و حکم غیر مذکور و أنهما حکم لمذکور و حکم لغیر مذکور و کلها لا تخلو عن مناقشات طویله الذیل. و الذی یهون الخطب إنها تعریفات لفظیه لا یقصد منها الدقه فی التعریف و المقصود منها واضح کما شرحناه.

2 - النزاع فی حجیه المفهوم

لاشک إن الکلام إذا کان له مفهوم یدل علیه فهو ظاهر فیه، فیکون حجه من المتکلم علی السأمع و من السأمع علی المتکلم، کسائر الظواهر الأخری. أذن، ما معنی النزاع فی حجیه المفهوم حینما یقولون مثلا: هل مفهوم الشرط حجه أولا؟ و علی تقدیره، فلا یدخل هذا النزاع فی مباحث الألفاظ التی کان الغرض

(هامش)

(1) راجع کتاب المنطق للمؤلف، الجزء الأول ص 79 عن معنی البین و أقسأمه.

ص 103

منها تشخیص الظهور فی الکلام و تنقیح صغریات حجیه الظهور، بل ینبغی إن یدخل فی مباحث الحجه کالبحث عن حجیه الظهور و حجیه الکتاب و نحو ذلک. و الجواب: إن النزاع هنا فی الحقیقه إنما هو فی وجود الدلاله علی المفهوم، أی فی أصل ظهور الجمله فیه و عدم ظهورها. و بعباره أوضح، النزاع هنا فی حصول المفهوم للجمله لا فی حجیته بعد فرض حصوله. فمعنی النزاع فی مفهوم الشرط - مثلا - إن الجمله الشرطیه مع قطع النظر عن القرائن الخاصه هل تدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط؟ و هل هی ظاهره فی ذلک؟ ل إنه بعد دلالتها علی هذا المفهوم و ظهورها فیه یتنازع فی حجیته، فإن هذا لا معنی له و إن أوهم ذلک ظاهر بعض تعبیراتهم، کما یقولون مثلا: مفهوم الشرط حجه أم لا. و لکن غرضهم ما ذکرنا. کما إنه لا نزاع فی دلاله بعض الجمل علی مفهوم لها إذا کانت له قرینه خاصه علی ذلک المفهوم، فإن هذا لیس موضع کلأمهم. بل موضوع الکلام و محل النزاع فی دلاله نوع تلک الجمله کنوع الجمله الشرطیه علی المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصه.

3 - أقسأم المفهوم

ینقسم المفهوم إلی مفهوم الموافقه و مفهوم المخالفه:

1 - (مفهوم الموافقه): ما کان الحکم فی المفهوم موافقا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق، فإن کان الحکم فی المنطوق الوجوب - مثلا - کان فی المفهوم الوجوب أیضا و هکذا. کدلاله الأولویه فی مثل قوله تعالی: (ولا تقل لهما أف) علی النهی عن الضرب و الشتم للأبوین و نحو ذلک مما هو أشد إهانه و إیلأما من التأفیف المحرم بحکم الآیه.

ص 104

وقد یسمی هذا المفهوم (فحوی الخطاب). و لا نزاع فی حجیه مفهوم الموافقه، بمعنی دلاله الأولویه علی تعدی الحکم إلی ما هو أولی فی عله الحکم و له تفصیل کلأم یأتی فی موضعه.

2 - (مفهوم المخالفه): ما کان الحکم فیه مخالفا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق و له موارد کثیره وقع الکلام فیها نذکرها بالتفصیل و هی سته:

1 - مفهوم الشرط.

2 - مفهوم الوصف

3 - مفهوم الغایه.

4 - مفهوم الحصر.

5 - مفهوم العدد.

6 - مفهوم اللقب.

الأول - مفهوم الشرط

الأول - مفهوم الشرط

تحریر محل النزاع:

لاشک فی إن الجمله الشرطیه یدل منطوقها - بالوضع - علی تعلیق التالی فیها علی المقدم الواقع موقع الفرض و التقدیر. و هی علی نحوین:

1 - إن تکون مسوقه لبیان موضوع الحکم، أی إن المقدم هو نفس موضوع الحکم، حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط فی المقدم علی وجه لا یعقل فرض الحکم بدونه، نحو قولهم: (إن رزقت ولدا فاختنه)، فإنه فی المثال لا یعقل فرض ختان الولد الا بعد فرض وجوده. و منه قوله تعالی: (ولا تکرهوا فتیاتکم علی البغاء إن أردن تحصنا) فإنه لا یعقل فرض الإکراه

ص 105

علی البغاء الا بعد فرض إراده التحصن من قبل الفتیات. و قد اتفق الأصولیون علی إنه لا مفهوم لهذا النحو من الجمله الشرطیه، لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحکم، فلا معنی للحکم بانتفاء التالی علی تقدیر انتفاء المقدم إلا علی نحو السالبه بانتفاء الموضوع. و لا حکم حینئذ بالانتفاء، بل هو انتفاء الحکم. فلا مفهوم للشرطیه فی المثالین، فلا یقال:

(إن لم ترزق ولدا فلا تختنه) و لا یقال:) (إن لم یردن تحصن فأکرهوهن علی البغاء).

2 - ألا تکون مسوقه لبیان الموضوع، حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط علی وجه یمکن فرض الحکم بدونه، نحو قولهم: (إن أحسن صدیقک فأحسن إلیه)، فإن فرض الإحسان إلی الصدیق لا یتوقف عقلا علی فرض صدور الإحسان منه، فإنه یمکن الإحسان إلیه أحسن أو لم یحسن. و هذا النحو الثانی من الشرطیه هو محل النزاع فی مسألتنا و مرجعه إلی النزاع فی دلاله الشرطیه علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط، بمعنی إنه هل یستکشف من طبع التعلیق علی الشرط انتفاء نوع الحکم المعلق - کالوجوب مثلا - علی تقدیر انتفاء الشرط. و إنما قلنا (نوع الحکم)، لأن شخص کل حکم فی القضیه الشرطیه أو غیرها ینتفی بانتفاء موضوعه أو أحد قیود الموضوع، سواء کان للقضیه مفهوم أو لم یکن. و فی مفهوم الشرطیه قولان أقواهما إنها تدل علی الانتفاء عند الانتفاء.

المناط فی مفهوم الشرط:

إن دلاله الجمله الشرطیه علی المفهوم تتوقف علی دلالته - بالوضع أو بالإطلاق - علی أمور ثلاثه مترتبه:

1 - دلالتها علی الارتباط و الملازمه بین المقدم و التالی.

2 - دلالتها - زیاده علی الارتباط و الملازمه - علی إن التالی معلق علی المقدم

ص 106

ومترتب علیه و تابع له، فیکون المقدم سببا للتالی. و المقصود من السبب هنا هو کل م یترتب علیه الشیء و إن کان شرطا و نحوه، فیکون أعم من السبب المصطلح فی فن المعقول.

3 - دلالتها - زیاده علی ما تقدم - علی انحصار السببیه فی المقدم، بمعنی إنه لا سبب بدیل له یترتب علیه التالی. و توقف المفهوم للجمله الشرطیه علی هذه الأمور الثلاثه واضح، لأنه لو کانت الجمله اتفاقیه، أو کان التالی غیر مترتب علی المقدم، أو کان مترتبا و لکن لا علی نحو الانحصار فیه - فإنه فی جمیع ذلک لا یلزم من انتفاء المقدم انتفاء التالی. و إنما الذی ینبغی إثباته هنا، هو إن الجمله ظاهره فی هذه الأمور الثلاثه وضعا أو إطلاقا لتکون حجه فی المفهوم. و الحق ظهور الجمله الشرطیه فی هذه الأمور وضعا فی بعضها و إطلاقا فی البعض الآخر.

1 - أما دلالتها علی الارتباط و وجود العلقه اللزومیه بین الطرفین، فالظاهر إنه بالوضع بحکم التبادر. و لکن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتی ینکر وضعها لذلک، بل بوضع الهیئه الترکیبیه للجمله الشرطیه بمجموعها. و علیه فاستعمالها فی الاتفاقیه یکون بالعنایه و ادعاء التلازم و الارتباط بین المقدم و التالی إذا اتفقت لهما المقارنه فی الوجود.

2 - و أما دلالتها علی إن التالی مترتب علی المقدم بأی نحو من إنحاء الترتب فهو بالوضع أیضا و لکن لا بمعنی إنها موضوعه بوضعین: وضع للتلازم و وضع آخر للترتب، بل بمعنی إنها موضوعه بوضع واحد للارتباط الخاص و هو ترتب التالی علی المقدم. و الدلیل علی ذلک هو تبادر ترتب التالی علی المقدم عنها، فإنها تدل علی إن المقدم وضع فیها موضع الفرض و التقدیر و علی تقدیر حصوله فالتالی حاصل عنده تبعا أی یتلوه فی الحصول. أو فقل إن المتبادر منه لا بدیه الجزاء

ص 107

عند فرض حصول الشرط. و هذا لا یمکن إن ینکره الا مکابر أو غافل فإن هذا هو معنی التعلیق الذی هو مفاد الجمله الشرطیه التی لا مفاد لها غیره. و من هنا سموا الجزء الأول منها شرطا و مقدما و سموا الجزء الثانی جزاءا و تالیا. فإذا کانت جمله إنشائیه أی إن التالی متضمن لإنشاء حکم تکلیفی أو وضعی، فإنها تدل علی تعلیق الحکم علی الشرط، فتدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط المعلق علیه الحکم. و إذا کانت جمله خبریه أی إن التالی متضمن لحکایه خبر، فإنها تدل علی تعلیق حکایته علی المقدم، سواء کان المحکی عنه خارجا و فی الواقع مترتبا علی المقدم فتتطابق الحکایه مع المحکی عنه کقولنا إن کانت الشمس طالعه فالنهار موجود، أو مترتب علیه بأن کان العکس کقولنا: إن کان النهار موجودا فالشمس طالعه، أو کان لا ترتب بینهما کالمتضاعفین فی مثل قولن: إن کان خالد ابنا لزید فزید أبوه.

3 - و أما دلالتها علی إن الشرط منحصر، فبالإطلاق، لأنه لو کان هناک شرط آخر للجزاء بدیل لذلک الشرط و کذا لو کان معه شیء آخر یکونان معا شرطا للحکم - لاحتاج ذلک إلی بیان زائد أما بالعطف بأو فی الصوره الأولی، أو العطف بالواو فی الصوره الثانیه، لأن الترتب علی الشرط ظاهر فی إنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق علیه الجزاء فإذا أطلق تعلیق الجزاء علی الشرط فإنه یستکشف منه إن الشرط مستقل لا قید آخر معه و إنه منحصر لا بدیل و لا عدل له و إلا لوجب علی الحکیم بیانه و هو - حسب الفرض - فی مقام البیان. و هذا نظیر ظهور صیغه أفعل بإطلاقه فی الوجوب التعینی و التعیینی. * * * و إلی هنا تم لنا ما أردنا إن نذهب إلیه من ظهور الجمله الشرطیه فی الأمور التی بها تکون ظاهره فی المفهوم.

ص 108

وعلی کل حال، إن ظهور الجمله الشرطیه فی المفهوم ممالا ینبغی إن یتطرق إلیه الشک الا مع قرینه صارفه أو تکون وارده لبیان الموضوع. و یشهد لذلک استدلال أمأمنا الصادق علیه السلأم بالمفهوم فی روایه أبی بصیر قال:

(سألت أبا عبد الله عن الشاه تذبح فل تتحرک و یهراق منها دم کثیر عبیط، فقال:

لا تأکل! إن علیا کان یقول:

إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل)، فإن استدلال الأمأم بقول علی علیه السلأم لا یکون إلا إذا کان له مفهوم و هو: إذا لم ترکض الرجل أو لم تطرف العین فلا تأکل.

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء:

ومن لواحق مبحث (مفهوم الشرط) مسأله ما إذا وردت جملتان شرطیتان أو أکثر و قد تعدد الشرط فیهما و کان الجزاء واحدا. و هذا یقع علی نحوین:

1 إن یکون الجزاء غیر قابل للتکرار، نحو التقصیر فی السفر فیما ورد: (إذا خفی الأذان فقصر. و إذا خفیت الجدران فقصر).

2 - إن یکون الجزاء قابلا للتکرار کما فی نحو (إذا أجنبت فاغتسل. إذا مسست میتا فاغتسل). أما (النحو الأول)، فیقع فیه التعارض بین الدلیلین بناء علی مفهوم الشرط و لکن التعارض إنما هو بین مفهوم کل منهما مع منطوق الآخر، کما هو واضح. فلا بد من التصرف فیهما بأحد وجهین: (الوجه الأول) - إن نقید کلا من الشرطین من ناحیه ظهورهما فی الاستقلال بالسببیه، ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق - کما سبق - الذی یقابله التقیید بالعطف بالواو، فیکون الشرط فی الحقیقه هو المرکب من الشرطین و کل منهما یکون جزء السبب و الجملتان تکونان حینئذ کجمله واحده مقدمها المرکب من الشرطین، بأن یکون مؤداهما هکذا: (إذا خفی الأذان و الجدران معا فقصر). و ربما یکون لهاتین الجملتین معا حینئذ مفهوم واحد و هو انتفاء الجزاء

ص 109

عند انتفاء الشرطین معا أو أحدهما، کما لو کانا جمله واحده. (الوجه الثانی) - إن نقیدهما من ناحیه ظهورهما فی الانحصار، ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقیید بأو. و حینئذ یکون الشرط أحدهما علی البدلیه، أو الجأمع بینهما علی إن یکون منهما مصداقا له و ذلک حینما یمکن فرض الجأمع بینهما و لو کان عرفیا. و إذ یدور الأمر بین الوجهین فی التصرف، فأیهما أولی؟ هل الأولی تقیید ظهور الشرطیتین فی الاستقلال أو تقیید ظهورهما فی الانحصار؟ قولان فی المسأله. و الأوجه - علی الظاهر - هو التصرف الثانی، لأن منشأ التعارض بینهما هو ظهورهما فی الانحصار الذی یلزم منه الظهور فی المفهوم، فیتعارض منطوق کل منهما مع مفهوم الآخر کما تقدم، فلا بد من رفع الید عن ظهور کل منهما فی الانحصار بالإضافه إلی المقدار الذی دل علیه منطوق الشرطیه الأخری، لأن ظهور المنطوق أقوی، أما ظهور کل من الشرطیتین فی الاستقلال فلا معارض له حتی ترفع الید عنه. و إذا ترجح القول الثانی و هو التصرف فی ظهور الشرطین فی الانحصار. یکون کل من الشرطین مستقلا فی التأثیر، فإذا أنفرد أحدهما کان له التأثیر فی ثبوت الحکم. و إن حصلا معا، فإن کان حصولهما بالتعاقب کان التأثیر للسابق. و إن تقارنا کان الأثر لهما معا و یکونان کالسبب الواحد، لامتناع تکرار الجزاء حسب الفرض. * * * و أما (النحو الثانی) - و هو ما إذا کان الجزاء قابلا للتکرار - فهو علی صورتین:

1 - إن یثبت بالدلیل إن کلا من الشرطین جزء السبب. و لا کلأم حینئذ فی إن الجزاء واحد یحصل عند حصول الشرطین معا.

2 - إن یثبت من دلیل مستقل أو من ظاهر دلیل الشرط إن کلا من

ص 110

الشرطین سبب مستقل، سواء کان للقضیه الشرطیه مفهوم أم لم یکن - فقد وقع الخلاف فیم إذا اتفق وقوع الشرطین معا فی وقت واحد أو متعاقبین: إن القاعده أی شیء تقتضی؟ هل تقتضی تداخل الأسباب فیکون لها جزاء واحد کما فی مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط و النوم و نحوهما، أم تقتضی عدم التداخل فیتکرر الجزاء بتکرار الشروط، کما فی مثال تعدد وجوب الصلاه بتعدد أسبابه من دخول وقت الیومیه و حصول الآیات؟ أقول: لاشبهه فی إنه إذا ورد دلیل خاص علی التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلک الدلیل. و أما مع عدم ورود الدلیل الخاص فهو محل الخلاف. و الحق إن القاعده فیه عدم التداخل. بیان ذلک: إن لکل شرطیه ظهورین:

1 ظهور الشرط فیها فی الاستقلال بالسببیه. و هذا الظهور یقتضی إن یتعدد الجزء فی الشرطیتین موضوعتی البحث، فلا تتداخل الأسباب.

2 - ظهور الجزاء فیها فی إن متعلق الحکم فیه صرف الوجود. و لما کان صرف الشیء ل یمکن إن یکون محکوما بحکمین، فیقتضی ذلک إن یکون لجمیع الأسباب جزاء واحد و حکم واحد عند فرض اجتماعها. فتتداخل الأسباب. و علی هذا، فیقع التنافی بین هذین الظهورین، فإذا قدمنا الظهور الأول لا بد إن نقول بعدم التداخل. و إذا قدمنا الظهور الثانی لابد إن نقول بالتداخل، فأیهما أولی بالتقدیم؟ و الأرجح إن الأولی بالتقدیم ظهور الشرط علی ظهور الجزاء، لأن الجزاء لما کان معلقا علی الشرط فهو تابع له ثبوتا و إثباتا، فإن کان واحدا کان الجزاء واحدا و إن کان متعددا کان متعددا. و إذا کان المقدم متعددا - حسب فرض ظهور الشرطیتین - کان الجزاء تبعا له. و علیه لا

ص 111

یستقیم للجزاء ظهور فی وحده المطلوب. فیخرج المقام عن باب التعارض بین الظهورین، بل یکون الظهور فی التعداد رافعا للظهور فی الوحده، لأن الظهور فی الوحده لا یکون ال بعد فرض سقوط الظهور فی التعداد أو بعد فرض عدمه، أما مع وجوده فلا ینعقد الظهور فی الوحده. فالقاعده فی المقام - أذن - (عدم التداخل). و هو مذهب أساطین العلماء الأعلام قدس الله أسرارهم.

تنبیهان

1 - تداخل المسبیات:

إن البحث فی المسأله السابقه إنما هو عما إذا تعددت الأسباب، فیتسأل فیها عما إذا کان تعددها یقتضی المغایره فی الجزاء و تعدد المسببات - بالفتح - أو لا یقتضی فتتداخل الأسباب و ینبغی إن تسمی (بمسأله تداخل الأسباب). و بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناک، ینبغی إن یبحث إن تعدد المسببات إذا کانت تشترک فی الاسم و الحقیقه کالأغسال هل یصح إن یکتفی عنها بوجود واحد لها أو لا یکتفی؟ . و هذه مسأله أخری غیر ما تقدم تسمی (بمسأله تداخل المسببات) و هی من ملحقات الأولی. و القاعده فیها أیضا: عدم التداخل. و السر فی ذلک: إن سقوط الواجبات المتعدده بفعل واحد و إن أتی به بنیه امتثال الجمیع یحتاج إلی دلیل خاص، کما ورد فی الأغسال بالاکتفاء بغسل الجنابه عن باقی الأغسال و ورد أیضا جواز الاکتفاء بغسل واحد عن أغسال متعدده. و مع عدم ورود الدلیل الخاص فإن کل وجوب یقتضی امتثالا خاصا به لا یغنی عنه امتثال الآخر و إن اشترکت الواجبات فی الاسم و الحقیقه. نعم قد یستثنی من ذلک ما إذا کان بین الواجبین نسبه العموم و الخصوص

ص 112

من وجه و کان دلیل کل منهما مطلقا بالإضافه إلی مورد الاجتماع، کما إذا قال - مثل - تصدق علی مسکین و قال - ثانیا - تصدق علی ابن سبیل، فجمع العنوانین شخص واحد بأن کان فقیرا و ابن سبیل فإن التصدق علیه یکون مسقطا للتکلیفین.

2 - الأصل العملی فی المسألتین:

إن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل الأسباب هو التداخل، لأن تأثیر السببین فی تکلیف واحد متیقن و إنما الشک فی تکلیف ثان زائد. و الأصل فی مثله البراءه. و بعکسه فی مسأله تداخل المسببات، فإن الأصل یقتضی فیه عدم التداخل کما مرت الإشاره إلیه، لأنه بعد ثبوت التکالیف المتعدده بتعدد الأسباب یشک فی سقوط التکالیف الثابته لو فعل فعلا واحدا. و مقتضی القاعده - فی مثله - الاشتغال، بمعنی إن الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، فلا یکتفی بفعل واحد فی مقام الامتثال.

الثانی - مفهوم الوصف

الثانی - مفهوم الوصف

موضوع البحث:

المقصود بالوصف هنا: ما یعم النعت و غیره، فیشمل الحال و التمییز و نحوهما مما یصلح إن یکون قیدا لموضوع التکلیف. کما إنه یختص بم إذا کان معتمدا علی موصوف، فلا یشمل ما إذا کان الوصف نفسه موضوعا للحکم نحو (والسارق و السارقه فاقطعوا أیدیهما) فإن مثل هذا یدخل فی باب مفهوم اللقب. و السر فی ذلک إن الدلاله علی انتفاء الوصف لا بد فیها من فرض موضوع ثابت للحکم یقید بالوصف مره و یتجرد عنه أخری، حتی یمکن فرض نفی الحکم عنه. و یعتبر - أیضا - فی المبحوث عنه هنا إن یکون أخص من الموصوف مطلق

ص 113

أو من وجه، لأنه لو کان مساویا أو أعم مطلقا لا یوجب تضییقا و تقییدا فی الموصوف، حتی یصح فرض انتفاء الحکم عن الموصوف عند انتفاء الوصف. و أما دخول الأخص من وجه فی محل البحث فإنما هو بالقیاس إلی مورد افتراق الموصوف عن الوصف، ففی مثال (فی الغنم السائمه زکاه) یکون مفهومه - لو کان له مفهوم - عدم وجوب الزکاه فی الغنم غیر السائمه و هی المعلوفه. و أما بالقیاس إلی مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا دلاله له علی المفهوم قطعا، فلا یدل المثال علی عدم الزکاه فی غیر الغنم السائمه أو غیر السائمه کالإبل - مثلا - لأن الموضوع - و هو الموصوف الذی هو الغنم فی المثال - یجب إن یکون محفوظا فی المفهوم و لا یکون متعرضا لموضوع آخر لا نفیا و لا إثباتا. فما عن بعض الشافعیه من القول بدلاله القضیه المذکوره علی عدم الزکاه فی الإبل المعلوفه ل وجه له قطعا.

الأقوال فی المسأله و الحق فیها:

لاشک فی دلاله التقیید بالوصف علی المفهوم عند وجود القرینه الخاصه و لا شک فی عدم الدلاله عند وجود القرینه علی ذلک، مثلما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذی یفهم منه عدم إناطه الحکم به وجودا و عدما، نحو قوله تعالی: (وربائبکم اللائی فی حجورکم) فإنه لا مفهوم لمثل هذه القضیه مطلقا، إذ یفهم منه إن وصف الربائب بأنها فی حجورکم لأنها غالبا تکون کذلک و الغرض منه الإشعار بعله الحکم، إذ إن اللائی تربی فی الحجور تکون کالبنات. و إنما الخلاف عند تجرد القضیه عن القرائن الخاصه، فإنهم اختلفوا فی إن مجرد التقیید بالوصف هل یدل علی المفهوم أی انتفاء حکم الموصوف عند انتفاء الوصف أو لا یدل؟ نظیر الاختلاف المتقدم فی التقیید بالشرط و فی المسأله قولان و المشهور القول الثانی و هو عدم المفهوم. و السر فی الخلاف یرجع إلی إن التقیید المستفاد من الوصف هل هو تقیید

ص 114

لنفس الحکم أی إن الحکم منوط به، أو إنه تقیید لنفس موضوع الحکم أو متعلق الموضوع باختلاف الموارد، فیکون الموضوع أو متعلق الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف و الوصف؟ . فإن کان الأول فإن التقیید بالوصف یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند انتفائه بمقتضی الإطلاق، لأن الإطلاق یقتضی - بعد فرض إناطه الحکم بالوصف - انحصاره فیه کم قلنا فی التقیید بالشرط. و إن کان الثانی، فإن التقیید لا یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند انتفاء الوصف، لأنه حینئذ یکون من قبیل مفهوم اللقب، إذ إنه بکون التعبیر بالوصف و الموصوف لتحدید موضوع الحکم فقط، لا إن الموضوع ذات الموصوف و الوصف قید للحکم علیه، مثلما إذا قال القائل: (اصنع شکلا رباعیا قائم الزوایا متساوی الأضلاع) فإن المفهوم منه إن المطلوب صنعه هو المربع فعبر عنه بهذه القیود الداله علیه، حیث یکون الموضوع هو مجموع المعنی المدلول علیه بالعباره المؤلفه من الموصوف و الوصف و هی فی المثال (شکل رباعی قائم الزوایا متساوی الأضلاع) و هی بمنزله کلمه مربع، فکم إن جمله (اصنع مربعا) لا تدل علی الانتفاء عند الانتفاء کذلک ما هو بمنزلتها لا تدل علیه، لأنه فی الحقیقه یکون من قبیل الوصف غیر المعتمد علی الموصوف. إذا عرفت ذلک، فنقول: إن الظاهر فی الوصف - لو خلی و طبعه من دون قرینه - إنه من قبیل الثانی أی إنه قید للموضوع لا للحکم، فیکون الحکم من جهته مطلقا غیر مقید. فلا مفهوم للوصف. و من هذا التقریر یظهر بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدله الآتیه:

1 - إنه لو لم یدل الوصف علی الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائده فیه. و الجواب: إن الفائده غیر منحصره برجوعه إلی الحکم. و کفی فائده فیه تحدید موضوع الحکم و تقییده به.

2 - إن الأصل فی القیود إن تکون احترازیه.

ص 115

والجواب: إن هذا مسلم و لکن معنی الاحتراز هو تضییق دائره الموضوع و إخراج ما عد القید عن شمول شخص الحکم له. و نحن نقول به و لیس هذا من المفهوم فی شیء، لأن إثبات الحکم لموضوع لا ینفی ثبوت سنخ الحکم لما عداه، کما فی مفهوم اللقب. و الحاصل إن کون القید احترازیا لا یلزم إرجاعه قیدا للحکم.

3 - إن الوصف مشعر بالعلیه، فیلزم إناطه الحکم به. و الجواب: إن هذا الإشعار و إن کان مسلما، إلا إنه ما لم یصل إلی حد الظهور لا ینفع فی الدلاله علی المفهوم.

4 - الاستدلال بالجمل التی ثبتت دلالتها علی المفهوم، مثل قوله صلی الله علیه و آله: (مَطْلُ الْغَنِیِّ ظُلْمٌ ). و الجواب: إن ذلک علی تقدیره لا ینفع، لأنا لا نمنع، من دلاله التقیید بالوصف علی المفهوم أحیانا لوجود قرینه و إنما موضوع البحث فی اقتضاء طبع الوصف لو خلی و نفسه للمفهوم. و خصوص المثال نجد القرینه علی إناطه الحکم بالغنی موجوده من جهه مناسبه الحکم و الموضوع، فیفهم إن السبب فی الحکم کون المدین غنیا، فیکون مطلبه ظلما، بخلاف المدین الفقیر، لعجزه عن أداء الدین، فلا یکون مطلبه ظلما. * * *

الثالث - مفهوم الغایه

الثالث - مفهوم الغایه

إذا ورد التقیید بالغایه نحو (وأتموا الصیأم إلی اللیل) و نحو (کل شیء حلال حتی تعرف إنه حرأم بعینه) - فقد وقع خلاف الأصولیین فیه من جهتین: (الجهه الأولی) - فی دخول الغایه فی المنطوق أی فی حکم المغیی، فقد اختلفوا فی إن الغایه و هی الواقعه بعد أداه الغایه نحو (إلی) و (حتی) هل هی

ص 116

داخله فی المغیی حکما، أو خارجه عنه و إنما ینتهی إلیها المغیی موضوعا و حکما؟ علی أقوال: (منها) التفصیل بین کونها من جنس المغیی فتدخل فیه نحو صمت النهار إلی اللیل و بین کونها من غیر جنسه فلا تدخل کمثال کل شیء حلال. (و منها) التفصیل بین کون الغایه واقعه بعد (إلی) فلا تدخل فیه. و بین کونها واقعه بعد (حتی) فتدخل نحو (کل السمکه حتی رأسها). و الظاهر إنه لا ظهور لنفس التقیید بالغایه فی دخولها فی المغیی و لا فی عدمه، بل یتبع ذلک الموارد و القرائن الخاصه الحافه بالکلام. نعم، ل ینبغی الخلاف فی عدم دخول الغایه فیما إذا کانت غایه للحکم، کمثال کل شیء حلال، فإنه لا معنی لدخول معرفه الحرام فی حکم الحلال. ثم إن المقصود من کلمه (حتی) التی یقع الکلام عنها هی (حتی الجاره)، دون العاطفه و إن کانت تدخل علی الغایه أیضا، لأن العاطفه یجب دخول ما بعدها فی حکم ما قبلها لأن هذا هو معنی العطف، فإذا قلت: مات الناس حتی الأنبیاء فإن معناه إن الأنبیاء ماتوا أیضا. بل (حتی العاطفه) تفید إن الغایه هو الفرد الفائق علی سائر أفراد المغیی فی القوه أو الضعف، فکیف یتصور المعطوف بها داخلا فی الحکم، بل قد یکون هو الأسبق فی الحکم نحو: مات کل أب حتی آدم. (الجهه الثانیه) فی مفهوم الغایه. و هی موضوع البحث هنا فإنه قد اختلفوا فی إن التقیید بالغایه - مع قطع النظر عن القرائن الخاصه - هل یدل علی انتفاء سنخ الحکم عما وراء الغایه و من الغایه نفسها أیضا إذا لم تکن داخله فی المغیی، أولا؟ فنقول: إن المدرک فی دلاله الغایه علی المفهوم کالمدرک فی الشرط و الوصف، فإذا کانت قید للحکم کانت ظاهره فی انتفاء الحکم فیما وراءها و أما إذا کانت قیدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلاله لها علی المفهوم. و علیه فما علم فی التقیید بالغایه إنه راجع إلی الحکم فلا إشکال فی

ص 117

ظهوره فی المفهوم مثل قوله (ع) (کل شیء طاهر حتی تعلم إنه نجس) و کذلک مثال کل شیء حلال. و إن لم یعلم ذلک من القرائن فلا یبعد القول بظهور الغایه فی رجوعها إلی الحکم و إنها غایه للنسبه الواقعه قبلها و کونها غایه لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذی یحتاج إلی البیان و القرینه. فالقول بمفهوم الغایه هو المرجح عندنا.

الرابع - مفهوم الحصر

الرابع - مفهوم الحصر

معنی الحصر:

الحصر له معنیان:

1 - القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغه، سواء کان من نوع قصر الصفه علی الموصوف، نحو (لا سیف إلا ذو الفقار ول فتی إلا علی)، أم من نوع قصر الموصوف علی الصفه، نحو (وما محمد إلا رسول، إنما أنت منذر).

2 - ما یعم القصر و الاستثناء الذی لا یسمی قصرا بالاصطلاح نحو (فشربوا ال قلیلا). و المقصود به هنا هو هذا المعنی الثانی.

اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته:

إن مفهوم الحصر یختلف حاله باختلاف أدوات الحصر کما ستری، فلذلک کان علینا إن نبحث عنها واحده واحده، فنقول:

1 - (إلا). و هی تأتی لثلاثه وجوه:

1 - صفه بمعنی غیر.

2 - استثنائیه.

3 - أداه حصر بعد النفی.

ص 118

أما (الا الوصفیه) فهی تقع وصفا لما قبلها کسائر الأوصاف الأخری. فهی تدخل من هذه الجهه فی مفهوم الوصف، فإن قلنا هناک إن للوصف مفهوما فهی کذلک و إلا فلا. و قد رجحنا فیما سبق إن الوصف لا مفهوم له، فإذا قال المقر مثلا: (فی ذمتی عشره دراهم الا درهم) بجعل (الا درهم) وصفا، فإنه یثبت فی ذمته تمأم العشره الموصوفه بأنه لیست بدرهم. و لا یصح إن تکون استثنائیه لعدم نصب درهم. و لا مفهوم لها حینئذ فلا تدل علی عدم ثبوت شیء آخر فی ذمته لزید. و أما (الا الاستثنائیه) فلا ینبغی الشک فی دلالتها علی المفهوم و هو انتفاء حکم المستثنی منه عن المستثنی، لأن (الا) موضوعه للإخراج و هو الاستثناء و لازم هذا الإخراج باللزوم البین بالمعنی الأخص إن یکون المستثنی محکوما بنقیض حکم المستثنی منه. و لما کان هذا اللزوم بینا ظن بعضهم إن هذ المفهوم من باب المنطوق. و أما (أداه الحصر بعد النفی) نحو (لا صلاه إلا بطهور)، فهی فی الحقیقه من نوع الاستثنائیه. (فرع) - لو شککنا فی مورد إن کلمه (إل) (للاستثناء) أو وصفیه، مثل ما لو قال المقر: (لیس فی ذمتی لزید عشره دراهم ال درهم)، إذ یجوز فی المثال إن تکون إلا وصفیه و یجوز إن تکون استثنائیه - فإن الأصل فی کلمه (إلا) أن تکون للاستثناء فیثبت فی ذمته فی المثال درهم واحد. أما لو کانت وصفیه فإنه لا یثبت فی ذمته شیء، لأنه یکون قد نفی العشره الدراهم کلها الموصوفه تلک الدراهم بأنها لیست بدرهم.

2 - (إنما). و هی أداه حصر مثل کلمه (إلا)، فإذ استعملت فی حصر الحکم فی موضوع معین دلت بالملازمه البینه علی انتفائه عن غیر ذلک الموضوع و هذا واضح.

3 - (بل). و هی للإضراب و تستعمل فی وجوه ثلاثه: (الأول) - للدلاله علی إن المضروب عنه وقع عن غفله أو علی نحو الغلط. و لا دلاله لها حینئذ علی الحصر. و هو واضح.

ص 119

(الثانی) - للدلاله علی تأکید المضروب عنه و تقریره، نحو: زید عالم بل شاعر. ول دلاله لها أیضا حینئذ علی الحصر. (الثالث) - للدلاله علی الردع و إیصال ما ثبت أولا، نحو (أم یقولون به جنه، بل جاءهم بالحق). فتدل علی الحصر، فیکون لها مفهوم و هذه الآیه الکریمه تدل علی انتفاء مجیئه بغیر الحق.

4 - و هناک هیئات غیر الأدوات تدل علی الحصر، مثل تقدم المفعول نحو (إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاکَ نَسْتَعِینُ ) و مثل تعریف المسند إلیه بلأم الجنس مع تقدیمه نحو (العالم محمد) و (إن القول ما قالت حذأم). و نحو ذلک مما هو مفصل فی علم البلاغه. فإن هذه الهیئات ظاهره فی الحصر، فإذا استفید منه الحصر فلا ینبغی الشک فی ظهورها فی المفهوم، لأنه لازم للحصر لزوما بینا. و تفصیل الکلام فیها لا یسعه هذا المختصر. و علی کل حال، فإن کل ما یدل علی الحصر فهو دال علی المفهوم بالملازمه البینه.

الخأمس - مفهوم العدد

الخأمس - مفهوم العدد

لا شک فی إن تحدید الموضوع بعدد خاص لا یدل علی انتفاء الحکم فیما عداه، فإذا قیل: (صم ثلاثه أیأم من کل شهر) فإنه لا یدل علی عدم استحباب صوم غیر الثلاثه الأیأم. فلا یعارض الدلیل علی استحباب صوم أیأم أخر. نعم لو کان الحکم للوجوب - مثلا - و کان التحدید بالعدد من جهه الزیاده لبیان الحد الأعلی - فلا شبهه فی دلالته علی عدم وجوب الزیاده کدلیل صوم ثلاثین یوما من شهر رمضان. و لکن هذه الدلاله من جهه خصوصیه المورد لا من جهه أصل التحدید بالعدد، حتی یکون لنفس العدد مفهوم. فالحق إن التحدید بالعدد لا مفهوم له.

ص 120

السادس - مفهوم اللقب

السادس - مفهوم اللقب

المقصود باللقب: کل اسم - سواء کان مشتقا أم جأمدا - وقع موضوعا للحکم کالفقیر فی قولهم: أطعم الفقیر و کالسارق و السارقه فی قوله تعالی: (السارق و السارقه فاقطعوا أیدیهما). و معنی مفهوم اللقب نفی الحکم عما لا یتناوله عموم الاسم. و بعد إن استشکلنا فی دلاله الوصف علی المفهوم فعدم دلاله اللقب أولی، فإن نفس موضوع الحکم بعنوانه لا یشعر بتعلیق الحکم علیه فضلا عن إن یکون له ظهور فی الانحصار. نعم غایه ما یفهم من اللقب عدم تناول شخص الحکم لغیر ما یشمله عموم الاسم و هذا لا کلأم فیه، أما عدم ثبوت نوع الحکم لموضوع آخر فلا دلاله له علیه أصلا. و قد قیل: إن مفهوم اللقب أضعف المفهومات.

خاتمه فی دلاله الاقتضاء و التنبیه و الإشاره

تمهید:

یجری کثیرا علی لسان الفقهاء و الأصولیین ذکر دلاله الاقتضاء و التنبیه و الإشاره و لم تشرح هذه الدلالات فی أکثر الکتب الأصولیه المتعارفه. و لذلک رأینا إن نبحث عنها بشیء من التفصیل لفائده المبتدئین. و البحث عنها یقع من جهتین: الأولی فی مواقع هذه الدلالات الثلاث و إنها من أی أقسأم الدلالات و الثانیه فی حجیتها.

الجهه الأولی - مواقع الدلالات الثلاث

قد تقدم إن (المفهوم) هو مدلول الجمله الترکیبیه اللازمه للمنطوق لزوما

ص 121

بینا بالمعنی الأخص. و یقابله (المنطوق) الذی هو مدلول ذات اللفظ بالدلاله المطابقیه. و لکن یبقی هناک من المدلولات ما لا یدخل فی المفهوم و لا فی المنطوق اصطلاحا، کما إذا دل الکلام بالدلاله الإلتزامیه (1) علی لفظ مفرد أو معنی مفرد لیس مذکورا فی المنطوق صریحا، أو إذا دل الکلام علی مفاد جمله لازمه للمنطوق الا إن اللزوم لیس علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص. فإن هذه کلها لا تسمی مفهوما ول منطوقا، أذن ماذا تسمی هذه الدلاله فی هذه المقامات؟ نقول: الأنسب إن نسمی مثل هذه الدلاله - علی وجه العموم - (الدلاله السیاقیه)، کما ربما یجری هذا التعبیر فی لسان جمله من الأساطین لتکون فی مقابل الدلاله المفهومیه و المنطوقیه. و المقصود بها - علی هذا -: إن سیاق الکلام یدل علی المعنی المفرد أو المرکب أو اللفظ المقدر. و قسموه إلی الدلالات الثلاث المذکوره: الاقتضاء و التنبیه و الإشاره. فلنبحث عنها واحده واحده:

1 - دلاله الاقتضاء

وهی إن تکون الدلاله مقصوده للمتکلم بحسب العرف و یتوقف صدق الکلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغه أو عاده علیها. مثالها قوله صلی الله علیه و آله: (لا ضرر و لا ضرار فی الإسلأم)، فإن صدق الکلام یتوقف علی تقدیر الأحکام و الآثار الشرعیه لتکون هی المنفیه حقیقه، لوجود الضرر و الضرار قطعا عند المسلمین. فیکون النفی للضرر باعتبار نفی آثاره الشرعیه و أحکامه. و مثله (رفع عن أمتی ما ل یعلمون و ما

(هامش)

(1) المقصود من الدلاله الإلتزامیه ما یعم الدلاله التضمنیه باصطلاح المناطقه باعتبار رجوع الدلاله التضمنیه إلی الإلتزامیه لأنها لا تتم الا حیث یکون معنی الجزء لازما للکل فتکون الدلاله من ناحیه الملازمه بینهم.

ص 122

اضطروا إلیه. . ). مثال آخر، قوله علیه السلأم: (لا صلاه لمن جاره المسجد إلا فی المسجد) فإن صدق الکلام و صحته تتوقف علی تقدیر کلمه (کأمله) محذوفه لیکون النفی کمال الصلاه، لا أصل الصلاه. مثال ثالث، قوله تعالی: (وأسأل القریه)، فإن صحته عقل تتوقف علی تقدیر لفظ (أهل)، فیکون من باب حذف المضاف، أو علی تقدیر معنی أهل، فیکون من باب المجاز فی الإسناد. مثال رابع، قولهم: (أعتق عبدک عنی علی ألف) فإن صحه هذ الکلام شرعا تتوقف علی طلب تملیکه أولا له بألف لأنه لا عتق إلا فی ملک فیکون التقدیر ملکنی العبد بألف ثم أعتقه عنی. مثال خأمس، قول الشاعر: نحن بما عندنا و أنت بما * عندک راض و الرأی مختلف فإن صحته لغه تتوقف علی تقدیر (رضوان) خبرا للمبتد (نحن)، لأن راض مفرد لا یصح إن یکون خبرا لنحن. و جمیع الدلالات الإلتزامیه علی المعانی المفرده و جمیع المجازات فی الکلمه أو فی الإسناد ترجع إلی (دلاله الاقتضاء). فإن قال قائل: إن دلاله اللفظ علی معناه المجازی من الدلاله المطابقیه فکیف جعلتم المجاز من نوع دلاله الاقتضاء - نقول له: هذا صحیح و مقصودنا من کون الدلاله علی المعنی المجازی من نوع دلاله الاقتضاء، هو دلاله نفس القرینه المحفوف بها الکلام علی إراده المعنی المجازی من اللفظ، لا دلاله نفس اللفظ علیه بتوسط القرینه. (والخلاصه): إن المناط فی دلاله الاقتضاء شیئان: الأول إن تکون الدلاله مقصوده و الثانی إن یکون الکلام لا یصدق أو لا یصح بدونها. و لا یفرق فیها بین إن یکون لفظا مضمرا، أو معنی مرادا: حقیقیا أو مجازی.

ص 123

2 - دلاله التنبیه

وتسمی (دلاله الإیماء) أیضا و هی کالأولی فی اشتراط القصد عرف و لکن من غیر إن یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها و إنما سیاق الکلام ما یقطع معه بإراده ذلک اللازم أو یستبعد عدم أرادته. و بهذا تفترق عن دلاله الاقتضاء لأنها کم تقدم یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها. و لدلاله التنبیه موارد کثیره نذکر أهمها:

1 - ما إذا أراد المتکلم بیان أمر فنبه علیه بذکر ما یلازمه عقلا أو عرفا، کما إذا قال القائل: (دقت الساعه العاشره) مثلا، حیث تکون الساعه العاشره موعدا له مع المخاطب لینبهه علی حلول الموعد المتفق علیه. أو قال:

(طلعت الشمس) مخاطبا من قد استیقظ من نومه حینئذ، لبیان فوات وقت أداء صلاه الغداه. أو قال:

(إنی عطشان) للدلاله علی طلب الماء. و من هذا الباب ذکر الخبر لبیان لازم الفائده، مثل ما لو أخبر المخاطب. بقوله:

(إنک صائم) لبیان إنه عالم بصومه. و من هذا الباب أیضا الکنایات إذا کان المراد الحقیقی مقصودا بالإفاده من اللفظ، ثم کنی به عن شیء آخر.

2 - ما إذا أقترن الکلام بشیء یفید کونه عله للحکم أو شرطا أو مانعا أو جزءا، أو عدم هذه الأمور. فیکون ذکر الحکم تنبیها علی کون ذلک الشیء عله أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم کونه کذلک. مثاله قول المفتی: (أعد الصلاه) لمن سأله عن الشک فی أعداد الثنائیه فإنه یستفاد منه إن الشک المذکور عله لبطلان الصلاه و للحکم بوجوب الإعاده. مثال آخر قوله علیه السلأم: (کفر) لمن قال له: واقعت أهلی فی نهار شهر رمضان، فإنه یفید إن الوقاع فی الصوم الواجب موجب للکفاره. و مثال ثالث، قوله:

(بطل البیع) لمن قال له: (بعت السمک فی النهر) فیفهم منه اشتراط القدره علی التسلیم فی البیع.

ص 124

ومثال رابع قوله:

(لا تعید) لمن سأل عن الصلاه فی الحمأم، فیفهم منه عدم مانعیه الکون فی الحمأم للصلاه. . و هکذا.

3 - ما إذا اقترن الکلام بشیء یفید تعیین بعض متعلقات الفعل، کما إذا قال القائل: (وصلت إلی النهر و شربت)، فیفهم من هذه المقارنه إن المشروب هو الماء و إنه من النهر. و مثل ما إذا قال:

(قمت و خطبت) أی و خطبت قائم. . و هکذا.

3 - دلاله الإشاره

ویشترط فیها - علی عکس الدلالتین السابقتین ألا تکون الدلاله مقصوده بالقصد الاستعمالی بحسب العرف، لکن مدلولها لازم لمدلول الکلام لزوما غیر بین أو لزوما بینا بالمعنی الأعم، سواء استنبط المدلول من کلأم واحدا أم من کلأمین. مثال ذلک دلاله الآیتین علی أقل الحمل و هما أیه (وحمله و فصاله ثلاثون شهرا) و أیه (والوالدات یرضعن أولادهن حولین کأملین)، فإنه بطرح الحولین من ثلاثین شهرا یکون الباقی سته أشهر فیعرف إنه أقل الحمل. و من هذا الباب دلاله وجوب الشیء علی وجوب مقدمته، لأنه لازم لوجوب ذی المقدمه باللزوم البین بالمعنی الأعم. و لذلک جعلوا وجوب المقدمه و جوبا تبعیا لا أصلیا، لأنه لیس مدلولا للکلأم بالقصد، وإنم یفهم بالتبع، أی بدلاله الإشاره.

الجهه الثانیه - حجیه هذه الدلالات

أما دلاله (الاقتضاء و التنبیه)، فلا شک فی حجیتهما إذا کانت هناک دلاله و ظهور، لأنه من باب حجیه الظواهر. و لا کلأم فی ذلک. و أما دلاله (الإشاره) فحجیتها من باب حجیه الظواهر محل نظر و شک،

ص 125

لأن تسمیتها بالدلاله من باب المسأمحه، إذ المفروض إنها غیر مقصوده و الدلاله تابعه للإراده و حقها إن تسمی إشاره و إشعارا فقط بغیر لفظ الدلاله فلیست هی من الظواهر فی شیء حتی تکون حجه من هذه الجهه. نعم هی حجه من باب الملازمه العقلیه حیث تکون ملازمه، فیستکشف منها لازمها سواء کان حکما أم غیر حکم، کالأخذ بلوازم إقرار المقر و إن لم یکن قاصدا لها أو کان منکرا للملازمه. و سیأتی فی محله فی باب الملازمات العقلیه إن شاء الله تعالی.

ص 127

الباب الخامس: العام و الخاص

الباب الخامس: العام و الخاص

تمهید:

(العام و الخاص):

هما من المفاهیم الواضحه البدیهیه التی لا تحتاج إلی التعریف الا لشرح اللفظ و ترقیب المعنی إلی الذهن، فلذلک لا محل لتعریفهما بالتعاریف الحقیقیه. و القصد من (العام): اللفظ الشامل بمفهومه لجمیع ما یصلح انطباق عنوانه علیه فی ثبوت الحکم له. و قد یقال للحکم إنه عام أیضا باعتبار شموله لجمیع أفراد الموضوع أو المتعلق أو المکلف. و القصد من (الخاص): الحکم الذی لا یشمل الا بعض أفراد موضوعه أو المتعلق أو المکلف، أو إنه اللفظ الدال علی ذلک. (والتخصیص): هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحکم العام، بعد إن کان اللفظ فی نفسه شاملا له لول التخصیص. (والتخصص): هو إن یکون اللفظ من أول الأمر - بلا تخصیص - غیر شامل لذلک الفرد غیر المشمول للحکم.

أقسأم العام:

ینقسم العام إلی ثلاثه أقسأم باعتبار تعلق الحکم به:

1 - (العموم الاستغراقی) و هو إن یکون الحکم شاملا لکل فرد فرد، فیکون کل فرد وحده موضوعا للحکم و لکل حکم متعلق بفرد من الموضوع عصیان خاص نحو (أکرم کل عالم).

2 - (العموم المجموعی) و هو إن یکون الحکم ثابتا للمجموع بما هو

ص 130

مجموع فیکون المجموع موضوعا واحدا، کوجوب الإیمان بالأئمه، فلا یتحقق الامتثال ال بالإیمان بالجمیع.

3 - (العموم البدلی) و هو إن یکون الحکم لواحد من الأفراد علی البدل، فیکون فرد واحد فقط - علی البدل - موضوعا للحکم، فإذا أمتثل فی واحد سقط التکلیف، نحو أعتق أیه رقبه شئت. فإن قال قائل: إن عد هذا القسم الثالث من أقسأم العموم فیه مسأمحه ظاهره لأن البدلیه تنافی العموم، إذ المفروض إن متعلق الحکم أو موضوعه لیس إلا فردا واحدا فقط. نقول فی جوابه: العموم فی هذا القسم معناه عموم البدلیه، أی صلاح کل فرد لأن یکون متعلقا أو موضوعا للحکم. نعم إذا کان استفاده العموم من هذا القسم بمقتضی الإطلاق، فهو یدخل فی المطلق لا فی العام. و علی کل حال، إن عموم متعلق الحکم لأحواله و أفراده إذا کان متعلقا للأمر الوجوبی أو الاستحبابی، فهو علی الأکثر من نوع العموم البدلی. إذا عرفت هذا التمهید، فینبغی إن نشرع فی تفصیل مباحث العام و الخاص فی فصول:

1 - (ألفاظ العموم)

لا شک إن للعموم ألفاظا تخصه داله علیه أما بالوضع أو بالإطلاق بمقتضی مقدمات الحکمه. و هی أما إن تکون ألفاظ مفرده مثل (کل) و ما فی معناها مثل (جمیع) و (تمأم) و (أی) و (دائما) و أما إن تکون هیئات لفظیه کوقوع النکره فی سیاق النفی أو النهی و کون اللفظ جنسا محلی باللأم جمعا کان أو مفردا. فلنتکلم عنها بالتفصیل:

1 - لفظه (کل) و ما فی معناها،

فإنه من المعلوم دلالتها بالوضع علی عموم مدخولها سواء کان عموما استغراقیا أو مجموعیا و إن العموم معناه الشمول لجمیع أفرادها مهما کان لها من الخصوصیات اللاحقه لمدخوله.

ص 131

2 - (وقوع النکره فی سیاق النفی أو النهی)

فإنه لا شک فی دلالتها علی عموم السلب لجمیع أفراد النکره عقلا، لا وضعا، لأن عدم الطبیعه إنما یکون بعدم جمیع أفراده. و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان. 3 - (الجمع المحلی باللأم و المفرد المحلی به) لا شک فی استفاده العموم منهما عند عدم العهد و لکن الظاهر إنه لیس ذلک بالوضع فی المفرد المحلی باللأم و إنما یستفاد بالإطلاق بمقتضی الحکمه و لا فرق بینهما من جهه العموم فی استغراق جمیع الأفراد فردا فردا. و قد توهم بعضهم: إن معنی استغراق الجمع المحلی و کل جمع مثل أکرم جمیع العلماء هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع، لا بلحاظ الأفراد فردا فردا، فیشمل کل جماعه جماعه و یکون بمنزله قول القائل: (أکرم جماعه جماعه)، فیکون موضوع الحکم کل جماعه علی حده لا کل مفرد، فإکرأم شخص واحد لا یکون امتثالا للأمر. و ذلک نظیر عموم التثنیه، فإن الاستغراق فیها بملاحظه مصادیق التثنیه، فیشمل کل اثنین اثنین، فإذا قال:

(أکرم کل عالمین) فموضوع الحکم کل اثنین من العلماء لا کل فرد. و منشأ هذا التوهم إن معنی الجمع الجماعه، کما إن معنی التثنیه الاثنین فإذا دخلت أداه العموم علیه دلت علی العموم بلحاظ کل جماعه جماعه، کما إذا دخلت علی المفرد دلت علی العموم بلحاظ کل فرد فرد و علی التثنیه دلت علیه لحاظ کل اثنین اثنین، لأن أداه العموم تفید عموم مدخولها. و لکن هذا توهم فاسد للفرق بین التثنیه و الجمع، لأن التثنیه تدل علی الاثنین المحدوده من جانب القله و الکثره. بخلاف الجمع، فإنه یدل علی ما هو محدود من جانب القله فقط، لأن أقل الجمع ثلاثه و أما من جانب الکثره فغیر محدود أبدا. فکل ما تفرض لذلک اللفظ المجموع من أفراد مهما کثرت فهی مرتبه من الجمع واحده و جماعه واحده، حتی لو أرید جمیع الأفراد بأسرها، فإنها کلها مرتبه واحده من الجمع، لا مجموعه مراتب له. فیکون معنی استغراق الجمع عدم الوقوف علی حد خاص من حدود

ص 132

الجمع و مرتبه دانیه منه، بل المقصود أعلی مراتبه. فیذهب استغراقه إلی آخر الآحاد ل إلی آخر المراتب، إذ لیس هناک بلحاظ جمیع الأفراد إلا مرتبه واحده لا مراتب متعدده و لیس الا حد واحد هو الحد الأعلی، لا حدود متکثره، فهو من هذه الجهه کاستغراق المفرد معناه عدم الوقوف علی حد خاص، فیذهب إلی آخر الآحاد. نعم الفرق بینهما إنم هو فی عدم الاستغراق، فإن عدم استغراق المفرد یوجب الاقتصار علی واحد. و عدم استغراق الجمع یوجب الاقتصار علی أقل الجمع و هو ثلاثه.

2 - المخصص المتصل و المنفصل

إن تخصیص العام علی نحوین:

1 - إن یقترن به مخصصه فی نفس الکلام الواحد الملقی من المتکلم کقولنا: (أشهد إن لا إله إلا الله). و یسمی المخصص (المتصل). فیکون قرینه علی إراده ما عدا الخاص من العموم. و تلحق به - بل هی منه - القرینه الحالیه المکتنف بها الکلام الداله علی إراده الخصوص، علی وجه یصح تعویل المتکلم علیها فی بیان مراده.

2 - ألا یقترن به مخصصه فی نفس الکلام، بل یرد فی کلأم آخر مستقل قبله أو بعده. و یسمی المخصص (المنفصل)، فیکون أیضا قرینه علی إراده ما عدا الخاص من العموم، کالأول. فأذن لا فرق بین القسمین من ناحیه القرینه علی مراد المتکلم و إنما الفرق بینهما من ناحیه أخری و هی ناحیه انعقاد الظهور فی العموم: ففی المتصل لا ینعقد للکلأم ظهور إلا فی الخصوص و فی المنفصل ینعقد ظهور العام فی عمومه، غیر إن الخاص ظهوره أقوی، فیقدم علیه من باب تقدیم الأظهر علی الظاهر أو النص علی الظاهر. و السر فی ذلک: إن الکلام مطلقا - العام و غیره - لا یستقر له الظهور و لا ینعقد الا بعد الانتهاء منه و الانقطاع عرفا، علی وجه لا یبقی بحسب

ص 133

العرف مجال لإلحاقه بضمیمه تصلح لأن تکون قرینه تصرفه عن ظهوره الابتدائی الأولی و إلا فالکلام مادام متصلا عرفا فإن ظهوره مراعی، فإن انقطع من دون ورود قرینه علی خلافه استقر ظهوره الأول و انعقد الکلام علیه و إن لحقته القرینه الصارفه تبدل ظهوره الأول إلی ظهور آخر حسب دلاله القرینه و انعقد حینئذ علی الظهور الثانی. ولذ لو کانت القرینه مجمله أو إن وجد فی الکلام ما یحتمل إن یکون قرینه أوجب ذلک عدم انعقاد الظهور الأول و إلا ظهور آخر، فیعود الکلام برمته مجملا. هذا من ناحیه کلیه فی کل کلأم. و مقامنا من هذا الباب، لأن المخصص - کما قلنا - من قبیل القرینه الصارفه، فالعام له ظهور ابتدائی - أو بدوی - فی العموم، فیکون مراعی بانقطاع الکلام و انتهائه، فإن لم یلحقه ما یخصصه استقر ظهوره الابتدائی و انعقد علی العموم و إن لحقته قرینه التخصیص قبل الانقطاع تبدل ظهوره الأول و انعقد له ظهوره آخر حسب دلاله المخصص المتصل. أذن فالعام المخصص بالمتصل لا یستقر و لا ینعقد له ظهوره فی العموم، بخلاف المخصص بالمنفصل، لأن الکلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما یصلح للقرینه علی التخصیص، فیستقر ظهوره الابتدائی فی العموم. غیر إنه إذا ورد المخصص المنفصل یزاحم ظهور العام، فیقدم علیه من باب إنه قرینه علیه کاشفه عن المراد الجدی.

3 - هل استعمال العام فی المخصص مجاز؟

قلنا: إن المخصص بقسمیه قرینه علی إراده ما عدا الخاص من لفظ العموم، فیکون المراد من العام بعض ما یشمله ظاهره. فوقع الکلام فی إن هذا الاستعمال هل هو علی نحو المجاز أو الحقیقه. و اختلف العلماء فیه علی أقوال کثیره: (منها) إنه مجاز مطلقا و (منها) إنه حقیقه مطلقا. و (منه) التفصیل بین المخصص بالمتصل و بین المخصص بالمنفصل، فإن کان التخصیص بالأول فهو حقیقه دون ما کان بالثانی و قیل: بالعکس.

ص 134

والحق عندنا هو القول الثانی أی إنه حقیقه مطلقا. (الدلیل) - إن منشأ توهم القول بالمجاز إن أداه العموم لما کانت موضوعه للدلاله علی سعه مدخولها و عمومه لجمیع أفراده، فلو أرید منه بعضه فقد استعملت فی غیر ما وضعت له، فیکون الاستعمال مجاز. و هذا التوهم یدفع بأدنی تأمل، لأنه فی التخصیص بالمتصل کقولک - مثلا -: أکرم کل عالم إلا الفاسقین لم تستعمل أداه العموم إلا فی معناها و هی الشمول لجمیع أفراد مدخولها، غایه الأمر إن مدخولها تاره یدل علیه لفظ واحد مثل أکرم کل عادل و أخری یدل علیه أکثر من لفظ واحد فی صوره التخصیص، فیکون التخصیص معناه إن مدخول (کل) لیس ما یصدق علیه لفظ عالم مثلا بل هو خصوص العالم العادل فی المثال. و أما (کل) فهی باقیه علی مالها من الدلاله علی العموم و الشمول، لأنها تدل حینئذ علی الشمول لکل عادل من العلماء و لذا لا یصح إن یوضع مکانها کلمه (بعض)، فلا یستقیم المعنی لو قلت: أکرم بعض العلماء إلا الفاسقین و إلا لما صح الاستثناء کما لا یستقیم لو قلت: أکرم بعض العلماء العدول، فإنه لا یدل علی تحدید الموضوع کما لو کانت (کل) و الاستثناء موجودین. و الحاصل إن لفظه (کل) و سائر أدوات العموم فی مورد التخصیص لم تستعمل الا فی معناها و هو الشمول. و لا معنی للقول بأن المجاز فی نفس مدخولها، لأن مدخولها مثل کلمه عالم موضوع لنفس الطبیعه من حیث هی، لا الطبیعه بجمیع أفرادها أو بعضها. و إراده الجمیع أو البعض إنما یکون من دلاله لفظه أخری ک (کل) أو (بعض)، فإذا قید مدخولها و أرید منه المقید بالعداله فی المثال المتقدم لم یکن مستعملا إل فی معناه. و هو من له العلم و تکون إراده ما عدا الفاسق من العلماء من دلاله المجموع القید و المقید، من باب تعدد الدال و المدلول. و سیجئ إن شاء الله تعالی إن تقیید المطلق لا یوجب مجازا. هذا الکلام کله عن المخصوص بالمتصل. و کذلک الکلام عن المخصوص

ص 135

بالمنفصل، لأنا قلنا: إن التخصیص بالمنفصل معناه جعل الخاص قرینه منفصله علی تقیید مدخول (کل) بما عدا الخاص، فلا تصرف فی أداه العموم و لا فی مدخولها و یکون أیضا من باب تعدد الدال و المدلول. و لو فرض إن المخصص المنفصل لیس مقیدا لمدخول أداه العموم، بل هو تخصیص للعموم نفسه فإن هذا لا یلزم منه إن یکون المستعمل فیه فی العام هو البعض، حتی یکون مجازا، بل إنما یکشف الخاص عن المراد الجدی من العام.

4 - حجیه العام المخصص فی الباقی

إذا شککنا فی شمول العام - المخصص - لبعض أفراد الباقی من العام بعد التخصیص، فهل العام حجه فی هذا البعض، فیتمسک بظاهر العموم لإدخاله فی حکم العام؟ علی أقوال: مثلا، إذا قال المولی: (کل ماء طاهر)، ثم استثنی من العموم بدلیل متصل أو منفصل الماء المتغیر بالنجاسه و نحن احتملنا استثناء الماء القلیل الملاقی للنجاسه بدون تغییر، فإذا قلنا بأن العام المخصص حجه فی الباقی نطرد هذ الاحتمال بظاهر عموم العام فی جمیع الباقی، فنحکم بطهاره الماء الملاقی غیر المتغیر. و إذا لم نقل بحجیته فی الباقی یبقی هذا الاحتمال معلقا لا دلیل علیه من العام، فنلتمس، له دلیلا آخر یقول بطهارته أو نجاسته. و الأقوال فی المسأله کثیره: منها التفصیل بین المخصص بالمتصل فیکون حجه فی الباقی و بین المخصص بالمنفصل فل یکون حجه. و قیل بالعکس و الحق فی المسأله هو الحجیه مطلقا، لأن أساس النزاع ناشئ من النزاع فی المسأله السابقه و هی إن العام المخصص مجاز فی الباقی أم لا؟ و من قال بالمجاز یستشکل فی ظهور العام و حجیته فی جمیع الباقی من جهه إن المفروض إن استعمال العام فی تمأم الباقی مجاز و استعماله فی بعض الباقی مجاز آخر أیضا، فیقع النزاع فی إن المجاز الأول أقرب إلی الحقیقه، فیکون العام ظاهرا فیه أو إن المجازین متساویان، فلا ظهور فی أحدهما. فإذا کان المجاز الأول هو الظاهر کان العام حجه فی تمأم الباقی و إلا فلا یکون حجه.

ص 136

أما نحن الذین نقول بأن العام المخصص حقیقه کما تقدم، ففی راحه من هذا النزاع، لأن قلنا: إن أداه العموم باقیه علی ما لها من معنی الشمول لجمیع أفراد مدخولها، فإذ خرج من مدخولها بعض الأفراد بالتخصیص بالمتصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها علی العموم باقیه علی حالها و إنما مدخولها تتضیق دائرته بالتخصیص. فحکم العام المخصص حکم العام غیر المخصص فی ظهوره فی الشمول لکل ما یمکن إن یدخل فیه. و علی أی حال، بعد القول بأن العام المخصص حقیقه فی الباقی علی ما بیناه لا یبقی شک فی حجیته فی الباقی. و أیما یقع الشک علی تقدیر القول بالمجازیه، فقد نقول إنه حجه فی الباقی علی هذا التقدیر و قد لا نقول. لا إنه کل من یقول بالمجازیه یقول بعدم الحجیه، کما توهم ذلک بعضهم.

5 - هل یسری إجمال المخصص إلی العام؟

هل یسری إجمال المخصص إلی العام؟

کان البحث السابق و هو (حجیه العام فی الباقی) فی فرض إن الخاص مبین لا إجمال فیه و إنما الشک فی تخصیص غیره ما علم خروجه عن الخاص. و علینا الآن إن نبحث عن حجیه العام فی فرض إجمال الخاص. و الإجمال علی نحوین.

1 - (الشبهه المفهومیه) - و هی فی فرض الشک فی نفس مفهوم الخاص بأن کان مجملا، نحو قوله (ع): (کل ماء طاهر إلا ما تغیر طعمه أو لونه أو ریحه) الذی یشک فیه إن المراد من التغیر خصوص التغیر الحسی أو ما یشمل التغیر التقدیری. و نحو قولن: (أحسن الظن إلا بخالد) الذی یشک فیه إن المراد من خالد هو خالد بن بکر أو خالد بن سعد، مثلا.

2 - (الشبهه المصداقیه) و هی فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد العام فی الخاص مع وضوح مفهوم الخاص، بأن کان مبینا لا إجمال فیه، کما

ص 137

إذا شک فی مثال الماء السابق إن ماء معینا، أتغیر بالنجاسه فدخل فی حکم الخاص أم لم یتغیر فهو لا یزال باقیا علی طهارته. و الکلام فی الشبهتین یختلف اختلافا بین. فلنفرد لکل منهما بحثا مستقلا.

(أ - الشبهه المفهومیه) الدوران فی الشبهه المفهومیه (تاره) یکون بین الأقل و الأکثر، کالمثال الأول، فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خصوص التغیر الحسی أو یعم التقدیری، (فالأقل) هو التغیر الحسی و هو المتیقن. (و الأکثر) هو الأعم منه و من التقدیری. (وأخری) یکون بین المتباینین کالمثال الثانی، فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خالد بن بکر و بین خالد بن سعد و لا قدر متیقن فی البین. ثم علی کل من التقدیرین، أما إن یکون المخصص متصلا أو منفصلا. و الحکم فی المقام یختلف باختلاف هذه الأقسأم الأربعه فی الجمله، فلنذکرها بالتفصیل:

1، 2 - فیما إذا کان المخصص (متصلا) سواء کان الدوران فیه بین الأقل الأکثر أو بین المتباینین، فإن الحق فیه إن إجمال المخصص یسری إلی العام أی إنه لا یمکن التمسک بأصاله العموم لإدخال المشکوک فی حکم العام. و هو واضح علی ما ذکرناه سابقا من إن المخصص المتصل من نوع قرینه الکلام المتصله، فلا ینعقد للعام ظهور إلا فیما عدا الخاص، فإذا کان الخاص مجملا سری أجماله إلی العام، لأن ما عدا الخاص غیر معلوم، فلا ینعقد للعام ظهور فیما لم یعلم خروجه عن عنوان الخاص.

3 - فی الدوران بین (الأقل و الأکثر) إذا کان المخصص (منفصلا) فإن الحق فیه إن إجمال الخاص لا یسری إلی العام، أی إنه یصح التمسک بأصاله العموم لإدخال ما عدا الأقل فی حکم العام. و الحجه فیه واضحه بناء علی م تقدم فی الفصل الثانی من إن العام المخصص بالمنفصل ینعقد له ظهور فی

ص 138

العموم و إذا کان یقدم علیه الخاص فمن باب تقدیم أقوی الحجتین فإذا کان الخاص مجمل فی الزائد علی القدر المتیقن منه، فلا یکون حجه فی الزائد، لأنه - حسب الفرض - مجمل لا ظهور له فیه و إنما تنحصر حجیته فی القدر المتیقن و هو الأقل. فکیف یزاحم العام المنعقد ظهوره فی الشمول لجمیع أفراده التی منها القدر المتیقن من الخاص و منه القدر الزائد علیه المشکوک دخوله فی الخاص. فإذا خرج القدر المتیقن بحجه أقوی من العام یبقی القدر الزائد لا مزاحم لحجیه العام و ظهوره فیه.

4 - فی الدوران بین (المتباینین) إذا کان المخصص (منفصلا)، فإن الحق فیه أن إجمال الخاص یسری إلی العام، کالمخصص المتصل، لأن المفروض حصول العلم الإجمالی بالتخصیص واقعا و إن تردد بین شیئین، فیسقط العموم عن الحجیه فی کل واحد منهما. و الفرق بینه و بین المخصص المتصل المجمل إنه فی المتصل یرتفع ظهور الکلام فی العموم رأسا و فی المنفصل المردد بین المتباینین ترتفع حجیه الظهور و إن کان الظهور البدوی باقیا، فلا یمکن التمسک بأصاله العموم فی أحد المرددین. بل لو فرض إنها تجری بالقیاس إلی أحدهما فهی تجری أیضا بالقیاس إلی الآخر و لا یمکن جریانهما معا لخروج أحدهما عن العموم قطعا، فیتعارضان و یتساقطان. و إن کان الحق إن نفس وجود العلم الإجمالی یمنع من جریان أصاله العموم فی کل منهما رأسا لا إنها تجری فیهما فیحصل التعارض ثم التساقط.

(ب - الشبهه المصداقیه) قلنا: إن الشبهه المصداقیه تکون فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد م ینطبق علیه العام فی المخصص، مع کون المخصص مبینا لا إجمال فیه و إنما الإجمال فی المصداق. فلا یدری إن هذا الفرد متصف بعنوان الخاص فخرج عن حکم العام، أم لم یتصف فهو مشمول لحکم العام، کالمثال

ص 139

المتقدم و هو الماء المشکوک تغیره بالنجاسه و کمثال الشک فی الید علی مال إنها ید عادیه أو ید أمانه، فیشک فی شمول العام لها و هو قوله صلی الله علیه و آله: (علی الید ما أخذت حتی تؤدی)، لأنها ید عادیه، أو خروجها منه لأنها ید أمانه، لما دل علی عدم ضمان ید الأمانه المخصص لذلک العموم. ربما ینسب إلی المشهور من العلماء الاقدمین القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه و لذا أفتوا فی مثال الید المشکوکه بالضمان. و قد یستدل لهذا القول: بأن انطباق عنوان العام علی المصداق المردد معلوم فیکون العام حجه فیه ما لم یعارض بحجه أقوی و أما انطباق عنوان الخاص علیه فغیر معلوم، فلا یکون الخاص حجه فیه، فلا یزاحم العام و هو نظیر ما قلناه فی المخصص المنفصل فی الشبهه المفهومیه عند الدوران بین الأقل و الأکثر. و الحق عدم جواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه فی المتصل و المنفصل معا. و دلیلنا علی ذلک: إن المخصص لما کان حجه أقوی من العام، فإنه موجب لقصر حکم العام علی باقی أفراده و رافع لحجیه العام فی بعض مدلوله. و الفرد المشکوک مردد بین دخوله فیما کان العام حجه فیه و بین خروجه عنه مع عدم دلاله العام علی دخوله فیما هو حجه فیه، فلا یکون العام حجه فیه بلا مزاحم کما قیل فی دلیلهم. و لئن کان انطباق عنوان العام علیه معلوما، فلیس هو معلوم الانطباق علیه بما هو حجه. و الحاصل، إن هناک عندنا حجتین معلومتین حسب الفرض (إحداهما) العام، هو حجه فیما عدا الخاص. (وثانیتهما) المخصص و هو حجه فی مدلوله و المشتبه مردد بین دخوله فی تلک الحجه أو هذه الحجه. و بهذا یظهر الفرق بین الشبهه المصداقیه و بین الشبهه المفهومیه فی المنفصل عند الدوران بین الأقل و الأکثر. فإن الخاص فی الشبهه المفهومیه لیس حجه إلا فی الأقل و الزائد المشکوک لیس مشکوک الدخول فیما کان الخاص معلوم الحجیه فیه بل الخاص مشکوک إنه جعل حجه فیه أم لا. و مشکوک الحجیه فی

ص 140

شیء لیس بحجه - قطعا - فی ذلک الشیء (1). و أما العام فهو حجه إلا فیما کان الخاص حجه فیه. و علیه لا یکون الأکثر مرددا بین دخوله فی تلک الحجه أو هذه الحجه، کالمصداق المردد، بل هو معلوم إن الخاص لیس حجه فیه لمکان الشک، فلا یزاحم حجیه العام فیه. و أما فتوی المشهور بالضمان فی الید المشکوکه إنها ید عادیه أو ید أمانه فلا یعلم إنها لأجل القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه و لعل لها وجها آخر لیس المقام محل ذکره.

(تنبیه) - فی جواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه

إذ کان المخصص لبیا - المقصود من المخصص (اللبی): ما یقابل اللفظی، کالإجماع و دلیل العقل اللذین هما دلیلان و لیسا من نوع الألفاظ فقد نسب إلی الشیخ المحقق الأنصاری (قدس سره) جواز التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه مطلقا إذا کان المخصص لبی. و تبعه جماعه من المتأخرین عنه. و ذهب المحقق شیخ أساتذتنا (صاحب الکفایه) قدس سره إلی التفصیل بین ما إذا کان المخصص اللبی مما یصح إن یتکل علیه المتکلم فی بیان مراده بأن کان عقلیا ضروریا، فإنه یکون کالمتصل، فلا ینعقد للعام ظهور فی العموم فلا مجال للتمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه - و بین ما إذا لم یکن کذلک، کما إذا

(هامش)

(1) سیأتی فی (مباحث الحجه): إن قوأم حجیه الشیء بالعلم، لأنه إنما یکون الشیء صالحا لأن یحتج به المولی علی العبد إذا کان و أصلا إلیه بالعلم، فالعلم مأخوذ فی موضوع الحجه فعند الشک فی حجیه شیء یرتفع موضوعها، فیعلم بعدم حجیته. و معنی الشک فی حجیته احتمال إنه نصبه الشارع حجه واقعا علی تقدیر و صوله. و حیث لم یصل نقطع بعدم حجیته فعلا فیزول ذلک الاحتمال البدوی عند الالتفات إلی ذلک لا إنه حین الشک فی الحجیه یقطع بعدم الحجیه و إلا للزم اجتماع الشک و القطع بشیء واحد فی إن واحد و هو محال.

ص 141

لم یکن التخصیص ضروریا علی وجه یصح إن یتکل علیه المتکلم، فإنه لا مانع من التمسک بالعام فی الشبهه المصداقیه، لبقاء العام علی ظهوره و هو حجه بلا مزاحم. و استشهد علی ذلک بما ذکره من الطریقه المعروفه و السیره المستمره الما لوفه بین العقلاء، کم إذا أمر المولی منهم عبده بإکرأم جیرانه و حصل القطع للعبد بأن المولی لا یرید إکرأم من کان عدوا له من الجیران، فإن العبد لیس له ألا یکرم من یشک فی عداوته و للمولی إن یؤاخذه علی عدم إکرأمه و لا یصح منه الاعتذار بمجرد احتمال العداوه، لأن بناء العقلاء و سیرتهم هی ملاک حجیه أصاله الظهور، فیکون ظهور العام - فی هذا المقام - حجه بمقتضی بناء العقلاء. و زاد علی ذلک بأنه یستکشف من عموم العام للفرد المشکوک إنه لیس فردا للخاص الذی علم خروجه من حکم العام. و مثل له بعموم قوله (لعن الله بنی فلأن قاطبه) المعلوم منه خروج من کان مؤمنا منهم فإن شک فی أیمان شخص یحکم بجواز لعنه للعموم. و کل من جاز لعنه لیس مؤمنا. فینتج من الشکل الأول (هذا الشخص لیس مؤمنا). هذا خلاصه رأی صاحب الکفایه (قدس سره) و لکن شیخنا المحقق الکبیر النائینی أعلی الله مقامه لم یرتض هذا التفصیل. و لا إطلاق رأی الشیخ قدس سره، بل ذهب إلی تفصیل آخر. (وخلاصته): إن المخصص اللبی سواء کان عقلیا ضروریا یصح إن یتکل علیه المتکلم فی مقام التخاطب، أو لم یکن کذلک، بأن کان عقلیا نظریا أو إجماعا - فإنه کالمخصص اللفظی کاشف عن تقیید المراد الواقعی فی العام: من عدم کون موضوع الحکم الواقعی باقیا علی إطلاقه الذی یظهر فیه العام فلا مجال للتمسک بالعام فی الفرد المشکوک بلا فرق بین اللبی و اللفظی، لأن المانع من التمسک بالعام مشترک بینهما و هو انکشاف تقیید موضوع الحکم واقعا. و لا یفرق فی هذه الجهه بین إن یکون الکاشف لفظی أو لبیا. و استثنی من ذلک ما إذا کان المخصص اللبی لم یستکشف منه تقیید

ص 142

موضوع الحکم واقعا، بأن کان العقل إنما أدرک ما هو ملاک حکم الشارع واقعا، أو قأم الإجماع علی کونه ملاکا لحکم الشارع (کما إذا أدرک العقل أو قأم الإجماع علی إن ملاک لعن بنی فلأن هو کفرهم) فإن ذلک لا یوجب تقیید موضوع الحکم لأن الملاک لا یصلح لتقییده، بل من العموم یستکشف وجود الملاک فی جمیعهم. فإذا شک فی وجود الملاک فی فرد یکون عموم الحکم کاشفا عن وجوده فیه. نعم لو علم بعدم وجود الملاک فی فرد یکون الفرد نفسه خارجا کما لو أخرجه المولی بالنص علیه، لا إنه یکون کالمقید لموضوع العام. و أما سکوت المولی عن بیانه، فهو أما لمصلحه أو لغفله إذا کان من الموالی العادیین. نعم لو تردد الأمر بین إن یکون المخصص کاشفا عن الملاک أو مقیدا لعنوان العام فإن التفصیل الذی ذکره صاحب الکفایه یکون وجیها. (والحاصل): إن المخصص إن أحرزنا إنه کاشف عن تقیید موضوع العام، فلا یجوز التمسک بالعموم فی الشبهه المصداقیه أبدا و إن أحرزنا إنه کاشف عن ملاک الحکم فقط من دون تقیید فلا مانع من التمسک بالعموم، بل یکون کاشفا عن وجود الملاک فی المشکوک. و إن تردد أمره و لم یحرز کونه قیدا أو ملاکا، فإن کان حکم العقل ضروریا یمکن الاتکال علیه فی التفهیم فیلحق بالقسم الأول و إن کان نظریا أو إجماعا لا یصح الاتکال علیه فیلحق بالقسم الثانی، فیتمسک بالعموم، لجواز إن یکون الفرد المشکوک قد أحرز المولی وجود الملاک فیه، مع احتمال إن ما أدرکه العقل أو قأم علیه الإجماع من قبیل الملاکات. هذا کله حکایه أقوال علمائنا فی المسأله. و إنما أطلت فی نقلها لأن هذه المسأله حادثه، أثاره شیخنا الأنصاری (قدس سره) مؤسس الأصول الحدیث. و اختلف فیها أساطین مشایخنا و نکتفی بهذا المقدار دون بیان ما نعتمد علیه من الأقوال لئلا نخرج عن الغرض الذی وضعت له الرساله. و بالاختصار إن ما ذهب إلیه الشیخ هو الأولی بالاعتماد. و لکن مع تحریر

ص 143

لقوله علی غیر ما هو المعروف عنه (1).

(هامش)

(1) و توضیح ذلک: إن کل عام ظاهر فی العموم لا بد إن یتضمن ظهورین.

1 - ظهوره فی عدم منافاه أیه صفه من الصفات أو أی عنوان من العناوین لحکمه.

2 - ظهوره فی عدم وجود المنافی أیضا. أی إنه ظاهر فی عدم المنافاه و عدم المنافی معه. فإن معنی ظهور عموم (أکرم جیرانی) - مثلا -: إنه لیس هناک صفه أو عنوان ینافی الحکم بوجوب إکرأم الجیران، نحو صفه العداوه أو الفسق أو نحو ذلک، کما إن معناه أیضا إنه لیس یوجد فی الجیران من فیه صفه أو عنوان ینافی الحکم بوجوب إکرأمه. و هذا واضح لا غبار فیه. فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور فی العموم مخصص منفصل لفظی، کما لو قال فی المثال المتقدم: (لا تکرم الأعداء من جیرانی)، فإن هذا المخصص لا شک فی إنه لا یکون ظاهر فی أمرین:

1 - إن صفه العداوه منافیه لوجوب الإکرأم:

2 - إن فی الجیران من هو علی صفه العداوه فعلا أو یتوقع منه إن یکون عدوا و إلا لو لم یوجد العدو و لا یتوقع فیهم لکان هذا التخصیص لغوا و عبثا لا یصدر من الحکیم. و علی ذلک فیکون المخصص اللفظی مزاحما للعام فی الظهورین معا، فیسقط عن الحجیه فیهما معا. فإذا شککنا فی فرد من الجیران إنه عدو أم لا، فلا مجال فیه للتمسک بالعام فی إلحاقه بحکمه، لسقوط العام عن حجیته فی شموله له، إذ یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فیما أصبح العام حجه فیه و بین دخوله فیما کان الخاص حجه فیه. أما لو کان هناک مخصص لبی، کما لو حکم العقل - مثلا - بأن العداوه تنافی وجوب الإکرأم، فإن هذا الحکم من العقل لا یتوقف علی إن یکون هناک أعداء بالفعل أو متوقعون، بل العقل یحکم بهذا الحکم سواء کان هناک أعداء أم لم یکونوا أبدا، إذ لا مجال للقول بأنه لو لم یکن هناک أعداء لکان حکم العقل لغوا و عبثا، کما هو واضح بأدنی تأمل و التفات. و علیه، فالحکم العقلی هذا لا یزاحم الظهور الثانی العام، أعنی ظهوره فی عدم المنافی، فظهوره الثانی هذا یبقی بل مزاحم. فإذا شککنا فی فرد من الجیران إنه عدو أم لا فلا مانع من التمسک بالعام فی إدخاله فی حکمه، لأنه لا یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فی هذه الحجه أو هذه الحجه، إذ المخصص اللبی حسب الفرض لا یقتضی وجود المنافی و لیس حجه فیه، أما العام فهو حجه فیه بلا مزاحم.

ص 144

6 - لا یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

لا شک فی إن بعض عمومات القران الکریم و السنه الشریفه ورد لها مخصصات منفصله شرحت المقصود من تلک العمومات. و هذ معلوم من طریقه صاحب الشریعه و الأئمه الأطهار علیهم الصلاه و السلأم حتی قیل: (م من عام الا و قد خص). و لذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأیهم فی الأحکام، لأن فی الکتاب المجید و السنه عاما و خاصا و مطلقا و مقیدا. و هذه الأمور لا تعرف إلا من طریق آل البیت علیهم السلأم. و هذا ما أوجب التوقف فی التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص و الیأس من وجود المخصص، لجواز إن یکون هذا العام من العمومات التی لها مخصص موجود فی السنه أو فی الکتاب لم یطلع علیه من وصل إلیه العام. و قد نقل عدم الخلاف بل الإجماع علی عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص و الیأس. و هو الحق. و السر فی ذلک واضح لما قدمناه، لأنه إذا کانت طریقه الشارع فی بیان مقاصده تعتمد علی القرائن المنفصله لا یبقی اطمئنان بظهور العام فی عمومه فإنه یکون ظهورا بدویا. و للشارع الحجه علی المکلف إذا قصر فی الفحص عن المخصص.

(هامش)

= فظهر من هذا البیان إن الفرق عظیم بین المخصص اللبی و المخصص اللفظی من هذه الناحیه، لأنه فی المخصص اللبی یبقی العام حجه فی ظهوره الثانی من دون إن یکون المختص متعرضا له و لا یسقط العام عن الحجیه فی ظهوره إلا بمقدار المزاحمه لا أکثر. و هذا بخلاف المخصص اللفظی فإنه ظاهر فی الأمرین معا کما قدمناه، فیکون مزاحما للعام فیهما معا. و لا فرق فی المخصص اللبی بین إن یکون ضروریا أو یکون غیر ضروری و لا بین إن یکون کاشفا عن تقیید موضوع العام أو کاشفا عن ملاک الحکم، فإنه فی جمیع هذه الصور لا یقتضی وجود المنافی. و بهذا التحریر للمسأله یتجلی مرأم الشیخ الأعظم إنه الأولی بالاعتماد.

ص 145

أما إذا بذل وسعه و فحص عن المخصص فی مظانه، حتی حصل له الاطمئنان بعدم وجوده فله الأخذ بظهور العام. و لیس للشارع حجه علیه فیما لو کان هناک مخصصا واقعا، لم یتمکن المکلف من الوصول إلیه عاده بالفحص بل للمکلف إن یحتج فیقول:

إنی فحصت عن المخصص فلم أظفر به و لو کان مخصص هناک کان ینبغی بیانه علی وجه لو فحصنا عنه عاده لوجدناه فی مظانه. و إلا فلا حجه فیه علینا. و هذا الکلام جار فی کل ظهور، فإنه لا یجوز الأخذ به الا بعد الفحص عن القرائن المنفصله. فإذا فحص المکلف و لم یظفر بها فله إن یأخذ بالظهور و یکون حجه علیه. و من هنا نستنتج قاعده عامه تأتی فی محلها و نستوفی البحث عنها إن شاء الله تعالی و المقام من صغریاتها و هی: (إن أصاله الظهور لا تکون حجه إلا بعد الفحص و الیأس عن القرینه). أما بیان مقدار الفحص الواجب أهو الذی یوجب الیأس علی نحو القطع بعدم القرینه أو علی نحو الظن الغالب و الاطمئنان بعدمها؟ ؟ ، فذلک موکول إلی محله. و المختار کفایه الاطمئنان. و الذی یهون الخطب فی هذه العصور المتأخره أن علمائنا قدس الله تعالی أرواحهم قد بذلوا جهودهم علی تعاقب العصور فی جمع الأخبار و تبویبها و البحث عنها و تنقیحها فی کتب الأخبار و الفقه، حتی إن الفقیه أصبح الآن یسهل علیه الفحص عن القرائن بالرجوع إلی مظانها المهیئه، فإذا لم یجده بعد الفحص یحصل له القطع غالبا بعدمها.

7 - تعقیب العام بضمیر یرجع إلی بعض أفراده

قد یرد عام ثم ترد بعده جمله فیها ضمیر یرجع إلی بعض أفراد العام بقرینه خاصه. مثل قوله تعالی (2: 282) (والمطلقات یتربصن بأنفسهن ثلاثه قروء. . ) إلی قوله:

(وبعولتهن أحق بردهن فی ذلک) فإن المطلقات عامه للرجعیات و غیرها و لکن الضمیر فی بعولتهن یراد به خصوص الرجعیات.

ص 146

فمثل هذا الکلام یدور فیه الأمر بین مخالفتین للظاهر، أما:

1 - مخالفه ظهور العام فی العموم، بأن یجعل مخصوصا بالبعض الذی یرجع إلیه الضمیر. و أما:

2 - مخالفه ظهور الضمیر فی رجوعه إلی ما تقدم علیه من المعنی الذی دل علیه اللفظ بأن یکون مستعمل علی سبیل الاستخدام، فیراد منه البعض و العام یبقی علی دلالته علی العموم - فأی المخالفتین أولی؟ وقع الخلاف علی أقوال ثلاثه: (الأول) - إن أصاله العموم هی المقدمه، فیلتزم بالمخالفه الثانیه. (الثانی) - إن أصاله عدم الاستخدام هی المقدمه، فیلتزم بالمخالفه الأولی. (الثالث) - عدم جریان الأصلین معا و الرجوع إلی الأصول العملیه. أما عدم جریان أصاله العموم فلوجود ما یصلح إن یکون قرینه فی الکلام و هو عود الضمیر علی البعض، فلا ینعقد ظهور العام فی العموم. و أما إن أصاله عدم الاستخدام لا تجری فلأن الأصول اللفظیه یشترط فی جریانها - کما سبق أول الکتاب - إن یکون الشک فی مراد المتکلم، فلو کان المراد معلوما - کما فی المقام - و کان الشک فی کیفیه الاستعمال، فلا تجری قطعا. و الحق إن أصاله العموم جاریه و لا مانع منها، لأن ننکر إن یکون عود الضمیر إلی بعض أفراد العام موجبا لصرف ظهور العموم، إذ لا یلزم من تعین البعض من جهه مرجعیه الضمیر بقرینه إن یتعین إراده البعض من جهه حکم العام الثابت له بنفسه لأن الحکم فی الجمله المشتمله علی الضمیر غیر الحکم فی الجمله المشتمله علی العام و لا علاقه بینهما، فلا یکون عود الضمیر علی بعض العام من القرائن التی تصرف ظهوره عن عمومه. و اعتبر ذلک فی المثال، فلو قال المولی: (العلماء یجب إکرأمهم) ثم قال:

(وهم یجوز تقلیدهم) و أرید من ذلک (العدول) بقرینه، فإنه واضح فی هذا المثال إن تقیید الحکم الثانی بالعدول لا یوجب تقیید الحکم الأول بذلک، بل لیس فیه إشعار به. و لا یفرق فی ذلک بین إن یکون التقیید بمتصل کما فی مثالنا أو

ص 147

بمنفصل کما فی الآیه.

8 - تعقیب الاستثناء لجمل متعدده

قد ترد عمومات متعدده فی کلأم واحد ثم یتعقبها استثناء فی أخرها فیشک حینئذ فی رجوع الاستثناء لخصوص الجمله الأخیره أو لجمیع الجمل. مثاله قوله تعالی: (وَ الَّذینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَهِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانینَ جَلْدَهً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَهً أَبَداً وَ أُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذینَ تابُوا ) فإنه یحتمل إن یکون هذا الاستثناء من الحکم الأخیر فقط و هو فسق هؤلاء. و یحتمل إن یکون استثناء منه و من الحکم بعدم قبول شهادتهم و الحکم بجلدهم الثمانین. و اختلف العلماء فی ذلک علی أربعه أقوال:

1 - ظهور الکلام فی رجوع الاستثناء إلی خصوص الجمله الأخیره و إن کان رجوعه إلی غیر الأخیره ممکنا، ولکنه یحتاج إلی قرینه علیه.

2 - ظهوره فی رجوعه إلی جمیع الجمل. و تخصیصه بالأخیره فقط هو الذی یحتاج إلی الدلیل.

3 - عدم ظهوره فی واحد منها و إن کان رجوعه إلی الأخیره متیقنا علی کل حال. أما ما عدا الأخیره فتبقی مجمله لوجود ما یصلح للقرینه فل ینعقد لها ظهور فی العموم، فلا تجری أصاله العموم فیها.

4 - التفصیل بین ما إذا کان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبه لم یتکرر ذکره و قد ذکر فی صدر الکلام مثل قولک: (أحسن إلی الناس و احترمهم و اقض حوائجهم إلا الفاسقین) - و بین ما إذا کان الموضوع متکررا ذکره لکل جمله کالآیه الکریمه المتقدمه و إن کان الموضوع فی المعنی واحدا فی الجمیع. فإن کان من قبیل الأول فهو ظاهر فی رجوعه إلی الجمیع لأن الاستثناء إنما هو من الموضوع باعتبار الحکم و الموضوع لم یذکر إلا فی صدر الکلام فقط، فلا بد من رجوع الاستثناء إلیه، فیرجع إلی الجمیع. و إن کان من قبیل

ص 148

الثانی، فهو ظاهر فی الرجوع إلی الأخیره، لأن الموضوع قد ذکر فیها مستقلا فقد أخذ الاستثناء محله و یحتاج تخصیص الجمل السابقه إلی دلیل آخر مفقود بالفرض، فیتمسک بأصاله عمومها. و أما ما قیل: إن المقام من باب اکتناف الکلام بما یصلح لأن یکون قرینه، فلا ینعقد للجمل الأولی ظهور فی العموم - فلا وجه له، لأنه لما کان المتکلم حسب الفرض قد کرر الموضوع بالذکر و اکتفی باستثناء واحد و هو یأخذ محله بالرجوع إلی الأخیره، فلو أراد إرجاعه إلی الجمیع لوجب إن ینصب قرینه علی ذلک و إلا کان مخل ببیانه. و هذا (القول الرابع) هو أرجح الأقوال و به یکون الجمع بین کلمات العلماء: فمن ذهب إلی القول برجوعه إلی خصوص الأخیره، فلعله کان ناظرا إلی مثل الآیه المبارکه التی تکرر فیها الموضوع. و من ذهب إلی القول برجوعه إلی الجمیع فلعله کان ناظرا إلی الجمل التی لم یذکر فیها الموضوع إلا فی صدر الکلام. فیکون النزاع علی هذا لفظیا و یقع التصالح بین المتنازعین.

9 - التخصیص العام بالمفهوم

(المفهوم) ینقسم کما تقدم إلی الموافق و المخالف، فإذا ورد عام و مفهوم أخص مطلقا، فلا کلأم فی تخصیص العام بالمفهوم إذا کان (مفهوما موافقا)، مثاله قوله تعالی: (أوفوا بالعقود) فإنه عام یشمل کل عقد یقع باللغه العربیه و غیرها، فإذا ورد دلیل علی اعتبار إن یکون العقد بصیغه الماضی فقد قیل إنه یدل بالأولویه علی اعتبار العربیه فی العقد، لأنه لما دل علی عدم صحه العقد بالمضارع من العربیه، فلئن لم یصح من لغه أخری فمن طریق أولی. و لا شک إن مثل هذا المفهوم إن ثبت فإنه یخصص العام المتقدم، لأنه کالنص أو أظهر من عموم العام، فیقدم علیه. و أما التخصیص (بالمفهوم المخالف) فمثاله قوله تعالی: (إن الظن لا یغنی عن الحق شیئا) الدال بعمومه علی عدم اعتبار کل ظن حتی الظن الحاصل من خبر العادل. و قد وردت أیه أخری هی: (إن جاءکم فاسق بنبأ فتبینو. . ) الداله بمفهوم الشرط علی جواز الأخذ بخبر غیر الفاسق بغیر تبین.

ص 149

فهل یجوز تخصیص ذلک العام بهذا المفهوم المخالف؟ قد اختلفوا علی أقوال: فقد قیل بتقدیم العام و لا یجوز تخصیصه بهذا المفهوم. و قیل بتقدیم المفهوم. و قیل بعدم تقدیم أحدهما علی الآخر فیبقی الکلام مجملا. و فصل بعضهم تفصیلات کثیره یطول الکلام علیه. (والسر فی هذا الخلاف) إنه لما کان ظهور المفهوم المخالف لیس من القوه بحیث یبلغ درجه ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق - وقع الکلام فی إنه أقوی من ظهور العام فیقدم علیه، أو إن العام أقوی فهو المقدم، أو أنهما متساویان فی درجه الظهور فل یقدم أحدهما علی الآخر، أو إن ذلک یختلف باختلاف المقامات. و الحق إن المفهوم لم کان أخص من العام حسب الفرض فهو قرینه عرفا علی المراد من العام و القرینه تقدم علی ذی القرینه و تکون مفسره لما یراد من ذی القرینه و لا یعتبر إن یکون ظهورها أقوی من ظهور ذی القرینه. نعم لو فرض إن العام کان نصا فی العموم فإنه یکون هو قرینه علی المراد من الجمله ذات المفهوم فلا یکون لها مفهوم حینئذ. و هذا أمر آخر.

10 - تخصیص الکتاب العزیز بخبر الواحد

یبدو من الصعب علی المبتدئ إن یؤمن لأول وهله بجواز تخصیص العام الوارد فی القران الکریم بخبر الواحد، نظرا إلی إن الکتاب المقدس إنم هو وحی منزل من الله لا ریب فیه و الخبر ظنی یحتمل فیه الخطأ و الکذب، فکیف یقدم علی الکتاب. و لکن سیره العلماء من القدیم علی العمل بخبر الواحد إذا کان مخصصا للعام القرانی، بل لا تجد علی الأغلب خبرا معمولا به من بین الأخبار التی بأیدینا فی المجأمیع إلا و هو مخالف لعام أو مطلق فی القران و لو مثل عمومات الحل و نحوها. بل علی الظاهر إن مسأله تقدیم الخبر الخاص علی الآیه القرانیه العامه من المسائل المجمع علیها من غیر خلاف بین علمائنا، فما السر فی ذلک مع قلناه؟ نقول: لا ریب فی إن القران الکریم - و إن کان قطعی السند - فیه

ص 150

متشابه و محکم (نص علی ذلک القران نفسه) و المحکم نص و ظاهر و الظاهر منه عام و مطلق. کما لا ریب أیضا فی إنه ورد فی کلأم النبی و الأئمه علیهم الصلاه و السلأم ما یخصص کثیرا من عمومات القران و ما یقید کثیرا من مطلقاته و ما یقوم قرینه علی صرف جمله من ظواهره. و هذا قطعی لا یشک فیه أحد. فإن کان الخبر قطعی الصدور فلا کلأم فی ذلک و إن کان غیر قطعی الصدور و قد قأم الدلیل القطعی علی إنه حجه شرعا، لأنه خبر عادل مثلا و کان مضمون الخبر أخص من عموم الآیه القرانیه - فیدور الأمر بین إن نطرح الخبر بمعنی إن نکذب راویه و بین إن نتصرف بظاهر القران، لأنه لا یمکن التصرف بمضمون الخبر، لأنه نص أو أظهر و لا بسند القران لأنه قطعی. و مرجع ذلک إلی الدوران - فی الحقیقه - بین مخالفه الظن بصدق الخبر و بین مخالفه الظن بعموم الآیه. أو فقل یدور الأمر بین طرح دلیل حجیه الخبر و بین طرح أصاله العموم، فأی الدلیلین أولی بالطرح؟ و أیهما أولی بالتقدیم؟ فنقول: لا شک إن الخبر صالح لأن یکون قرینه علی التصرف فی ظاهر الکتاب، لأنه بدلالته ناظر و مفسر لظاهر الکتاب بحسب الفرض. و علی العکس من ظاهر الکتاب، فإنه غیر صالح لرفع الید عن دلیل حجیه الخبر لأنه لا علاقه له فیه من هذه الجهه - حسب الفرض - حتی یکون ناظرا إلیه و مفسرا له. فالخبر لسانه لسان المبین للکتاب، فیقدم علیه. و لیس الکتاب بظاهره بصدد بیان دلیل حجیه الخبر حتی یقدم علیه. و إن شئت فقل: إن الخبر بحسب الفرض قرینه علی الکتاب و الأصل الجاری فی القرینه - و هو هنا أصاله عدم کذب الراوی - مقدم علی الأصل الجاری فی ذی القرینه و هو هن أصاله العموم.

11 - الدوران بین التخصیص و النسخ

الدوران بین التخصیص و النسخ

اعلم إن العام و الخاص المنفصل یختلف حالهما من جهه العلم بتأریخهما معا أو بتأریخ أحدهما، أو الجهل بهما معا: فقد یقال فی بعض الأحوال بتعیین

ص 151

إن یکون الخاص ناسخا للعام أو منسوخا له، أو مخصصا إیاه. و قد یقع الشک فی بعض الصور و لتفصیل الحال نقول: إن الخاص و العام من ناحیه تأریخ صدورهما لا یخلوان من خمس حالات، فأما إن یکونا معلومی التأریخ، أو مجهولی التأریخ، أو أحدهما مجهولا و الآخر معلوما. هذه ثلاث صور. ثم المعلوم تاریخهما: أما إن یعلم تقارنهما عرفا أو یعلم تقدم العام أو یعلم تأخر العام. فتکون الصور خمسا:

(الصوره الأولی)

إذا کانا معلومی التأریخ مع العلم بتقارنهما عرفا، فإنه لا مجال لتوهم النسخ فیهما.

(الصوره الثانیه)

إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم العام، فهذه علی صورتین:

1 - إن یکون ورود الخاص قبل العمل بالعام. و الظاهر إنه لا إشکال حینئذ فی حمله علی التخصیص بغیر کلأم، أما لأن النسخ لا یکون قبل وقت العمل بالمنسوخ کما قیل و أما لأن الأولی فیه التخصیص کما سیأتی فی الصوره الآتیه.

2 - إن یکون وروده بعد وقت العمل بالعام. و هذه الصوره هی أشکل الصور و هی التی وقع فیها الکلام فی إن الخاص یجب إن یکون ناسخا، أو یجوز إن یکون مخصصا و لو فی بعض الحالات. و مع الجواز یتکلم حینئذ فی إن الحمل علی التخصیص هو الأولی، أو الحمل علی النسخ. فالذی یذهب إلی وجوب إن یکون الخاص ناسخ فهو ناظر إلی إن العام لما ورد وحل وقت العمل به بحسب الفرض، فتأخیر الخاص عن وقت العمل لو کان مخصصا و مبینا لعموم العام یکون من باب تأخیر البیان عن وقت الحاجه و هو

ص 152

قبیح من الحکیم، لأن فیه إضاعه للأحکام و لمصالح العباد بلا مبرر. فوجب إن یکون ناسخا للعام و العام باق علی عمومه یجب العمل به إلی حین ورود الخاص فیجب العمل ثانیا علی طبق الخاص. و أما من ذهب إلی جواز کونه مخصصا، فلعله ناظر إلی أن العام یجوز أن یکون واردا لبیان حکم ظاهری صوری لمصلحه اقتضت کتمان الحکم الواقعی و لو مصلحه التقیه، أو مصلحه التدرج فی بیان الأحکام کما هو المعلوم من طریقه النبی صلی الله علیه و آله فی بیان أحکام الشریعه، مع إن الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیه الثابته للأشیاء بعناوینها الأولیه إنما هو علی طبق الخاص. فإذا جاء الخاص یکون کاشفا عن الحکم الواقعی، فیکون مبینا للعام و مخصصا له و أما الحکم العام الذی ثبت أولا ظاهرا و صوره إن کان قد ارتفع و أنتهی أمده، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه و لیس هو من باب النسخ. و إذا جاز إن یکون العام واردا علی هذا النحو من بیان الحکم ظاهرا و صوره، فإن ثبت ذلک کان الخاص مخصصا أی کان کاشفا عن الواقع قطعا. و إن ثبت إنه فی صدد بیان الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیه الثابته للأشیاء بعناوینه الأولیه، فلا شک فی إنه یتعین کون الخاص ناسخا له. و أما لو دار الأمر بینهما إذ لم یقم دلیل علی تعیین أحدهما، فأیهما أرجح فی الحمل؟ فنقول: الأقرب إلی الصواب هو الحمل علی التخصیص. و (الوجه فیه) إن أصاله العموم بما هی لا تثبت أکثر من إن م یظهر من العام هو المراد الجدی للمتکلم و لا شک إن الحکم الصوری الذی نسمیه بالحکم الظاهری کالواقع مراد جدی للمتکلم لأنه مقصود بالتفهیم، فالعام لیس ظاهرا إلا فی إن المراد الجدی هو العموم سواء کان العموم حکما واقعیا أو صوریا. أما إن الحکم واقعی فلا یقتضیه الظهور أبدا حتی یثبت بأصاله العموم، لا سیما إن المعلوم من؟ ؟ طریقه صاحب الشریعه هو بیان العمومات مجرده عن قرائن التخصیص و یکشف المراد الواقعی منه بدلیل منفصل، حتی اشتهر

ص 153

القول بأنه (ما من عام إلا و قد خص) کما سبق. و علیه فلا دلیل من أصاله العموم علی إن الحکم واقعی حتی نلتجئ إلی الحمل علی النسخ، بل إراده الحکم الواقعی من العام علی ذلک الوجه یحتاج إلی مؤنه بیان زائده أکثر من ظهور العموم. و لأجل هذا قلنا: إن الحمل علی التخصیص أقرب إلی الصواب من الحمل علی النسخ و إن کان کل منهما ممکن.

(الصوره الثالثه)

إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم الخاص، فهذه أیضا علی صورتین:

1 - إن یرد العام قبل وقت العمل بالخاص، فلا ینبغی الإشکال فی کون الخاص مخصصا.

2 - إن یرد بعد وقت العمل بالخاص، فلا مجال لتوهم وجوب الحمل علی النسخ من جهه قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجه، لأنه من باب تقدیم البیان قبل وقت الحاجه و لا قبح فیه أصلا. و مع ذلک قیل بلزوم الحمل علی النسخ و لعل نظر هذا القائل إلی إن أصاله العموم جاریه و لا مانع منها الا احتمال إن یکون الخاص المتقدم مخصصا و قرینه علی العام و لکن أیضا یحتمل إن یکون منسوخا بالعام، فلا یحرز إنه من باب القرینه. و لا شک إن الخاص المنفصل إنما یقدم علی العام لأنه أقوی الحجتین و قرینه علیه. و مع هذ الاحتمال لا یکون الخاص المنفصل أقوی فی الظهور من العام. (قلت): الاصوب إن یحمل علی التخصیص کالصوره السابقه، لما تقدم من إن العام لا یدل علی أکثر من إن المراد جدی و لا یدل فی نفسه علی إن الحکم واقعی تابع للمصالح الواقعیه الثابته للأشیاء بعناوینها الأولیه. و إنما یکون العام ناسخا للخاص إذا کانت دلالته علی هذا النحو و إلا فالعمومات الوارده فی الشریعه علی الأغلب لیست کذلک. و أما احتمال النسخ، فل یقلل من ظهور الخاص فی نفسه قطعا، کما لا یرفع حجیته فیما هو ظاهر فیه، فلا یخرجه عن کونه صالحا لتخصیص العام، فیقدم علیه، لأنه أقوی فی نفسه ظهور.

ص 154

بل یمکن إن یقال:

إن العام اللاحق للخاص لا ینعقد له ظهور فی العموم إلا بودی بالنسبه إلی من لا یعلم بسبق الخاص، لجواز إن یعتمد المتکلم فی بیان مراده علی سبقه، فیکون المخصص السابق کالمخصص المتضل أو قرینه کال الحالیه، فلا یکون العام ظاهرا فی العموم حتی یتوهم إنه ظاهر فی ثبوت الحکم الواقعی.

(الصورتان الرابعه و الخأمسه)

إذا کانا مجهولی التاریخ أو أحدهما فقط کان مجهولا، فإنه یعلم الحال فیهما مما تقدم، فیحمل علی التخصیص بلا کلأم. و لا وجه لتوهم النسخ لا سیما بعد إن رجحنا التخصیص فی جمیع الصور و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان.

ص 155

الباب السادس: المطلق و المقید و فیه ست مسائل
اشاره

الباب السادس: المطلق و المقید و فیه ست مسائل:

المسأله الأولی - معنی المطلق و المقید

المسأله الثانیه - الإطلاق و التقیید متلازمان

المسأله الثالثه - الإطلاق فی الجمل

المسأله الرابعه - هل الإطلاق بالوضع؟

المسأله الخأمسه - مقدمات الحکمه

المسأله السادسه - المطلق و المقید المتنافیان

المسأله الأولی - معنی المطلق و المقید

المسأله الأولی - معنی المطلق و المقید

عرفوا المطلق بأنه (ما دل علی معنی شائع فی جنسه) و یقابله المقید. و هذا التعریف قدیم بحثوا عنه کثیرا و أحصوا علیه عده مؤاخذات یطول شرحها. و لا فائده فی ذکرها ما دام إن الغرض من مثل هذا التعریف هو تقریب المعنی الذی وضع له اللفظ، لأنه من التعاریف اللفظیه. و الظاهر إنه لیس للأصولیین اصطلاح خاص فی لفظی المطلق و المقید، بل هما مستعملان بما لهما من المعنی فی اللغه، فإن المطلق مأخوذ من الإطلاق و هو الإرسال و الشیوع و یقابله التقیید تقابل الملکه و عدمها و الملکه التقیید و الإطلاق عدمها و قد تقدم ص 66. غایه الأمر إن إرسال کل شیء بحسبه و ما یلیق به. فإذا نسب الإطلاق و التقیید إلی اللفظ - کما هو المقصود فی المقام - فإنما یراد ذلک بحسب ماله من دلاله علی المعنی. فیکونان وصفین للفظ باعتبار المعنی. و من موارد استعمال لفظ المطلق نستطیع إن نأخذ صوره تقریبیه لمعناه. فمثلا عندما نعرف العلم الشخصی و المعرف بلأم العهد لا یسمیان مطلقین باعتبار معناهما، لأنه لا شیوع و لا إرسال فی شخص معین - لا ینبغی إن نظن إنه ل یجوز إن یسمی العلم الشخصی مطلقا، فإنه إذا قال الأمر: (أکرم محمدا) و عرفنا إن لمحمد أحوالا مختلفه و لم یقید الحکم بحال من الأحوال نستطیع إن نعرف إن لفظ محمد هنا أو هذا الکلام بمجموعه یصح إن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال و إن لم یکن له شیوع باعتبار معناه الموضوع له.

ص 158

أذن للأعلام الشخصیه و المعرف بلأم العهد إطلاق فلا یختص المطلق بماله معنی شایع فی جنسه کاسم الجنس و نحوه. و کذلک عندما نعرف إن العام لا یسمی مطلقا، فلا ینبغی إن نظن إنه لا یجوز إن یسمی مطلقا أبدا، لأنا نعرف إن ذلک إنما هو بالنسبه إلی أفراده أم بالنسبه إلی أحوال أفراده غیر المفرده فإنه لا مضایقه فی إن نسمیه مطلقا. أذن ل مانع من شمول تعریف المطلق المتقدم (وهو ما دل علی معنی شایع فی جنسه) للعام باعتبار أحواله، لا باعتبار أفراده. و علی هذا فمعنی المطلق هو شیوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من المعنی و أحواله و لکن لا علی إن یکون ذلک الشیوع مستعملا فیه اللفظ کالشیوع المستفاد من وقوع النکره فی سیاق النفی و إلا کان الکلام عاما ل مطلقا.

المسأله الثانیه - الإطلاق و التقیید متلازمان

المسأله الثانیه - الإطلاق و التقیید متلازمان

أشرنا إلی التقابل بین الإطلاق و التقیید من باب تقابل الملکه و عدمها، لأن الإطلاق هو عدم التقیید فیما من شأنه إن یقید. فیتبع الإطلاق التقیید فی الأمکان، أی إنه إذا أمکن التقیید فی الکلام و فی لسان الدلیل أمکن الإطلاق و لو أمتنع استحال الإطلاق. بمعنی إنه لا یمکن فرض استکشاف الإطلاق و أرادته من کلأم المتکلم فی مورد لا یصح التقیید. بل یکون مثل هذا الکلام لا مطلقا و لا مقیدا و إن کان فی الواقع إن المتکلم لا بد إن یرید أحدهما. و قد تقدم مثاله فی بحث التوصلی و التعبدی ص 69، إذ قلنا: إن امتناع تقیید الأمر بقصد الامتثال یستلزم امتناع إطلاقه بالنسبه إلی هذا القید. و ذکرنا هناک کیف یمکن استکشاف إراده الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الکلام الواحد.

المسأله الثالثه - الإطلاق فی الجمل

المسأله الثالثه - الإطلاق فی الجمل

الإطلاق لا یختص بالمفردات - کما یظهر من کلمات الأصولیین - إذ مثلوا للمطلق باسم الجنس و علم الجنس و النکره، بل یکون فی الجمل أیضا کإطلاق صیغه أفعل الذی یقتضی استفاده الوجوب العینی و التعیینی و النفسی، فإن

ص 159

الإطلاق فیها إنما هو من نوع إطلاق الجمله. و مثله إطلاق الجمله الشرطیه فی استفاده الانحصار فی الشرط. و لکن محل البحث فی المسائل الآتیه خصوص الألفاظ المفرده و لعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار إن لیس هناک ضابط کلی لمطلقاتها و إن کان الأصح إن بحث مقدمات الحکمه یشملها. و قد بحث عن إطلاق بعض الجمل فی مناسباتها کإطلاق صیغه أفعل و الجمله الشرطیه و نحوها.

المسأله الرابعه - هل الإطلاق بالوضع؟

المسأله الرابعه - هل الإطلاق بالوضع؟

لا شک فی إن الإطلاق فی الأعلام بالنسبه إلی الأحوال کما تقدمت الإشاره إلیه - لیس بالوضع، بل إنما یستفاد من مقدمات الحکمه. و کذلک إطلاق الجمل و ما شابهها - أیضا - لیس بالوضع بل بمقدمات الحکمه. و هذا لا خلاف فیه. و إنما الذی وقع فیه البحث هو إن الإطلاق فی أسماء الأجناس و ما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدمات الحکمه؟ أی إن أسماء الأجناس هل هی موضوعه لمعانیها بما هی شایعه و مرسله علی وجه یکون الإرسال أی الإطلاق مأخوذا فی المعنی الموضوع له اللفظ - کما نسب إلی المشهور من القدماء قبل سلطان العلماء - أو إنها موضوعه لنفس المعانی بما هی و الإطلاق یستفاد من دال آخر و هو نفس تجرد اللفظ من القید إذا کانت مقدمات الحکمه متوفره فیه؟ - و هذا القول الثانی أول من صرح به فیما نعلم سلطان العلماء فی حاشیته علی معالم الأصول و تبعه جمیع من تأخر عنه إلی یومنا هذا. و علی القول الأول یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا و علی القول الثانی یکون حقیقه. و الحق ما ذهب إلیه سلطان العلماء، بل قیل إن نسبه القول الأول إلی المشهور مشکوک فیها. و لتوضیح هذا القول و تحقیقه ینبغی بیان أمور ثلاثه

ص 160

تنفع فی هذا الباب و فی غیر هذا الباب (1). و بها تکشف للطالب ما وقع للعلماء الأعلام من اختلاف فی التعبیر فی الرأی و النظر. و هذه الأمور التی ینبغی بیانها هی کما یلی:

1 - اعتبارات الماهیه:

المشهور إن للماهیه ثلاثه اعتبارات، إذا قیست إلی ما هو خارج عن ذاتها، ما إذا قیست الرقبه إلی الإیمان عند الحکم علیها بحکم ما کوجوب العتق. و هی:

1 - إن تعتبر الماهیه مشروطه بذلک الأمر الخارج. و تسمی حینئذ (الماهیه بشرط شیء) کما إذا کان یجب عتق الرقبه المؤمنه، أی بشرط کونها مؤمنه.

2 - إن تعتبر مشروطه بعدمه. و تسمی (الماهیه بشرط لا) (2)، کما إذا کان القصر واجبا فی الصلاه علی المسافر غیر العاصی فی سفره، أی بشرط عدم کونه عاصیا لله فی سفره. فاخذ عدم العصیان قیدا فی موضوع الحکم.

3 - إلا تعتبر مشروطه بوجوده و لا بعدمه. و تسمی (الماهیه ل بشرط)، کوجوب الصلاه علی الإنسان باعتبار کونه حرا مثلا، فإن الحریه غیر معتبره ل بوجودها و لا بعدمها فی وجوب الصلاه، لأن الإنسان بالنظر إلی الحریه فی وجوب الصلاه علیه غیر مشروط بالحریه و لا بعدمها فهو لا بشرط القیاس إلیها. و یسمی هذا الاعتبار الثالث (اللا بشرط القسمی) فی قبال (اللا بشرط

(هامش)

(1) و قد اضطررنا إلی الخروج عن الطریقه التی رسمناها لأنفسنا فی هذا الکتاب فی الاختصار. و نعتقد إن الطالب المبتدئ الذی ینتهی إلی هنا یکون علی استعداد کاف لفهم هذه الأبحاث. و اضطررنا لهذا البحث باعتبار ماله من حاجه ماسه فی فهم الطالب لکثیر من الأبحاث التی قد ترد علیه فیما یأتی.

(2) و قد تقال (الماهیه بشرط لا شیء) و یقصدون بذلک الماهیه المجرده علی وجه یکون کل ما یقارنها یعتبر زائدا علیه.

ص 161

المقسمی) الآتی ذکره. و إنما سمی قسمیا لأنه قسم فی مقابل القسمین الأولیین أی و البشرط لا. و هذا ظاهر لا بحث فیه. * * * ثم إن لهم اصطلاحین آخرین معروفین:

1 - قولهم: (الماهیه المهمله).

2 - قولهم: (الماهیه لا بشرط مقسمی). أفهذان اصطلاحان و تعبیران لمدلول واحد، أو هما اصطلاحان مختلفان فی المعنی؟ . و الذی یلجئنا إلی هذ الاستفسار ما وقع من الارتباک فی التعبیر عند کثیر من مشایخنا الأعلام، فقد یظهر من بعضهم أنهما اصطلاحان لمعنی واحد، کما هو ظاهر (کفایه الأصول) تبعا لبعض الفلاسفه الأجلاء. و لکن التحقیق لا یساعد علی ذلک، بل هما اصطلاحان مختلفان. و هذا جوابنا علی الاستفسار. و توضیح ذلک: إنه من المتسالم علیه الذی لا اختلاف فیه و لا اشتباه أمران: (الأول) - إن المقصود من (الماهیه المهمله): الماهیه من حیث هی، أی نفس الماهیه بم هی مع قطع النظر عن جمیع ما عداها، فیقتصر النظر علی ذاتها و ذاتیاتها. (الثانی) - إن المقصود من الماهیه (لا بشرط مقسمی): الماهیه المأخوذه لا بشرط التی تکون مقسم للاعتبارات الثلاثه المتقدمه و هی - أی الاعتبارات الثلاثه - الماهیه بشرط شیء و بشرط لا و لا بشرط قسمی. و من هنا سمی (مقسما). و إذا ظهر ذلک فلا یصح إن یدعی إن الماهیه بما هی تکون بنفسها مقسما للاعتبارات الثلاثه. و ذلک لأن الماهیه لا تخلو من حالتین. و هذا إن ینظر إلیها بما هی هی غیر مقیسه إلی ما هو خارج عن ذاتها و إن ینظر إلیها

ص 162

مقیسه إلی ما هو خارج عن ذاتها. و لا ثالث لهما و فی الحاله الأولی تسمی (الماهیه المهمله) کما هو مسلم. و فی الثانیه لا یخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثه. و علی هذا فالملاحظه الأولی مباینه لجمیع الاعتبارات الثلاثه و تکون قسیمه لها، فکیف یصح إن تکون مقسما لها و لا یصح أن یکون الشیء مقسما لاعتبارات نقیضه، لأن الماهیه من حیث هی کما اتضح معناها ملاحظتها غیر مقیسه إلی الغیر و الاعتبارات الثلاثه ملاحظته مقیسه إلی الغیر. علی إن اعتبار الماهیه غیر مقیسه اعتبار ذهنی له وجود مستقل فی الذهن، فکیف یکون مقسما لوجودات ذهنیه أخری مستقله و المقسم یجب إن یکون موجود بوجود أقسأمه و لا یعقل إن یکون له وجود فی مقابل وجودات الأقسأم و إلا کان قسیم لها لا مقسما. و علیه، فنحن نسلم إن الماهیه المهمله معناها اعتبارها (لا بشرط) و لکن لیس هو المصطلح علیه باللابشرط المقسمی فإن لهم فی (لا بشرط) - علی هذ - ثلاثه اصطلاحات:

1 - لا بشرط أی شیء خارج عن الماهیه و ذاتیاتها و هی الماهیه بما هی هی التی یقتصر فیها النظر علی ذاتها و ذاتیاتها و هی الماهیه المهمله.

2 - لا بشرط مقسمی و هو الماهیه التی تکون مقسما للاعتبارات الثلاثه أی الماهیه المقیسه إلی م هو خارج عن ذاتها. و المقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شیء من الاعتبارات الثلاثه، أی ل بشرط اعتبار البشرط شیء و اعتبار البشرط لا و اعتبار اللابشرط، لا إن المراد بلا بشرط هنا، لا بشرط مطلقا من کل قید و حیثیه. و لیس هذا اعتبار ذهنیا فی قبال هذه الاعتبارات، بل لیس له وجود فی عالم الذهن الا بوجود واحد من هذه الاعتبارات ول تعین له مستقبل غیر تعیناتها و إلا لما کان مقسما.

3 - لا بشرط قسمی و هو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهیه المقیسه إلی ما هو خارج عن ذاته.

ص 163

فأتضح إن (الماهیه المهمله) شیء و (اللابشرط المقسمی) شیء آخر. کما اتضح أیضا إن الثانی لا معنی لأن یجعل من اعتبارات الماهیه علی وجه یثبت حکم للماهیه باعتباره، أو یوضع له لفظ بحسبه.

2 - اعتبار الماهیه عند الحکم علیها:

واعلم إن الماهیه إذ حکم علیها فأما إن یحکم بذاتیاتها و أما إن یحکم علیها بأمر خارج عنها. و لا ثالث لهما. و علی (الأول) - فهو علی صورتین -

1 - إن یکون الحکم بالحمل الأولی و ذلک فی الحدود التأمه خاصه -

2 - إن یکون بالحمل الشایع و ذلک عند الحکم علیها ببعض ذاتیاتها کالجنس وحده أو الفصل وحده. و علی کلا الصورتین فإن النظر إلی الماهیه مقصور علی ذاتیاتها غیر متجاوز فیه إلی ما هو خارج عنها. و هذا لا کلأم فیه. و علی (الثانی)، فإنه لا بد من ملاحظتها مقیسه إلی ما هو خارج عنها فتخرج بذلک عن مقام ذاتها وحدها من حیث هی، أی عن تقررها الذاتی الذی لا ینظر فیه الا إلی ذاته و ذاتیاتها. و هذا واضح لأن قطع النظر عن کل ما عداها لا یجتمع مع الحکم علیها بأمر خارج عن ذاتها، لأنهما متناقضان. و علیه لو حکم علیها بأمر خارج عنها و قد لوحظت مقیسه إلی هذا الغیر، فلا بد إن تکون معتبره بأحد الاعتبارات الثلاثه المتقدمه، إذ یستحیل إن یخلو الواقع من أحدها - کما تقدم . و لا معنی لاعتبارها باللابشرط المقسمی، لما تقدم إنه لیس هو تعینا مستقلا فی قبال تلک التعینات، بل هو مقسم له. ثم إن هذا الغیر - أی الأمر الخارج عن ذاتها - الذی لوحظت الماهیه مقیسه إلیه ل یخلو أما إن یکون نفس المحمول أو شیئا آخر، فإن کان هو المحمول فیتعین إن تؤخذ الماهیه بالقیاس إلیه لا بشرط قسمی، لعدم صحه الاعتبارین الآخرین: أما أخذها بشرط شیء، أی بشرط المحمول، فلا یصح ذلک دائما لأنه

ص 164

یلزم إن تکون القضیه ضروریه دائما لاستحاله انفکاک المحمول عن الموضوع بشرط المحمول. علی إن اخذ المحمول فی الموضوع یلزم منه حمل الشیء علی نفسه و تقدمه علی نفسه و هو مستحیل الا إذا کان هناک تغایر بحسب الاعتبار کحمل الحیوان الناطق علی الإنسان فإنهما متغایران باعتبار الإجمال و التفصیل. و أما أخذها بشرط لا، أی بشرط عدم المحمول، فلا یصح لأنه یلزم التناقض، فإن الإنسان بشرط عدم الکتابه یستحیل حمل الکتابه علیه. و إن کان هذا الغیر الخارج هو غیر المحمول، فیجوز إن تکون الماهیه حینئذ مأخوذه بالقیاس إلیه بشرط شیء کجواز تقلید المجتهد بشرط العداله، أو بشرط لا، کوجوب صلاه الظهر یوم الجمعه بشرط عدم وجود الأمأم، أو لا بشرط، کجواز السلأم علی المؤمن مطلقا بالقیاس إلی العداله مثلا، أی لا بشرط وجودها و لا بشرط عدمها. کم یجوز إن تکون مهمله غیر مقیسه إلی شیء غیر محمولها. * * * و لکن قد یستشکل فی کل ذلک بأن هذه الاعتبارات الثلاثه اعتبارات ذهنیه، لا موطن لها الا الذهن، فلو تقیدت الماهیه بأحدها عندما تؤخذ موضوعا للحکم، للزم إن تکون جمیع القضایا ذهنیه عدا حمل الذاتیات التی قد اعتبرت فیها الماهیه من حیث هی و لبطلت القضایا الخارجیه و الحقیقیه، مع إنها عمده القضایا، بل لاستحال فی التکالیف الامتثال، لأن ما هو موطنه الذهن یمتنع إیجاده فی الخارج. و هذا الإشکال و جیه لو کان الحکم علی الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه علی وجه یکون الاعتبار قیدا فی الموضوع أو نفسه هو الموضوع. و لکن لیس الأمر کذلک، فإن الموضوع فی کل تلک القضایا هو ذات الماهیه المعتبره و لکن لا بقید الاعتبار، بمعنی إن الموضوع فی بشرط شیء الماهیه المقتریه بذلک الشیء، لا المقترنه بلحاظه و اعتباره و فی بشرط لا الماهیه المقترنه بعدمه لا بلحاظ عدمه و فی لا بشرط الماهیه غیر الملاحظ معها الشیء

ص 165

ولا عدمه، لا الملاحظه بعدم لحاظ الشیء و عدمه و إلا لکانت الماهیه معتبره فی الجمیع بشرط شیء فقط أی بشرط اللحاظ و الاعتبار. نعم هذه الاعتبارات هی المصححه لموضوعیه الموضوع علی الوجه اللازم الذی یقتضیه واقع الحکم، لا إنها مأخوذه قیدا فیه حتی تکون جمیع القضایا ذهنیه. و لو الأمر کذلک لکان الحکم بالذاتیات أیضا قضیه ذهنیه لأن اعتبار الماهیه من حیث هی أیضا اعتبار ذهنی. و مما یقرب ما قلناه من کون الاعتبار مصطلحا لموضوعیه الموضوع لا مأخوذا فیه مع إنه لا بد منه عند الحکم بشیء، إن کل موضوع و محمول لا بد من تصوره فی مقام الحمل و إلا لاستحال الحمل و لکن هذه اللا بدیه لا تجعل التصور قیدا للموضوع أو المحمول و إنما التصور هو المصحح للحمل و بدونه ل یمکن الحمل. و کذلک عند استعمال اللفظ فی معناه، لا بد من تصور اللفظ و المعنی و لکن التصور لیس قیدا للفظ و لا للمعنی، فلیس اللفظ دالا بما هو متصور فی الذهن و إن کانت دلالته فی ظرف التصور و لا المعنی مدلولا بما هو متصور و إن کانت مدلولیته فی ظرف تصوره. و یستحیل إن یکون التصور قیدا للفظ أو المعنی و مع ذلک لا یصح الاستعمال بدونه، فالتصور مقوم للاستعمال لا للمستعمل فیه و لا للفظ. و کذلک هو مقوم للحمل و مصحح له، لا للمحمول و لا للمحمول علیه. و علی هذا یتضح ما نحن بصدد بیانه و هو إنه إذا أردنا إن نضع اللفظ للمعنی لا یعقل إن نفسر اللحاظ علی ذات المعنی بما هو هو مع قطع النظر عن کل ما عداه، لأن الوضع من المحمولات الوارده علیه، فلا بد إن یلاحظ المعنی حینئذ مقیسا إلی ما هو خارج عن ذاته، فقد یؤخذ بشرط شیء و قد یؤخذ بشرط ل و قد یؤخذ لا بشرط. و لا یلزم إن یکون الموضوع له هو المعنی بماله من الاعتبار الذهنی، بل الموضوع له نفس المعتبر و ذاته لا بما هو معتبر و الاعتبار مصحح للوضع.

ص 166

3 - الأقوال فی المسأله:

قلنا فیما سبق: إن المعروف عن قدماء الأصحاب إنهم یقولون بأن أسماء الأجناس موضوعه للمعانی المطلقه، علی وجه یکون الإطلاق قیدا للموضوع له، فلذلک ذهبوا إلی إن استعماله فی المقید مجاز و قد صور هذا القول علی نحوین: (الأول) - إن الموضوع له المعنی بشرط الإطلاق علی وجه یکون اعتباره من باب اعتباره بشرط شیء. (الثانی) - إن الموضوع له المعنی المطلق أی المعتبر لا بشرط. و قد أورد علی هذ القول بتصوریه - کما تقدم - بأنه یلزم علی کلا التصورین إن یکون الموضوع له موجود ذهنیا، فتکون جمیع القضایا ذهنیه، فلو جعل اللفظ بماله من معناه موضوعا فی القضیه الخارجیه أو الحقیقیه وجب تجریده عن هذا القید الذهنی، فیکون مجازا دائما فی القضایا المتعارفه. و هذا یکذبه الواقع. و لکن نحن قلنا: إن هذا الإیراد إنما یتوجه إذا جعل الاعتبار قیدا فی الموضوع له. أما لو جعل الاعتبار مصححا للوضع فلا یلزم هذا الإیراد کما سبق. هذا قول القدماء و أما المتأخرون ابتدءا من سلطان العلماء (رحمه الله) فإنهم جمیعا اتفقوا علی إن الموضوع له ذات المعنی لا المعنی المطلق حتی لا یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا. و هذا القول بهذا المقدار من البیان واضح. و لکن العلماء من أساتذتنا اختلفوا فی تأدیه هذا المعنی بالعبارات الفنیه مما أوجب الارتباک علی الباحث وإغلاق طریق البحث فی المسأله. لذلک التجأنا إلی تقدیم المقدمتین السابقتین لتوضیح هذه الاصطلاحات و التعبیرات الفنیه التی وقعت فی عباراتهم. و اختلفوا فیها علی أقوال.

1 - منهم من قال:

إن الموضوع له هو الماهیه المهمله المبهمه أی الماهیه من حیث هی.

ص 167

2 - و منهم من قال:

إن الموضوع له الماهیه المعتبره باللابشرط المقسمی

3 - و منهم من جعل التعبیر الأول نفس التعبیر الثانی.

4 - و منهم من قال:

إن الموضوع له ذات المعنی لا الماهیه المهمله و لا الماهیه المعتبره باللابشرط المقسمی، ولکنه ملاحظ حین الوضع باعتبار (اللابشرط القسمی) علی إن یکون هذا الاعتبار مصححا للموضوع لا قیدا للموضوع له. و علیه یکون هذا القول نفس قول القدماء علی التصویر الثانی الا إنه لا یلزم منه إن یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا. و لکن المنسوب إلی القدماء إنهم یقولون: بأنه مجاز فی المقید فینحصر قولهم فی التصویر الأول علی تقدیر صحه النسبه إلیهم. و یتضح حال هذه التعبیرات أو الأقوال من المقدمتین السابقتین فإنه یعرف منهم: (أولا) إن الماهیه بما هی هی غیر الماهیه باعتبار اللابشرط المقسمی، لأن النظر فیه علی الأول مقصور علی ذاتها و ذاتیاتها، بخلافه علی الثانی إذ تلاحظ مقیسه إلی الغیر. و بهذا یظهر بطلان القول الثالث. (ثانیا) إن الوضع حکم من الأحکام و هو محمول علی الماهیه خارج عن ذاتها و ذاتیاتها، فلا یعقل إن یلاحظ الموضوع له بنحو الماهیه بم هی هی، لأنه لا تجتمع ملاحظتها مقیسه إلی الغیر و ملاحظتها مقصوره علی ذاته و ذاتیاتها. و بهذا یظهر بطلان القول الأول. (ثالثا) إن اللابشرط المقسمی لیس اعتبار مستقلا فی قبال الاعتبارات الثلاثه، لأن المفروض إنه مقسم لها و لا تحقق للمقسم ال بتحقق أحد أنواعه کما تقدم، فکیف یتصور إن یحکم باعتبار اللابشرط المقسمی بل ل معنی لهذا علی ما تقدم توضیحه. و بهذا یظهر بطلان القول الثانی. فتعین القول الرابع و هو إن الموضوع له ذات المعنی ولکنه حین الوضع یلاحظ المعنی بنحو اللابشرط القسمی. و هو یطابق القول المنسوب إلی القدماء علی التصویر الثانی کما اشرنا إلیه، فل اختلاف و یقع التصالح بین القدماء

ص 168

والمتأخرین إذا لم یثبت عن القدماء إنهم یقولون إنه مجاز فی المقید و هو مشکوک فیه. بیان هذا القول الرابع: إن ذات المعنی لما أراد الواضع إن یحکم علیه بوضع لفظ له، فمعناه إنه قد لاحظه مقیسا إلی الغیر، فهو فی هذا الحال لا یخرج عن کونه معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه للماهیه. و إذ یراد تسریه الوضع لذات المعنی بجمیع أطواره و حالاته و قیوده لا بد إن یعتبر علی نحو اللابشرط القسمی. و لا منافاه بین کون الموضوع له ذات المعنی و بین کون ذات المعنی ملحوظا فی مرحله الوضع بنحو اللابشرط القسمی لأن هذا اللحاظ و الاعتبار الذهنی - کما تقدم - صرف طریق إلی الحکم علی ذات المعنی و هو المصحح للموضوع له. و حین الاستعمال فی ذات المعنی لا یجب إن یکون المعنی ملحوظا بنحو اللابشرط القسمی، بل یجوز إن یعتبر بأی اعتبار کان ما دام الموضوع له ذات المعنی فیجوز فی مرحله الاستعمال إن یقصر النظر علی نفسه و یلحظه بما هو هو و یجوز إن یلحظه مقیسا إلی الغیر فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه. و ملاحظه ذات المعنی بنحو اللابشرط القسمی حین الوضع تصحیحا له لا توجب إن تکون قیدا للموضوع له. و علیه فلا یکون الموضوع له موجودا ذهنیا، إذا کان له اعتبار اللابشرط القسمی حین الوضع، لأنه لیس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر، بل ذات المعتبر، کما إن استعماله فی المقید لا یکون مجازا لما تقدم إنه یجوز إن یلحظ ذات المعنی حین الاستعمال مقیسا إلی الغیر، فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثه التی منها اعتباره بشرط شیء و هو المقید.

المسأله الخأمسه - مقدمات الحکمه

المسأله الخأمسه - مقدمات الحکمه

لما ثبت إن الألفاظ موضوعه لذات المعانی، لا للمعانی بما هی مطلقه، فلا بد فی إثبات إن المقصود من اللفظ المطلق لتسریه الحکم إلی تمأم الأفراد و المصادیق من قرینه خاصه، أو قرینه عامه تجعل الکلام فی نفسه ظاهرا فی أراد الإطلاق.

ص 169

وهذه القرینه العامه إنما تحصل إذا توفرت جمله مقدمات تسمی (مقدمات الحکمه). و المعروف إنها ثلاث. (الأولی) - أمکان الإطلاق و التقیید بأن یکون متعلق الحکم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحکم به قابلا للانقسأم، فلو لم یکن قابلا للقسمه الا بعد فرض تعلق الحکم به کما فی باب قصد القربه، فإنه یستحیل فیه التقیید، فیستحیل فیه الإطلاق، کما تقدم فی بحث التعبدی و التوصلی. . و هذا واضح. (الثانیه) - عدم نصب قرینه علی التقیید لا متصله و لا منفصله، لأنه مع القرینه المتصله لا ینعقد ظهور للکلأم الا فی المقید و مع المنفصله ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق، ولکنه یسقط عن الحجیه لقیأم القرینه المقدمه علیه و الحاکمه، فیکون ظهوره ظهورا بدویا، کما قلنا فی تخصیص العموم بالخاص المنفصل و لا تکون للمطلق الدلاله التصدیقیه الکاشفه عن مراد المتکلم، بل الدلاله التصدیقیه إنما هی علی إراده التقیید واقعا. (الثالثه) - إن یکون المتکلم فی مقام البیان، فإنه لو لم یکن فی هذا المقام بأن کان فی مقام التشریع فقط أو کان فی مقام الأهمال أما رأسا أو لأنه فی صدد بیان حکم آخر، فیکون فی مقام الأهمال من جهه مورد الإطلاق - و سیأتی مثاله - فإنه فی کل ذلک لا ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق: أما فی مقام التشریع بأن کان فی مقام بیان الحکم لا للعمل به فعلا بل لمجرد تشریعه، فیجوز ألا یبین تمأم مراده، مع إن الحکم فی الواقع مقید بقید لم یذکره فی بیانه انتظارا لمجیء وقت العمل فلا یحرز إن المتکلم فی صدد بیان جمیع مراده. و کذلک إذا کان المتکلم فی مقام الأهمال رأسا، فإنه لا ینعقد معه ظهور فی الإطلاق، کما لا ینعقد للکلأم ظهور فی أی مرأم. و مثله ما إذا کان فی صدد حکم آخر مثل قوله تعالی: (فکلوا مما أمسکن) الوارد فی مقام بیان حل صید الکلاب المعلمه من جهه کونه میته و لیس هو فی مقام بیان مواضع الأمساک إنها تتنجس فیجب تطهیرها أم لا، فلم یکن هو فی مقام بیان هذه الجهه، فلا ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق من هذه الجهه.

ص 170

ولو شک فی إن المتکلم فی مقام البیان أو الأهمال، فإن الأصل العقلائی یقتضی بأن یکون فی مقام البیان، فإن العقلاء کما یحملون المتکلم علی إنه ملتفت غیر غافل و جاد غیر هازل عند الشک فی ذلک، کذلک یحملونه علی إنه فی مقام البیان و التفهیم، لا فی مقام الأهمال و الإیهأم. * * * و إذا تمت هذه المقدمات الثلاث فإن الکلام المجرد عن القید یکون ظاهرا فی الإطلاق و کاشفا عن إن المتکلم لا یرید المقید و إلا لو کان قد أراده واقعا، لکان علیه البیان و المفروض إنه حکیم ملتفت جاد غیر هازل و هو فی مقام البیان و لا مانع من التقیید حسب الفرض. و إذا لم یبین و لم یقید کلأمه فیعلم إنه أراد الإطلاق و إلا لکان مخلا بغرضه. فأتضح من ذلک إن کل کلأم صالح للتقیید و لم یقیده المتکلم مع کونه حکیما ملتفتا جادا و فی مقام البیان و التفهیم، فإنه یکون ظاهرا فی الإطلاق و یکون حجه علی المتکلم و السأمع.

تنبیهان:

التنبیه الاول: القدر المتیقن فی مقام التخاطب

إن الشیخ المحقق صاحب الکفایه (قدس سره) أضاف إلی مقدمات الحکمه مقدمه أخری غیر ما تقدم و هی ألا یکون هناک قدر متیقن فی مقام التخاطب و المحاوره و إن کان لا یضر وجود القدر المتیقن خارجا فی التمسک بالإطلاق. و مرجع ذلک إلی إن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاوره یکون بمنزله القرینه اللفظیه علی التقیید، فل ینعقد للفظ ظهور فی الإطلاق مع فرض وجوده. و لتوضیح البحث نقول: إن کون المتکلم فی مقام البیان یتصور علی نحوین:

1 - إن یکون المتکلم فی صدد بیان تمأم موضوع حکمه، بأن یکون غرض المتکلم

ص 171

یوقف علی إن یبین للمخاطب و یفهمه ما هو تمأم الموضوع و إن ما ذکره هو تمأم موضوعه ل غیره.

2 - إن یکون المتکلم فی صدد بیان تمأم موضوع الحکم واقعا و لو لم یفهم المخاطب إنه تمأم الموضوع، فلیس له غرض الا بیان ذات موضوع الحکم بتمأمه حتی یحصل من المکلف الامتثال و إن لم یفهم المکلف تفصیل الموضوع بحدوده. فإن کان المتکلم فی مقام البیان علی (النحو الأول)، فلا شک فی إن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاوره لا یضر فی ظهور المطلق فی إطلاقه فیجوز التمسک بالإطلاق، لأنه لو کان القدر المتیقن المفروض هو تمأم الموضوع لوجب بیانه و ترک البیان اتکالا علی وجود القدر المتیقن إخلال بالغرض لأنه لا یکون مجرد ذلک بیانا لکونه تمأم الموضوع. و إن کان المتکلم فی مقام البیان علی (النحو الثانی)، فإنه یجوز إن یکتفی بوجود القدر المتیقن فی مقام التخاطب لبیان تمأم موضوعه واقعا، مادام إنه لیس له غرض الا إن یفهم المخاطب ذات الموضوع بتمأمه لا بوصف التمأم أی إن یفهم ما هو تمأم الموضوع بالحمل الشائع. و بذلک یحصل التبلیغ للمکلف و یمتثل فی الموضوع الواقعی، لأنه هو المفهوم عنده فی مقام المحاوره و لا یجب فی مقام الامتثال إن یفهم إن الذی فعله هو تمأم الموضوع أو الموضوع اعم منه و من غیره. (مثلا): لو قال المولی (اشتر اللحم) و کان القدر المتیقن فی مقام المحاوره هو لحم الغنم و کان هو تمأم موضوعه واقعا، فإن وجود هذا القدر المتیقن کاف لانبعاث المکلف و شرائه للحم الغنم، فیحصل موضوع حکم المولی، فلو إن المولی لیس له غرض أکثر من تحقیق موضوع حکمه، فیجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن لتحقیق غرضه و لبیانه و لا یحتاج إلی إن یبین إنه تمأم الموضوع أما لو کان غرضه أکثر من ذلک بأن کان غرضه إن یفهم المکلف تحدید الموضوع بتمأمه، فلا یجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن و إلا لکان مخلا بغرضه، فإذا لم یبین و أطلق الکلام، استکشف إن تمأم موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتیقن و غیره.

ص 172

إذا عرفت هذا التقدیر فینبغی إن نبحث عما ینبغی للأمر إن یکون بصدد بیانه، هل إنه علی النحو الأول أو الثانی؟ و الذی یظهر من الشیخ صاحب الکفایه إنه لا ینبغی من الأمر أکثر من النحو الثانی، نظرا إلی إنه إذا کان بصدد بیان موضوع حکمه حقیقه کفاه ذلک لتحصیل مطلوبه و هو الامتثال. و لا یجب علیه مع ذلک بیان إنه تمأم الموضوع. نعم إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاوره و کان تمأم الموضوع هو المطلق فقد یظن المکلف إن القدر المتیقن هو تمأم الموضوع و إن المولی أطلق کلأمه اعتمادا علی وجوده - فإن المولی دفعا لهذا الوهم یجب علیه إن یبین إن المطلق هو تمأم موضوعه و إلا کان مخلا بغرضه. و من هذا ینتج إنه إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاوره و أطلق المولی و لم یبین إنه تمأم الموضوع، فإنه یعرف منه إن موضوعه هو القدر المتیقن. هذ خلاصه ما ذهب إلیه فی الکفایه مع تحقیقه و توضیحه. و لکن شیخنا النائینی رحمه الله علی ما یظهر من التقریرات لم یرتضه و الأقرب إلی الصحه ما فی الکفایه. و لا نطیل بذکر هذه المناقشه و الجواب عنها.

التنبیه الثانی: الانصراف:

اشتهر إن انصراف الذهن من اللفظ إلی بعض مصادیق معناه أو بعض أصنافه یمنع من التمسک بالإطلاق و إن تمت مقدمات الحکمه، مثل انصراف المسح فی آیتی التیمم و الوضوء إلی المسح بالید و بباطنها خاصه. و الحق إن یقال:

إن انصراف الذهن إن کان ناشئا من ظهور اللفظ فی المقید بمعنی إن نفس اللفظ ینصرف منه المقید لکثره استعماله فیه و شیوع أرادته منه - فلا شک فی إنه حینئذ لا مجال للتمسک بالإطلاق، لأن هذا الظهور یجعل اللفظ بمنزله المقید بالتقیید اللفظی و معه لا ینعقد للکلأم ظهور فی الإطلاق حتی یتمسک بأصاله الإطلاق التی هی مرجعها فی الحقیقه إلی أصاله الظهور.

ص 173

وأما إذا کان الانصراف غیر ناشئ من اللفظ، بل کان من سبب خارجی، کغلبه وجود الفرد المنصرف إلیه أو تعارف الممارسه الخارجیه له، فیکون ما لوفا قریبا إلی الذهن من دون إن یکون للفظ تأثیر فی هذا الانصراف، کانصراف الذهن من لفظ الماء فی العراق - مثل - إلی ماء دجله أو الفرات فالحق إنه لا أثر لهذا الانصراف فی ظهور اللفظ فی إطلاقه فلا یمنع من التمسک بأصاله الإطلاق، لأن هذا الانصراف قد یجتمع مع القطع بعدم إراده المقید بخصوصه من اللفظ. و لذا یسمی هذا الانصراف باسم (الانصراف البدوی) لزواله عند التأمل و مراجعه الذهن. و هذا کله واضح لا ریب فیه. و إنما الشأن فی تشخیص الانصراف إنه من أی النحوین، فقد یصعب التمییز أحیانا بینهما للاختلاط علی الإنسان فی منش هذا الانصراف. و ما أسهل دعوی الانصراف علی لسان غیر المتثبت و قد لا یسهل إقأمه الدلیل علی إنه من أی نوع. فعلی الفقیه إن یتثبت فی مواضع دعوی الانصراف و هو یحتاج إلی ذوق عال و سلیقه مستقیمه. و قلما تخلو أیه کریمه أو حدیث شریف فی مسأله فقهیه عن انصرافات تدعی. و هنا تظهر قیمه التضلع باللغه و فقهها و آدابها. و هو باب یکثر الابتلاء به و له الأثر الکبیر فی استنباط الأحکام من أدلتها. ألا تری إن المسح فی الآیتین ینصرف إلی المسح بالید و کون هذا الانصراف مستندا إلی اللفظ لا شک فیه و ینصرف أیضا إلی المسح بخصوص باطن الید. و لکن قد یشک فی کون هذا الانصراف مستند إلی اللفظ، فإنه غیر بعید إنه ناشئ من تعارف المسح بباطن الید لسهولته و لأنه مقتضی طبع الإنسان فی مسحه و لیس له علاقه باللفظ. و لذا إن جمله من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر الید عند تعذر المسح بباطنها تمسکا بإطلاق الآیه و لا معنی للتمسک بالإطلاق لو کان للفظ ظهور فی المقید. و أما عدم تجویزهم للمسح بظاهر الید عند الاختیار فلعله للاحتیاط، إذ إن المسح بالباطن هو القدر المتیقن و المفروض حصول الشک فی کون هذا الانصراف بدویا فلا یطمأن کل الاطمئنان بالتمسک بالإطلاق عند الاختیار و طریق النجاه هو الاحتیاط بالمسح بالباطن.

ص 174

المسأله السادسه - المطلق و المقید المتنافیان

المسأله السادسه - المطلق و المقید المتنافیان

معنی التنافی بین المطلق و المقید: إن التکلیف فی المطلق لا یجتمع و التکلیف فی المقید مع فرض الحافظه علی ظهورهما معا، أی أنهما یتکاذبان فی ظهورهما. مثل قول الطبیب مثلا: اشرب لبنا، ثم یقول:

اشرب لبن حلوا و ظاهر الثانی تعیین شرب الحلو منه. و ظاهر الأول جواز شرب غیر الحلو حسب إطلاقه. و إنما یتحقق التنافی بین المطلق و المقید إذا کان التکلیف فیهما واحد کالمثال المتقدم، فلا یتنافیان لو کان التکلیف فی أحدهما معلقا علی شیء و فی الآخر معلقا علی شیء آخر، کما إذا قال الطبیب فی المثال: إذا أکلت فاشرب لبنا و عند الاستیقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا. و کذلک لا یتنافیان لو کان التکلیف فی المطلق إلزأمیا و فی المقید علی نحو الاستحباب ففی المثال لو وجب أصل شرب اللبن، فإنه ل ینافیه رجحان الحلو منه باعتباره احد أفراد الواجب. و کذا لا یتنافیان لو فهم من التکلیف فی المقید إنه تکلیف فی وجود ثان غیر المطلوب من التکلیف الأول، کما إذ فهم فی المقید فی المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانیا بعد شرب لبن ما. إذا فهمت م سقناه لک من معنی التنافی، فنقول: لو ورد فی لسان الشارع مطلق و مقید متنافیان سواء تقدم أو تأخر و سواء کان مجیء المتأخر بعد وقت العمل بالمتقدم أو قبله، فإنه لا بد من الجمع بینهما أما بالتصرف فی ظهور المطلق فیحمل علی المقید، أو بالتصرف فی المقید علی وجه لا ینافی الإطلاق، فیبقی ظهور المطلق علی حاله. و ینبغی البحث هنا فی إنه أی التصرفین أولی بالأخذ، فنقول: هذا یختلف باختلاف الصور فیهما، فإن المطلق و المقید أما إن یکونا مختلفین فی الإثبات أو النفی و أما إن یکونا متفقین. (الأول) - إن یکونا مختلفین، فلا شک حینئذ فی حمل المطلق علی المقید، لأن المقید یکون قرینه علی المطلق، فإذا قال:

اشرب اللبن، ثم قال:

لتشرب اللبن الحأمض، فإنه یفهم منه إن المطلوب هو شرب اللبن الحلو. و هذا لا یفرق فیه بین إن یکون إطلاق المطلق بدلیا، نحو قوله:

اعتق رقبه و بین إن یکون شمولیا مثل قوله:

فی الغنم زکاه، المقید بقوله:

لیس فی الغنم المعلوفه زکاه. (الثانی) - إن یکونا متفقین و له مقامان: المقام الأول إن یکون الإطلاق بدلیا و المقام الثانی إن یکون شمولیا. فإن کان الإطلاق (بدلیا) فإن الأمر فیه یدور بین التصرف فی ظاهر المطلق بحمله علی المقید و بین التصرف فی ظاهر المقید و المعروف إن التصرف الأول هو الأولی، لأنه لو کانا مثبتین مثل قوله:

اعتق رقبه مؤمنه فإن المقید ظاهر فی إن الأمر فیه للوجوب التعیینی، فالتصرف فیه أما بحمله علی الاستحباب، أی إن الأمر بعتق الرقبه المؤمنه بخصوصها باعتبار إنها أفضل الأفراد، أو بحمله علی الوجوب التخییری أی إن الأمر یعتق الرقبه المؤمنه باعتبار إنها أحد أفراد الواجب، لا لخصوصیه فیها حتی خصوصیه الأفضلیه. و هذان التصرفان و إن کانا ممکنین، لکن ظهور المقید فی الوجوب التعیینی مقدم علی ظهور المطلق فی إطلاقه، لأن المقید صالح لأن یکون قرینه للمطلق و لعل المتکلم اعتمد علیه فی بیان مرأمه و لو فی وقت آخر لا سیما مع احتمال إن المطلق الوارد کان محفوفا بقرینه متصله غابت عنا، فیکون المقید کاشفا عنها. و إن کان الإطلاق (شمولیا) مثل قوله:

فی الغنم زکاه و قوله:

فی الغنم السائمه زکاه، فلا تتحقق المنافاه بینهما حتی یجب التصرف فی أحدهما لأن وجوب الزکاه فی الغنم السائمه بمقتضی الجمله الثانیه لا ینافی وجوب الزکاه فی غیر السائمه، الا علی القول بدلاله التوصیف علی المفهوم و قد عرفت إنه لا مفهوم للوصف. و علیه فلا منافاه بین الجملتین لنرفع بها عن إطلاق المطلق.

الباب السابع: المجمل و المبین و فیه مسائل

الباب السابع: المجمل و المبین و فیه مسائل:

1 - معنی المجمل و المبین

عرفوا المجمل اصطلاحا: (بأنه ما لم تتضح دلالته) و یقابله المبین. و قد ناقشوا هذا التعریف بوجوده لا طائل فی ذکرها و المقصود من المجمل - علی کل حال - ما جهل فیه مراد المتکلم و مقصوده إذا کان لفظا و ما جهل فیه مراد الفاعل و مقصوده إذا کان فعلا و مرجع ذلک إلی إن المجمل هو اللفظ أو الفعل الذی لا ظاهر له. و علیه یکون المبین ما کان له ظاهر یدل علی مقصود قائله أو فاعله علی وجه الظن أو الیقین، فالمبین یشمل الظاهر و النص معا. و من هذا البیان نعرف إن المجمل یشمل اللفظ و الفعل اصطلاحا و إن قیل إن المجمل مختص بالألفاظ و من باب التسأمح یطلق علی الفعل. و معنی کون الفعل مجملا إن یجهل وجه وقوعه، کما لو توضأ الأمأم علیه السلأم - مثلا - بحضور واحد منه أو یحتمل إنه یتقیه، فیحتمل إن وضوءه وقع علی وجه التقیه، فلا یستکشف مشروعیه الوضوء علی الکیفیه التی وقع علیها و یحتمل إنه وقع علی وجه الامتثال للأمر الواقعی فیستکشف منه مشروعیته. و مثل ما إذا فعل الأمأم شیئا فی الصلاه کجلسه الاستراحه - مثلا - فلا یدری إن فعله کان علی وجه الوجوب أو الاستحباب، فمن هذه الناحیه یکون مجملا و إن کان من ناحیه دلالته علی جواز الفعل فی مقابل الحرمه یکون مبینا. و أما اللفظ فأجماله یکون لأسباب کثیره قد یتعذر إحصاؤها (1): فإذا کان

(هامش)

(1) راجع بحث المغالطات اللفظیه من الجزء الثالث من کتاب المنطق للمؤلف 143 تجد ما یعینک علی إحصاء أسباب إجمال اللفظ. (*)

ص 180

مفردا فقد یکون أجماله لکونه لفظا مشترکا و لا قرینه علی أحد معانیه کلفظ (عین) و کلمه (تضرب) المشترکه بین المخاطب و الغائبه و (المختار) المشترک بین اسم الفاعل و اسم المفعول. و قد یکون أجماله لکونه مجازا، أو لعدم معرفه عود الضمیر فیه الذی هو من نوع (مغالطه المماراه)، مثل قول القائل لما سئل عن فضل أصحاب النبی صلی الله علیه و آله، فقال:

(من بنته فی بیته) و کقول عقیل:: (أمرنی معاویه إن أسب علیا. ألا فالعنوه!). و قد یکون الإجمال لاختلال الترکیب کقوله:

و ما مثله فی الناس الا مملکا * أبو أمه حی أبوه یقاربه و قد یکون الإجمال لوجود ما یصلح للقرینه، کقوله:

تعالی: (محمد رسول الله و الذین معه أشداء علی الکفار. . ) الآیه، فإن هذا الوصف فی الآیه یدل علی عداله جمیع من کان مع النبی من أصحابه، الا إن ذیل الآیه (وعد الله الذین أمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفره و أجرا عظیما) صالح لأن یکون قرینه علی إن المراد بجمله (والذین معه) بعضهم لا جمیعهم فتصبح الآیه مجمله من هذه الجهه. و قد یکون الإجمال لکون المتکلم فی مقام الأهمال و الإجمال. إلی غیر ذلک من موارد الإجمال مما لا فائده کبیره فی إحصائه و تعداده هنا. ثم اللفظ قد یکون مجملا عند شخص، مبینا عند شخص آخر. ثم (المبین) قد یکون فی نفسه مبینا و قد یکون مبینا بکلأم آخر یوضح المقصود منه.

2 - المواضع التی وقع الشک فی أجمالها

لکل من المجمل و المبین أمثله من الآیات و الروایات و الکلام العربی لا حصر لها و لا تخفی علی العارف بالکلام. الا إن بعض المواضع قد وقع الشک فی کونها مجمله أو مبینه و المتعارف عند الأصولیین إن یذکروا بعض الأمثله من ذلک لشحذ الذهن و التمرین و نحن نذکر بعضها أتباعا لهم و لا

ص 181

تخلو من فائده للطلاب المبتدئین. (فمنها) قوله تعالی: (والسارق و السارقه فاقطعوا أیدیهما). فقد ذهب جماعه إلی إن هذه الآیه من المجمل المتشابه، أما من جهه لفظ (القطع) باعتبار إنه یطلق علی الإبانه و یطلق علی الجرح کما یقال لمن جرح یده بالسکین قطعها، کما یقال لمن أبانها کذلک. و أما من جهه لفظ (الید) باعتبار إن (الید) تطلق علی العضو المعروف کله و علی المکلف إلی أصول الأصابع و علی العضو إلی الزند و الی المرفق، فیقال مثلا: تناولت بیدی و إنما تناول بالکف بل بالأنأمل فقط. و الحق إنها من ناحیه لفظ (القطع) لیست مجمله، لأن المتبادر من لفظ القطع هو الإبانه و الفصل و إذا أطلق علی الجرح فباعتبار إنه أبان قسما من الید، فتکون المسأمحه فی لفظ الید عند وجود القرینه، لا إن القطع استعمل فی مفهوم الجرح. فیکون المراد فی المثال من الید بعضها، کما تقول تناولت بیدی و فی الحقیقه إنما تناولت ببعضها. و أما من ناحیه (الید)، فإن الظاهر إن اللفظ لو خلی و نفسه یستفاد منه إراده تمأم العضو المخصوص، ولکنه غیر مراد یقینا فی الآیه، فیتردد بین المراتب العدیده من الأصابع إلی المرفق، لأنه بعد فرض عدم إراده تمأم العضو لم تکن ظاهره فی واحده من هذه المراتب. فتکون الآیه مجمله فی نفسها من هذه الناحیه و إن کانت مبینه بالأحادیث عن آل البیت علیهم السلأم الکاشفه عن إراده القطع من أصول الأصابع. * * * و منها قوله صلی الله علیه و آله: (لَا صَلَاهَ إِلَّا بِفَاتِحَهِ الْکِتَاب و أمثاله من المرکبات التی تشتمل علی کلمه (لا) التی لنفی الجنس نحو (لَا صَلَاهَ إِلَّا بِطَهُور) و (لا بیع الا فی ملک) و (لَا صَلَاهَ لِمن جَاره الْمَسْجِد إِلَّا فِی الْمَسْجِدِ ) و (لَا غِیبَهَ لِفَاسِق و (لَا جَمَاعَهَ فِی نَافِلَهٍ ) و نحو ذلک. فإن النفی فی مثل هذه المرکبات موجه ظاهرا لنفس الماهیه و الحقیقه و قالوا: إن إراده نفی الماهیه متعذر فیها، فلا بد إن یقدر - بطریق المجاز - وصف للماهیه هو المنفی حقیقه، نحو: الصحه و الکمال و الفضیله،

ص 182

و الفائده و نحو ذلک. و لما کان المجاز مرددا بین عده معان کان الکلام مجملا و لا قرینه فی نفس اللفظ تعین واحدا منها، فإن نفی الصحه لیس بأولی من نفی الکمال أو الفضیله و لا نفی الکمال بأولی نفی الفائده. . و هکذا. و أجاب بعضهم: بأن هذا إنما یتم إذا کانت ألفاظ العبادات و المعاملات موضوعه للأعم فلا یمکن فیها نفی الحقیقه. و أما إذا قلنا بالوضع للصحیح فلا یتعذر نفی الحقیقه، بل هو المتعین علی الأکثر، فلا اجمال. و أما فی غیر الألفاظ الشرعیه مثل قولهم (لا علم الا بعمل) فمع عدم القرینه یکون اللفظ مجملا إذ یتعذر نفی الحقیقه. أقوال: و الصحیح فی توجیه البحث إن یقال:

إن (لا) فی هذه المرکبات لنفی الجنس، فهی تحتاج إلی اسم و خبر علی حسب ما تقتضیه القواعد النحویه. و لکن الخبر محذوف حتی فی مثل (لَا غِیبَهَ لِفَاسِق) فإن (لِفَاسِق) ظرف مستقر متعلق بالخبر المحذوف. و هذا الخبر المحذوف لا بد له من قرینه، سواء کان کلمه موجود أو صحیح أو مفید أو کأمل أو نافع أو نحوها. و لیس هو مجازا فی واحد من هذه الأمور التی یصح تقدیرها. و القصد إنه سواء کان المراد نفی الحقیقه أو نفی الصحه و نحوها فإنه لا بد من تقدیر خبر محذوف بقرینه. و إنما یکون مجملا إذا تجرد عن القرینه. و لکن الظاهر إن القرینه حاصله علی الأکثر و هی القرینه العامه فی مثله، فإن الظاهر من نفی الجنس إن المحذوف فیه هو لفظ موجود و ما بمعناه من نحو لفظ ثابت و متحقق. فإذا تعذر تقدیر هذا اللفظ العام لأی سبب کان، فإن هناک قرینه موجوده غالبا و هی مناسبه الحکم و الموضوع، فإنها تقتضی غالبا لفظ خاص مناسب مثل (لا علم الا بعمل) فإن المفهوم منه إنه لا علم نافع. و المفهوم من نحو (لَا غِیبَهَ لِفَاسِق) لا غیبه محرمه. و المفهوم من نحو (لا رضاع بعد فطأم) لا رضاع سائغ. و من نحو (لَا جَمَاعَهَ فِی نَافِلَهٍ ) لا جماعه مشروعه: و من نحو (لا إقرار لمن اقر علی نفسه بالزنا» لا إقرار نافذ أو معتبر. و من نحو (لا صلاه الا بطهور) بناء علی الوضع للأعم لا صلاه صحیحه. و من نحو (لا صلاه لحاقن) لا صلاه کأمله بناء علی قیأم الدلیل إن الحاقن لا تفسد صلاته. . و هکذا.

ص 183

وهذه القرینه و هی قرینه مناسبه الحکم للموضوع لا تقع تحت ضابطه معینه و لکنها موجوده علی الأکثر و یحتاج إدراکها إلی ذوق سلیم.

(تنبیه و تحقیق)

لیس من البعید إن یقال إن المحذوف فی جمیع مواقع (لا) التی هی لنفی الجنس هو کلمه موجود أو ما هو بمعناها، غایه الأمر إنه فی بعض الموارد تقوم القرینه علی عدم إراده نفی الوجود و التحقق حقیقه، فلا بد حینئذ من حملها علی نفی التحقق ادعاء و تنزیلا بأن ننزل الموجود منزله المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فیه أو المتوقع منه. یعنی یدعی إن الموجود الخارجی لیس من أفراد الجنس الذی تعلق به النفی تنزیلا و ذلک لعدم حصول الأثر المطلوب منه، فمثل (لا علم الا بعمل) معناه إن العلم بلا عمل کلا علم إذ لم تحصل الفائده المترقبه منه و مثل (لا إقرار لمن أقر بنفسه علی الزنا) معناه إن إقراره کلا إقرار باعتبار عدم نفوذه علیه و مثل (لا سهو لمن کثر علیه السهو) معناه إن سهوه کلا سهو باعتبار عدم ترتب آثار السهو علیه من سجود أو صلاه أو بطلان الصلاه. هذا إذا کان النفی من جهه تکوین الشیء و أما إذا کان النفی راجعا إلی عالم التشریع، فإن کان النفی متعلقا بالفعل دل نفیه علی عدم ثبوت حکمه فی الشریعه، مثل (َ لَا رَهْبَانِیَّهَ فِی الْإِسْلَامِ ) فإن معنی عدم ثبوتها عدم تشریع الرهبانیه و إنه غیر مرخص بها و مثل (لَا غِیبَهَ لِفَاسِق) فإن معنی عدم ثبوتها عدم حرمه غیبه الفاسق و کذلک نحو: و لا غش فی الإسلأم و لا عمل فی الصلاه و لا رفث و لا فسوق و لا جدال فی الحج و لا جماعه فی نافله، فإن کل ذلک معناه عدم مشروعیه هذه الأفعال. و إن کان النفی متعلقا بعنوان یصح انطباقه علی الحکم، فیدل النفی علی عدم تشریع حکم ینطبق علیه هذا العنوان، کما فی قوله (لا حرج فی الدین) و (لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ فِی الْإِسْلَام . و علی کل حال فإن مثل هذه الجمل و المرکبات لیست مجمله فی حد أنفسها و قد یتفق لها إن تکون مجمله إذا تجردت عن القرینه التی تعین إنها لنفی تحقق الماهیه حقیقه أو لنفیها ادعاء و تنزیلا.

ص 184

و (منها) مثل قوله تعالی: (حرمت علیکم أمهاتکم) و قوله تعالی: (أحلت لکم بهیمه الأنعام) مما أسند الحکم فیه کالتحریم و التحلیل إلی العین. فقد قال بعضهم بأجمالها، نظرا إلی إن إسناد التحریم و التحلیل لا یصح الا إلی الأفعال الاختیاریه، أما الأعیان فلا معنی لتعلق الحکم بها، بل یستحیل. و لذا تسمی الأعیان موضوعات للأحکام کما إن الأفعال تسمی متعلقات. و علیه فلا بد إن یقدر فی مثل هذه المرکبات فعل تصح اضافته إلی العین المذکوره فی الجمله و یصح إن یکون متعلقا للحکم: ففی مثل الآیه الأولی یقدر کلمه (نکاح) مثلا و فی الثانیه (أکل) و فی مثل (و الأنعام حرمت ظهورها) یقدر رکوبها و فی مثل (النفس التی حرم الله) یقدر قتلها. . و هکذا. و لکن الترکیب فی نفسه لیس فیه قرینه علی تعیین نوع المحذوف، فیکون فی حد نفسه مجملا، فلا یدری فیه هل إن المقدر کل فعل تصح اضافته إلی العین المذکوره فی الجمله و یصح تعلق الحکم به أو إن المقدر فعل مخصوص کما قدرناه فی الأمثله المتقدمه؟ و الصحیح فی هذا الباب إن یقال:

إن نفس الترکیب مع قطع النظر عن ملاحظه الموضوع و الحکم و عن أیه قرینه خارجیه، هو فی نفسه یقتضی الإجمال لولا إن الإطلاق یقتضی تقدیر کل فعل صالح للتقدیر، الا إذا قأمت قرینه خاصه علی تعیین نوع الفعل المقدر. و غالبا لا یخلو مثل هذا الترکیب من وجود القرینه الخاصه و لو قرینه مناسبه الحکم و الموضوع. و یشهد لذلک إنا لا نتردد فی تقدیر الفعل المخصوص فی الأمثله المذکوره فی صدر البحث و مثیلاتها و ما ذلک الا لما قلناه من وجود القرینه الخاصه و لو مناسبه الحکم و الموضوع. و یشبه إن یکون هذا الباب نظیر باب (لا) المحذوف خبرها. الهمنا الله تعالی الصواب و دفع عنا الشبهات و هدإنا الصراط المستقیم.

ص 185

المقصد الثانی

تمهید

تمهید:

بسم الله الرحمن الرحیم

من الأدله علی الحکم الشرعی عند الأصولیین الإمامیه: (العقل)، إذ یذکرون إن الأدله علی الأحکام الشرعیه الفرعیه أربعه: الکتاب و السنه و الإجماع و العقل. و سیأتی فی (مباحث الحجه) وجه حجیه العقل. أما هنا فإنما یبحث عن تشخیص صغریات ما یحکم به العقل المفروض إنه حجه، أی یبحث هنا عن مصادیق أحکام العقل الذی هو دلیل علی الحکم الشرعی. و هذا نظیر البحث فی المقصد الأول (مباحث الألفاظ) عن مصادیق أصاله الظهور التی هی حجه و حجیتها إنما یبحث عنها فی مباحث الحجه. و توضیح ذلک: إن هنا مسألتین:

1 - إنه إذا حکم العقل علی شیء إنه حسن شرعا أو یلزم فیه شرعا، أو یحکم علی شیء إنه قبیح شرعا أو یلزم ترکه شرعا، بأی طریق من الطرق التی سیأتی بیانها، هل یثبت بهذا الحکم العقلی حکم الشرع؟ أی إنه من حکم العقل هذا هل یستکشف منه إن الشارع واقعا قد حکم بذلک؟ و مرجع ذلک إلی إن حکم العقل هذا هل هو حجه أولا؟ و هذا البحث - کما قلنا - إنما یذکر فی مباحث الحجه و لیس هنا موقعه. و سیأتی بیان أمکان حصول القطع بالحکم الشرعی من غیر الکتاب و السنه و إذا حصل کیف یکون حجه.

2 - إنه هل العقل أن یدرک بطریق إن هذا الشیء مثلا حسن شرعا أو قبیح أو یلزم فعله أو ترکه عند الشارع؟ یعنی إن العقل بعد إدراکه

ص 188

لحسن الأفعال أو لزومها و لقبح الأشیاء أو لزوم ترکها فی أنفسها بأی طریق من الطریق. . هل یدرک مع ذلک إنها کذلک عند الشارع؟ و هذا المقصد الثانی الذی سمیناه (بحث الملازمات العقلیه) عقدناه لأجل بیان ذلک فی مسائل علی النحو الذی سیأتی إن شاء الله تعالی و یکون فیه تشخیص صغریات حجیه العقل المبحوث عنها فی المقصد الثالث (مباحث الحجه). ثم لا بد - قبل تشخیص هذه الصغریات فی مسائل - من ذکر أمرین یتعلقان بالأحکام العقلیه مقدمه للبحث نستعین بها علی المقصود و هما،

1 - أقسأم الدلیل العقلی (*)

1 - أقسأم الدلیل العقلی (*)

إن الدلیل العقلی - أو فقل ما یحکم به العقل الذی یثبت به الحکم الشرعی - ینقسم إلی قسمین: ما یستقل به العقل و مالا یستقل به. و بتعبیر آخر نقول: إن الأحکام العقلیه علی قسمین: مستقلات و غیر مستقلات. و هذه التعبیرات کثیرا ما تجری علی السنه الأصولیین و یقصدون بها المعنی الذی سنوضحه. و إن کان قد یقولون: (إن هذا ما یستقل به العقل) و لا یقصدون هذا المعنی، بل یقصدون به معنی آخر و هو ما یحکم به العقل بالبداهه و إن کان لیس من المستقلات العقلیه بالمعنی الآتی. و علی کل حال فإن هذا التقسیم یحتاج إلی شیء من التوضیح فنقول: إن العلم بالحکم الشرعی کسائر العلوم لا بد له من عله، لاستحاله وجود الممکن بلا عله. و عله العلم التصدیقی لا بد إن تکون من أحد أنواع الحجه الثلاثه: القیاس أو الاستقراء أو التمثیل. و لیس الاستقراء مما یثبت به الحکم الشرعی و هو واضح. و التمثیل لیس بحجه عندنا، لأنه هو القیاس المصطلح علیه عند الأصولیین الذی هو لیس من مذهبنا.

(هامش)

(*) قد یستشکل فی إطلاق اسم الدلیل علی حکم العقل کما یطلق علی الکتاب و السنه و الإجماع. و سیأتی إن شاء الله تعالی فی مباحث الحجه معنی الدلیل و الحجه باصطلاح الأصولیین و کیف یطلق باصطلاحهم علی حکم العقل، أی القطع.

ص 189

فیتعین إن تکون العله للعلم بالحکم الشرعی هی خصوص القیاس باصطلاح المناطقه و إذا کان کذلک فإن کل قیاس لا بد إن یتألف من مقدمتین سواء کان استثنائیا أو اقترانیا. و هاتان المقدمتان قد تکونان معا غیر عقلیتین فالدلیل الذی یتألف منهما یسمی (دلیلا شرعیا) فی قبال الدلیل العقلی. و لا کلأم فی هذا القسم هنا. و قد تکون کل منهما أو إحداهما عقیله، أی مما یحکم العقل به من غیر اعتماد علی حکم شرعی، فإن الدلیل الذی یتألف منهما یسمی عقلیا و هو علی قسمین:

1 - إن تکون المقدمتإن معا عقلیتین کحکم العقل بحسن شیء أو قبحه ثم حکمه بأنه کل ما حکم به العقل حکم به الشرع علی طبقه. و هو القسم الأول من الدلیل العقلی و هو قسم (المستقلات العقلیه).

2 - إن تکون إحدی المقدمتین غیر عقلیه و الآخری عقلیه کحکم العقل بوجوب المقدمه عند وجوب ذیها فهذه مقدمه عقلیه صرفه و ینضم إلیها حکم الشرع بوجوب ذی المقدمه. و إنما یسمی الدلیل الذی یتألف منهما عقلیا فلأجل تغلیب جانب المقدمه العقلیه. و هذا هو القسم الثانی من الدلیل العقلی و هو قسم (غیر المستقلات العقلیه). و إنما سمی بذلک لأنه - من الواضح - إن العقل لم یستقل وحده فی الوصول إلی النتیجه بل استعإن بحکم الشرع فی إحدی مقدمتی القیاس.

2 - لماذا سمیت هذه المباحث بالملازمات العقلیه؟
لماذا سمیت هذه المباحث بالملازمات العقلیه؟

المراد بالملازمه العقلیه هنا هو حکم العقل بالملازمه بین حکم الشرع و بین أمر آخر سواء کان حکما عقلیا أو شرعیا أو غیرهما مثل الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری الذی یلزمه عقلا سقوط الأمر الاختیاری لو زال الاضطراری فی الوقت أو خارجه علی ما سیأتی ذلک فی مبحث (الإجزاء). و قد یخفی علی الطالب لأول وهله الوجه فی تسمیه مباحث الأحکام العقلیه بالملازمات العقلیه لا سیما فیما یتعلق بالمستقلات العقلیه و لذلک وجب علینا إن نوضح ذلک فنقول:

ص 190

أ - أما فی (المسقلات العقلیه) فیظهر بعد بیان المقدمتین اللتین یتألف منهما الدلیل العقلی. و هما - مثلا -: (الأولی) - (العدل یحسن فعله عقلا). و هذه قضیه عقلیه صرفه هی صغری القیاس. و هی من المشهورات التی تطابقت علیها آراء العقلاء التی تسمی الآراء المحموده. و هذه قضیه تدخل فی مباحث علم الکلام عاده و إذا بحث عنها هنا فمن باب المقدمه للبحث عن الکبری الآتیه. (الثانیه) - (کل ما یحسن فعله عقلا یحسن فعله شرعا). و هذه قضیه عقلیه أیضا یستدل علیها بما سیأتی فی محله و هی کبری للقیاس و مضمونها الملازمه بین حکم العقل و حکم الشرع. و هذه الملازمه مأخوذه من دلیل عقلی فهی ملازمه عقلیه و ما یبحث عنه فی علم الأصول فهو هذه الملازمه و من أجل هذه الملازمه تدخل المستقلات العقلیه فی الملازمات العقلیه. و لا ینبغی إن یتوهم الطالب إن هذه الکبری معناها حجیه العقل، بل نتیجه هاتین المقدمتین هکذا (العدل یحسن فعله شرعا) و هذا الاستنتاج بدلیل عقلی. و قد ینکر المنکر إنه یلزم شرعا ترتیب الأثر علی هذا الاستنتاج و الاستکشاف و سنذکر إن شاء الله تعالی فی حینه الوجه فی هذا الإنکار الذی مرجعه إلی إنکار حجیه العقل. و الحاصل نحن نبحث فی المستقلات العقلیه عن مسألتین: (إحداهما) الصغری و هی بیان المدرکات العقلیه فی الأفعال الاختیاریه إنه أیها ینبغی فعله و أیها لا ینبغی فعله. (ثانیهما) الکبری و هی بیان إن ما یدرکه العقل هل لا بد إن یدرکه الشرع أی یحکم علی طبق ما یحکم به العقل. و هذه هی المسأله الأصولیه التی هی من الملازمات العقلیه. و من هاتین المسألتین نهیئ موضوع حجیه العقل.

2 - و أما فی (غیر المستقلات العقلیه) فأیضا یظهر الحال فیها بعد بیان المقدمتین اللتین یتألف منهما الدلیل العقلی و هما - مثلا - (الأولی) (هذا الفعل واجب) أو (هذا المأتی به مأمور به فی حال الاضطرار). فمثل هذه القضایا تثبت فی علم الفقه فهی شرعیه. (الثانیه) - (کل فعل واجب شرعا یلزمه عقلا وجوب مقدمته شرعا) أو (یلزمه عقلا حرمته ضده شرعا) أو (کل مأتی به و هو مأمور به حال الاضطرار

ص 191

یلزمه عقلا الإجزاء عن المأمور به حال الاختیار). . و هکذا. فإن أمثال هذه القضایا أحکام عقلیه مضمونها الملازمه العقلیه بین ما یثبت شرعا فی القضیه الأولی و بین حکم شرعی آخر. و هذه الأحکام العقلیه هی التی یبحث عنها فی علم الأصول. و من أجل هذا تدخل فی باب الملازمات العقلیه.

الخلاصه:

ومن جمیع ما ذکرنا یتضح إن المبحوث عنه فی الملازمات العقلیه هو إثبات الکبریات العقلیه التی تقع فی طریق إثبات الحکم الشرعی، سواء کانت الصغری عقلیه کما فی المستقلات العقلیه، أو شرعیه کما فی غیر المستقلات العقلیه. أما الصغری فدائما یبحث عنها فی علم آخر غیر علم الأصول، کما إن الکبری یبحث عنها فی علم الأصول و هی عباره عن ملازمه حکم الشرع لشیء آخر بالملازمه العقلیه، سواء کان ذلک الشیء الآخر حکما شرعیا أم حکما عقلیا أم غیرهما. و النتیجه من الصغری و الکبری هاتین تقع صغری لقیاس آخر کبراه حجیه العقل و یبحث عن هذه الکبری فی مباحث الحجه. و علی هذا فینحصر بحثنا هنا فی بابین باب المستقلات العقلیه و باب غیر المستقلات العقلیه، فنقول:

ص 193

الباب الاول: المستقلات العقلیه

الباب الاول: المستقلات العقلیه

تمهید:

الظاهر انحصار المستقلات العقلیه التی یستکشف منها الحکم الشرعی فی مسأله واحده و هی مسأله التحسین و التقبیح العقلیین. و علیه یجب علینا إن نبحث عن هذه المسأله من جمیع أطرافها بالتفصیل لا سیما إنه لم یبحث عنها فی کتب الأصول الدارجه فنقول: وقع البحث هنا فی أربعه أمور متلاحقه:

1 - إنه هل تثبت للأفعال مع قطع النظر عن حکم الشارع و تعلق خطابه بها أحکام عقلیه من حسن و قبح؟ أو إن شئت فقل: هل للأفعال حسن و قبح بسحب ذواتها و لها قیم ذاتیه فی نظر العقل قبل فرض حکم الشارع علیها، أو لیس لها ذلک و إنما الحسن ما حسنه الشارع و القبیح ما قبحه و الفعل مطلقا فی حد نفسه من دون حکم الشارع لیس حسنا و لا قبیحا؟ و هذا هو الخلاف الاصیل بین الأشاعره و العدلیه و هو مسأله التحسین و التقبیح العقلیین المعروفه فی علم الکلام و علیها تترتب مسأله الاعتقاد بعداله الله و غیرها. و إنما سمیت (العدلیه) عدلیه لقولهم بأنه تعالی عادل، بناء علی مذهبهم فی ثبوت الحسن و القبح العقلیین. و نحن نبحث عن هذه المسأله هنا باعتبارها من المبادئ لمسألتنا الأصولیه کا اشرنا إلی ذلک فیما سبق.

2 - إنه بعد فرض القول بأن للأفعال فی حد أنفسها حسنا و قبحا، هل یتمکن العقل من إدراک وجوه الحسن و القبح مستقلا عن تعلیم الشارع و بیانه أولا؟ و علی تقدیر تمکنه هل للمکلف إن یأخذ به بدون بیان الشارع و تعلیمه أو لیس له ذلک أما مطلقا أو فی بعض الموارد؟ و هذه المسأله هی إحدی نقط الخلاف المعروفه بین الأصولیین و جماعه من

ص 196

الإخباریین و فیها تفصیل من بعضهم علی ما یأتی. و هی أیضا لیست من مباحث علم الأصول، ولکنها من المبادئ لمسألتنا الأصولیه الآتیه لأنه بدون القول بأن العقل یدرک وجوه الحسن و القبح لا تحقق عندنا صغری القیاس التی تکلمنا عنها سابقا. و لا ینبغی إن یخفی علیکم إن تحریر هذه المسأله سببه المغالطه التی وقعت لبعضهم و إلا فبعد تحریر المسأله الأولی علی وجهها الصحیح کما سیأتی لا یبقی مجال لهذا النزاع. فأنتظر توضیح ذلک فی محله القریب.

3 - إنه بعد فرض إن للأفعال حسنا و قبحا و إن العقل یدرک الحسن و القبح، یصح إن ننتقل إلی التساؤل: عما إذا کان العقل یحکم أیضا بالملازمه بین حکمه و حکم الشرع، بمعنی إن العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه هل یلزم عنده عقلا إن یحکم الشارع علی طبق حکمه. و هذه هی المسأله الأصولیه المعبر عنها بمسأله الملازمه التی وقع فیها النزاع فأنکر الملازمه جمله من الإخباریین و بعض الأصولیین کصاحب الفصول.

4 - إنه بعد ثبوت الملازمه و حصول القطع بأن الشارع لا بد إن یحکم علی طبق ما حکم به العقل فهل هذا القطع حجه شرعا؟ و مرجع هذا النزاع ثلاث نواح: (الأولی) - فی أمکان إن ینفی الشارع حجیه هذا القطع و ینهی عن الأخذ به. (الثانیه) - بعد فرض أمکان نفی الشارع حجیه القطع هل نهی عن الأخذ بحکم العقل و إن استلزم القطع کقول الأمأم علیه السلأم: (إن دین الله لا یصاب بالعقول) علی تقدیر تفسیره بذلک؟ و النزاع فی هاتین الناحیتین وقع مع الإخباریین جلهم أو کلهم. (الثالثه) بعد فرض عدم أمکان نفی الشارع حجیه القطع هل معنی حکم الشارع علی طبق حکم العقل هو أمره و نهیه، أو إن حکمه معناه إدراکه و علمه بأن هذا الفعل ینبغی فعله أو ترکه و هو شیء آخر غیر أمره و نهیه فإثبات أمره و نهیه یحتاج إلی دلیل آخر و لا یکفی القطع بأن الشارع حکم بما حکم به العقل؟

ص 197

وعلی کل حال فإن الکلام فی هذه النواحی سیأتی فی مباحث الحجه (المقصد الثالث) و هو النزاع فی حجیه العقل. و علیه فنحن نتعرض هنا للمباحث الثلاثه الأولی و نترک المبحث الرابع بنواحیه إلی المقصد الثالث: * * *

ص 199

المبحث الأول: التحسین و التقبیح العقلیان

التحسین و التقبیح العقلیان

اختلف الناس فی حسن الأفعال و قبحها هل أنهما عقلیان أو شرعیان، بمعنی إن الحاکم بهما العقل أو الشرع. فقالت (الأشاعره): لا حکم للعقل فی حسن الأفعال و قبحها و لیس الحسن و القبح عائدا إلی أمر حقیقی حاصل فعلا قبل ورود بیان الشارع، بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن و ما قبحه الشارع فهو قبیح. فلو عکس الشارع القضیه فحسن ما قبحه و قبح ما حسنه لو یکن ممتنعا و انقلب الأمر فصار القبیح حسنا و الحسن قبیحا و مثلوا لذلک بالنسخ من الحرمه إلی الوجوب و من الوجوب إلی الحرمه (1). و قالت (العدلیه): إن للأفعال قیما ذاتیه عند العقل مع قطع النظر عن حکم الشارع فمنها ما هو حسن فی نفسه و منها ما هو قبیح فی نفسه و منها ما لیس له هذان الوصفان. و الشارع لا یأمر الا بما هو حسن و لا ینهی الا عما هو قبیح، فالصدق فی نفسه حسن و لحسنه أمر الله تعالی به، لا إنه أمر الله تعالی به فصار حسنا و الکذب فی نفسه قبیح و لذلک نهی الله تعالی عنه، لا إنه نهی عنه فصار قبیحا.

(هامش)

(1) هذا التصویر لمذهب الأشاعره منقول عن شرح القوشجی للتجرید.

ص 200

هذه خلاصه الرأیین. و اعتقد عدم اتضاح رأی الطرفین بهذا البیان و لا تزال نقط غأمضه فی البحث إذا لم نبینها بوضوح لا نستطیع إن نحکم لأحد الطرفین. و هو أمر ضروری مقدمه للمسأله الأصولیه و لتوقف وجوب المعرفه علیه. فلا بد من بسط البحث بأوسع مما أخذنا علی أنفسنا من الاختصار فی هذا الکتاب، لأهمیه هذا الموضوع من جهه و لعدم إعطائه حقه من التنقیح فی أکثر الکتب الکلامیه و الأصولیه من جهه أخری. و أکلفکم قبل الدخول فی هذا البحث بالرجوع إلی ما حررته فی الجزء الثالث من المنطق ص 17 - 23 عن القضایا المشهورات، لتستعینوا به علی ما هنا. و الآن اعقد البحث هنا فی أمور:

1 - معنی الحسن و القبح و تصویر النزاع فیهما

إن الحسن و القبح لا یستعملان بمعنی واحد، بل لهما ثلاثه معان، فأی هذه المعانی هو موضوع النزاع؟ فنقول: أولا - قد یطلق الحسن و القبح و یراد بهما الکمال و النقص. و یقعان وصفا بهذا المعنی للأفعال الاختیاریه و لمتعلقات الأفعال. فیقال مثلا: العلم حسن و التعلم حسن و یضد ذلک یقال:

الجهل قبیح و إهمال و التعلم قبیح. و یراد بذلک إن العلم و التعلم کمال للنفس و تطور فی وجودها و إن الجهل و إهمال التعلم نقصان فیها و تأخر فی وجودها. و کثیر من الأخلاق الإنسانیه حسنها و قبحها باعتبار هذا المعنی، فالشجاعه و الکرم و الحلم و العداله و الإنصاف و نحو ذلک إنما حسنها باعتبار إنها کمال للنفس و قوه فی وجودها. و کذلک أضدادها قبیحه لأنها نقصان فی وجود النفس و قوتها. و لا ینافی ذلک إنه یقال للأولی حسنه و للثانیه قبیحه باعتبار معنی آخر من المعنیین الآتیین.

ص 201

ولیس للأشاعره ظاهرا نزاع فی الحسن و القبح بهذا المعنی، بل جمله منهم یعترفون بأنهما عقلیان، لأن من القضایا الیقینیات التی وراءها واقع خارجی تطابقه، علی ما سیأتی. (ثانیا) - أنهما قد یطلقان و یراد الملائمه للنفس و المنافره لها و یقعان وصفا بهذا المعنی أیضا للأفعال و متعلقاتها من أعیان و غیرها. فیقال فی المتعلقات: هذا المنظر حسن جمیل. هذا الصوت حسن مطرب، هذا المذوق حلو حسن. . و هکذا. و یقال فی الأفعال: نوم القیلوله حسن. الأکل عند الجوع حسن. و الشرب بعد العطش حسن. و هکذا. و کل هذه الأحکام لأن النفس تلتذ بهذه الأشیاء و تتذوقها لملائمتها لها. و بضد ذلک یقال فی المتعلقات و الأفعال: هذا المنظر قبیح. ولوله النائحه قبیحه. النوم علی الشبع قبیح. . و هکذا. و کل ذلک لأن النفس تتألم أو تشمئز من ذلک. فیرجع معنی الحسن و القبح - فی الحقیقه - إلی معنی اللذه و الألم، أو فقل إلی معنی الملائمه للنفس و عدمها، ما شئت فعبر فإن المقصود واحد. ثم إن هذا المعنی من الحسن و القبح یتسع إلی أکثر من ذلک، فإن الشیء قد لا یکون فی نفسه ما یوجب لذه أو ألما، ولکنه بالنظر إلی ما یعقبه من أثر تلتذ به النفس أو تتألم منه یسمی أیضا حسنا أو قبیحا، بل قد یکون الشیء فی نفسه قبیحا تشمئز منه النفس کشرب الدواء المر ولکنه باعتبار ما یعقبه من الصحه و الراحه التی هی أعظم بنظر العقل من ذلک الألم الوقتی یدخل فیما یستحسن. کما قد یکون الشیء بعکس ذلک حسنا تلتذ به النفس کالأکل اللذیذ المضر بالصحه و لکن ما یعقبه من مرض أعظم من اللذه الوقتیه یدخل فیما یستقبح. و الإنسان بتجاربه الطویله و بقوه تمییزه العقلی یستطیع إن یصنف الأشیاء و الأفعال إلی ثلاثه أصناف: ما یستحسن و ما یستقبح و ما لیس له هاتان المزیتان. و یعتبر هذا التقسیم بحسب ماله من الملائمه و المنافره و لو بالنظر إلی الغایه القریبه أو البعیده التی هی قد تسمو عند العقل علی ماله من لذه وقتیه أو ألم وقتی، کمن یتحمل المشاق الکثیره و یقاسی الحرمان فی سبیل طلب

ص 202

العلم أو الجاه أو الصحه أو المال و کمن یستنکر بعض اللذات الجسدیه استکراها لشؤم عواقبها. و کل ذلک یدخل فی الحسن و القبح بمعنی الملائم و غیر الملائم، قال القوشجی فی شرحه للتجرید عن هذا المعنی: (وقد یعبر عنهما - أی الحسن و القبح - بالمصلحه و المفسده فیقال:

الحسن ما فیه مصلحه و القبح ما فیه مفسده. و ما خلا منهما لا یکون شیئا منهما). و هذا راجع إلی ما ذکرنا و لیس المقصود إن للحسن و القبح معنی آخر بمعنی ماله المصلحه أو المفسده غیر معنی الملاءمه و المنافره، فإن استحسإن المصلحه إنما یکون للملائمه و استقباح المفسده للمنافره. و هذا المعنی من الحسن و القبح أیضا لیس للأشاعره فیه نزاع، بل هما عندهم بهذا المعنی عقلیان، أی مما قد یدرکه العقل من غیر توقف علی حکم الشرع. و من توهم إن النزاع بین القوم فی هذا المعنی فقد ارتکب شططا و لم یفهم کلأمهم. (ثالثا) إنهما یطلقان و یراد بهما المدح و الذم و یقعان وصفا بهذا المعنی للأفعال الاختباریه فقط. و معنی ذلک: إن الحسن ما أستحق فاعله علیه المدح و الثواب عند العقلاء کافه و القبیح ما استحق علیه فاعله الذم و العقاب عندهم کافه. و بعباره أخری إن الحسن ما ینبغی فعله عند العقلاء، أی إن العقل الکل یدرک إنه ینبغی فعله و القبیح ما ینبغی ترکه عندهم، أی إن العقل عند الکل یدرک إنه لا ینبغی فعله أو ینبغی ترکه. و هذا الإدراک للعقل هو معنی حکمه بالحسن و القبح و سیأتی توضیح هذه النقطه، فإنها مهمه جدا فی الباب. و هذا المعنی الثالث هو موضوع النزاع، فالأشاعره إنکروا إن یکون للعقل إدراک و ذلک من دون الشرع و خالفتهم العدلیه فأعطوا للعقل هذا الحق من الإدراک. (تنبیه) - و مما یجب إن یعلم هنا إن الفعل الواحد قد یکون حسنا أو قبیحا بجمیع المعانی الثلاثه، کالتعلم و الحلم و الإحسان، فإنها کمال للنفس،

ص 203

وملائمه لها باعتبار مالها من نفع و مصلحه و مما ینبغی إن یفعلها الإنسان عند العقلاء. و قد یکون الفعل حسنا بأحد المعانی، قبیحا أو لیس بحسن بالمعنی الآخر کالغناء - مثلا - فإنه حسن بمعنی الملائمه للنفس و لذا یقولون عنه إنه غذاء للروح (1) و لیس حسنا بالمعنی الأول أو الثالث فإنه لا یدخل عند العقلاء بما هم عقلاء فیما ینبغی إن یفعل و لیس کمالا للنفس و إن کان هو کمالا للصوت بما هو صوت فیدخل فی المعنی الأول للحسن من هذه الجهه و مثله التدخین أو ما تعتاده النفس من المسکرات و المخدرات فإن هذه حسنه بمعنی الملائمه فقط و لیس کمالا للنفس و لا مما ینبغی فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء.

2 - واقعیه الحسن و القبح فی معانیه و رأی الأشاعره

إن الحسن بالمعنی الأول أی الکمال و کذا مقابله أی القبح أمر واقعی خارجی لا یختلف باختلاف الآنظار و إلاذواق و لا یتوقف علی وجود من یدرکه و یعقله. بخلاف الحسن بالمعنیین الأخیرین. و هذا ما یحتاج إلی التوضیح و التفصیل، فنقول:

1 - أما (الحسن بمعنی الملائمه) و کذا ما یقابله، فلیس له فی نفسه بإزاء فی الخارج یحاذیه و یحکی عنه و إن کان منشأه قد یکون أمرا خارجیا، کاللون و الرائحه و الطعم و تناسق الإجزاء و نحو ذلک. بل حسن الشیء یتوقف علی وجود الذوق العام أو الخاص، فإن الإنسان هو الذی یتذوق المنظور أو المسموع أو المذوق بسبب ما عنده من ذوق یجعل هذا الشیء ملائما لنفسه، فیکون حسنا عنده أو غیر ملائم فیکون قبیحا عنده. فإذا أختلفت الاذواق فی الشیء کان حسنا عند قوم قبیحا عند آخرین. و إذا اتفقوا فی ذوق عام کان ذلک الشیء حسنا عندهم جمیعا، أو قبیحا کذلک.

(هامش)

(1) کان هذا التعبیر یرید إن یحأول قائلوه به دعوی إن الغناء کمال للنفس فی سماعه و هو مغالطه و أیهأم منهم.

ص 204

والحاصل إن الحسن بمعنی الملائم لیس صفه واقعیه للأشیاء کالکمال و لیس واقعیه هذه الصفه الا إدراک الإنسان و ذوقه فلو لم یوجد إنسان یتذوق و لا من یشبهه فی ذوقه لم تکن الأشیاء فی حد أنفسها حسن بمعنی الملائمه. و هذا مثل ما یعتقده الرأی الحدیث فی الالوإن، إذ یقال إنها لا واقع لها بل هی تحصل من إنعکاسات اطیاف الضوء علی الاجسأم، ففی الظلأم حیث لا ضوء لیست هناک ألوإن موجوده بالفعل، بل الموجود حقیقه اجسأم فیها صفات حقیقیه هی منشأ لأنعکاس الاطیاف عند وقوع الضوء علیها و لیس کل واحد من الالوإن الا طیفا أو اطیافا فأکثر ترکبت. و هکذا نقول فی حسن الأشیاء و جمالها بمعنی الملاءمه و الشیء الواقعی فیها ما هو منشأ الملائمه فی الأشیاء کالطعم و الرائحه و نحوهما، الذی هو کالصفه فی الجسم إذ تکون منشأ لأنعکاس اطیاف الضوء. کما إن نفس اللذه و إلالم أیضا أمران واقعیإن و لکن هما الحسن و القبح اللذإن لیسا هما من صفات الأشیاء و اللذه و إلالم من صفات النفس المدرکه للحسن و القبح.

2 - و أما (الحسن بمعنی ما ینبغی إن یفعل عند العقل) فکذلک لیس له واقعیه الا إدراک العقلاء، أو فقل تطابق اراء العقلاء. و الکلام فیه کالکلام فی الحسن بمعنی الملائمه. و سیأتی تفصیل معنی تطابق العقلاء علی المدح و الذم أو إدراک العقل للحسن و القبح. و علی هذا فإن کان غرض الأشاعره من إنکار الحسن و القبح إنکار واقعیتهما بهذا المعنی من الواقعیه فهو صحیح. و لکن هذا بعید عن أقوالهم لأنه لما کانوا یقولون بحسن الأفعال و قبحها بعد حکم الشارع فإنه یعلم منه إنه لیس غرضهم ذلک لأن حکم الشارع لا یجعل لهما واقعیه و خارجیه. کیف و قد رتبوا علی ذلک بأن وجوب المعرفه و الطاعه لیس بعقلی بل شرعی. و إن کان غرضهم إنکار إدراک العقل کما هو الظاهر من أقوالهم فسیأتی تحقیق الحق فیه و إنهم لیسوا علی صواب فی ذلک.

3 - العقل العملی و النظری

إن المراد من العقل - إذ یقولون إن العقل یحکم بحسن الشیء أو قبحه

ص 205

بالمعنی الثالث من الحسن و القبح - هو (العقل العملی) فی مقابل (العقل النظری). و لیس الاختلاف بین العقلین الا بالاختلاف بین المدرکات، فإن کان المدرک - بالفتح - مما ینبغی إن یفعل أو لا یفعل مثل حسن العدل و قبح الظلم فیسمی إدراکه (عقلا عملیا) و إن کان المدرک مما ینبغی إن یعلم مثل قولهم: (الکل اعظم من الجزء) الذی لا علاقه له بالعمل، فیسمی إدراکه (عقلا نظریا). و معنی حکم العقل - علی هذا - لیس الا إدراک إن الشیء مما ینبغی إن یفعل أو یترک. و لیس للعقل إنشاء بعث و زجر و لا أمر و نهی الا بمعنی إن هذا الإدراک یدعو العقل إلی العمل، أی یکون سببا لحدوث الإراده فی نفسه. للعمل و فعل ما ینبغی. أذن - المراد من الأحکام العقلیه هی مدرکات العقل العملی و آراؤه. و من هنا تعرف إن المراد من العقل المدرک للحسن و القبح بالمعنی الأول. إن المراد به هو العقل النظری، لأن الکمال و النقص مما ینبغی إن یعلم، لا مما ینبغی إن یعمل. نعم إذا أدرک العقل کمال الفعل أو نقصه، فإنه یدرک معه إنه ینبغی فعله أو ترکه فیستعین العقل العملی بالعقل النظری. أو فقل یحصل العقل العملی فعلا بعد حصول العقل النظری. و کذا المراد من العقل المدرک للحسن و القبح بالمعنی الثانی هو العقل النظری، لأن الملائمه و عدمها أو المصلحه و المفسده مما ینبغی إن یعلم و یستتبع ذلک إدراک إنه ینبغی الفعل أو الترک علی طبق ما علم. و من العجیب ما جاء فی جأمع السعادات ج 1 ص 59 المطبوع بالنجف سنه 1368 إذ یقول ردا علی الشیخ الرئیس خریت هذه الصناعه: (إن المطلق الإدراک و الإرشاد إنما هو من العقل النظری، فهو بمنزله المشیر الناصح و العقل العملی بمنزله المنفذ لإشاراته). و هذا منه خروج عن الاصطلاح. و ما ندری ما یقصد من العقل العملی إذا کان الإرشاد و النصح للعقل النظری؟ . و لیس هناک عقلان فی الحقیقه کما قدمنا، بل هو عقل واحد و لکن الاختلاف فی مدرکاته و متعلقاته و للتمییز بین الموارد یسمی تاره عملیا و أخری نظریا و کأنه یرید من العقل العملی

ص 206

نفس التصمیم و الإراده للعمل و تسمیه الإراده عقلا وضع جدید فی اللغه.

4 - أسباب حکم العقل العملی بالحسن و القبح

إن الإنسان إذ یدرک إن الشیء ینبغی فعله فیمدح فاعله، أو لا ینبغی فعله فیذم فاعله، لا یحصل له هذا الإدراک جزافا و اعتباطا و هذا شأن کل ممکن حادث بل لا بد له من سبب. و سببه بالاستقراء أحد أمور خمسه نذکرها هنا لنذکر ما یدخل منها فی محل النزاع فی مسأله التحسین و التقبیح العقلیین، فنقول: (الأول) - إن یدرک إن هذا الشیء کمال للنفس أو نقص لها، فإن إدراک العقل لکماله أو نقصه یدفعه للحکم بحسن أو فعله أو قبحه کما تقدم قریبا، تحصیلا لذلک الکمال أو دفعا لذلک النقص. (الثانی) - إن یدرک ملائمه الشیء للنفس أو عدمها أما بنفسه أو لما فیه من نفع عام أو خاص، فیدرک حسن فعله أو قبحه تحصیلا للمصلحه أو دفعا للمفسده. و کل من هذین الإدراکین - اعنی إدراک الکمال أو النقض و إدراک الملائمه أو عدمها - یکون علی نحوین:

1 - إن یکون الإدراک لواقعه جزئیه خاصه، فیکون حکم الإنسان بالحسن و القبح بدافع المصلحه الشخصیه. و هذا الإدراک لا یکون بقوه العقل، لأن العقل شأنه إدراک الأمور الکلیه لا الأمور الجزئیه، بل إنما یکون إدراک الأمور الجزئیه بقوه الحس أو الوهم أو الخیال و إن کان هذا الإدراک قد یستتبع مدحا أو ذما لفاعله و لکن هذا المدح أو الذم لا ینبغی إن یسمی عقلیا بل قد یسمی - بالتعبیر الحدیث - (عاطفیا) لأن سببه تحکیم العاطفه الشخصیه و لا بأس بهذا التعبیر.

2 - إن یکون الإدراک لأمر کلی، فیحکم الإنسان بحسن الفعل لکونه کمالا للنفس، کالعلم و الشجاعه، أو لکونه فیه مصلحه نوعیه کمصلحه العدل لحفظ النظأم و بقاء النوع الإنسانی. فهذا الإدراک إنما یکون بقوه العقل بما هو عقل، فیستتبع مدحا من جمیع العقلاء. و کذا فی إدراک قبح الشیء باعتبار کونه نقصا للنفس کالجهل، أو لکونه فیه مفسده نوعیه کالظلم، فیدرک العقل بما هو عقل ذلک و یستتبع ذما من

ص 207

جمیع العقلاء. فهذا المدح و الذم إذا تطابقت علیه جمیع آراء العقلاء باعتبار تلک المصلحه أو المفسده النوعیتین، أو باعتبار ذلک الکمال أو النقص النوعین - فإنه یعتبر من الأحکام العقلیه التی هی موضوع النزاع. و هو معنی الحسن و القبح العقلیین الذی هو محل النفی و الإثبات. و تسمی هذه الأحکام العقلیه العامه (الآراء المحموده) و (التأدیبات الصلاحیه). و هی من قسم القضایا المشهورات التی هی قسم برأسه فی مقابل القضایا الضروریات. فهذه القضایا غیر معدوده من قسم الضروریات، کما توهمه بعض الناس و منهم الأشاعره کما سیأتی فی دلیلهم. و قد أوضحت ذلک فی الجزء الثالث من (المنطق) فی مبادئ القیاسات، فراجع. و من هنا یتضح لکم جیدا إن العدلیه - إذ یقولون بالحسن و القبح العقلیین - یریدون إن الحسن و القبح من الآراء المحموده و القضایا المشهوره المعدوده من التأدیبات الصلاحیه و هی التی تطابقت علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء. و القضایا المشهوره لیس لها واقع وراء تطابق الآراء، أی إن واقعها ذلک. فمعنی حسن العدل أو العلم عندهم إن فاعله ممدوح لدی العقلاء و معنی قبح الظلم و الجهل إن فاعله مذموم لدیهم (1). و یکفینا شاهدا علی ما نقول - من دخول أمثال هذه القضایا فی المشهورات الصرفیه التی لا واقع لها الا الشهره و إنها لیست من قسم الضروریات ما قاله الشیخ الرئیس فی منطق الإشارات: (و منها الآراء المسماه بالمحموده. و ربما خصصناها باسم الشهره إذ لا عمده لها الا الشهره و هی آراء لو خلی الإنسان و عقله المجرد و وهمه و حسه و لم یؤدب بقبول قضأیاها و إلاعتراف بها. . لم یقض بها الإنسان طاعه لعقله أو و همه أو حسه، مثل حکمنا بأن سلب مال الإنسان قبیح و إن الکذب قبیح لا ینبغی إن یقدم علیه. . ). و هکذا وافقه شارحها العظیم الخواجا نصیر الدین الطوسی.

(هامش)

(1) و لا ینافی هذا إن العلم حسن من جهه أخری و هی جهه کونه کمالا للنفس و الجهل قبیح لکونه نقصانا. (*)

ص 208

(الثالث) و من أسباب الحکم بالحسن و القبح (الخلق الإنسانی) الموجود فی کل إنسان علی اختلافهم فی أنواعه، نحو خلق الکرم و الشجاعه. فإن وجود هذا الخلق یکون سببا لإدراک إن أفعال الکرم - مثلا - مما ینبغی فعلها فیمدح فاعلها و أفعال البخل مما ینبغی ترکها فیذم فاعلها. و هذا الحکم من العقل قد لا یکون من جهه المصلحه العامه أو المفسده العامه و لا من جهه الکمال للنفس أو النقص، بل بدافع الخلق الموجود. و إذا کان هذا الخلق عاما بین جمیع العقلاء یکون هذا الحسن و القبح مشهورا بینهم تتطابق علیهم آراؤهم. و لکن إنما یدخل فی محل النزاع إذا کان الخلق من جهه أخری فیه کمال للنفس أو مصلحه عامه نوعیه فیدعو ذلک إلی المدح و الذم. و یجب الرجوع فی هذا القسم إلی ما ذکرته عن (الخلقیات) فی المنطق (ج 3 ص 20) لتعرف توجیه قضاء الخلق الإنسانی بهذه المشهورات (الرابع) و من أسباب الحکم بالحسن و القبح (الانفعال النفسانی)، نحو الرقه و الرحمه و الشفقه و الحیاء و الأنفه و الحمیه و الغیره. . إلی غیر ذلک من انفعالات النفس التی لا یخلو منها إنسان غالبا. فنری الجمهور یحکم بقبح تعذیب الحیوان أتباعا لما فی الغریزه من الرقه و العطف و الجمهور یمدح من یعین الضعفاء و المرضی و یعنی برعایه الأیتأم و المجانین بل الحیوانات لأنه مقتضی الرحمه و الشفقه. و یحکم بقبح کشف العوره و الکلام البذئ لأنه مقتضی الحیاء. و یمدح المدافع عن الأهل و العشیره و الوطن و الأمه لأنه مقتضی الغیره و الحمیه. . إلی غیر ذلک من أمثال هذه الأحکام العامه بین الناس. و لکن هذا الحسن و القبح لا یعدان حسنا و قبحا عقلیین، بل ینبغی إن یسمیا عاطفیین أو انفعالیین. و تسمی القضایا هذه عند المنطقیین ب (الانفعالیات). و لأجل هذا لا یدخل هذا الحسن و القبح فی محل النزاع مع الأشاعره و لا نقول نحن بلزوم متابعه الشرع للجمهور فی هذه الأحکام، لأنه لیس للشارع هذه الانفعالات. بل یستحیل وجودها فیه لأنها من صفات الممکن. و إنما نحن نقول بملازمه حکم الشارع لحکم العقل بالحسن و القبح فی الآراء المحموده و التأدیبات الصلاحیه - علی ما سیأتی - فباعتبار إن الشارع من العقلاء بل رئیسهم، بل خالق العقل، فلا بد إن یحکم بحکمهم بما هم عقلاء و لکن لا یجب إن یحکم بحکمهم بما هم عاطفیون. و لا نقول إن

ص 209

الشارع یتابع الناس فی أحکامهم متابعه مطلقه. (الخأمس) - و من الأسباب (العاده عند الناس)، کاعتیادهم احترأم القادم - مثلا - بالقیأم له و احترأم الضیف بالطعام، فیحکمون لأجل ذلک بحسن القیأم للقادم و إطعام الضیف. و العادات العامه کثیره و متنوعه، فقد تکون العاده تختص بأهل بلد أو قطر أو أمه و قد تعم جمیع الناس فی جمیع العصور أو فی عصر. فتختلف لأجل ذلک القضایا التی یحکم بها بحسب العاده، فتکون مشهوره عند القوم الذین لهم تلک العاده دون غیرهم. و کما یمدح الناس المحافظین علی العادات العامه یذمون المستهینین بها، سواء کانت العاده حسنه من ناحیه عقلیه أو عاطفیه أو شرعیه، أو سیئه قبیحه من إحدی هذه النواحی: فتراهم یذمون من یرسل لحیته إذا اعتادوا حلقها و یذمون الحلیق إذا اعتادوا إرسالها و تراهم یذمون من یلبس غیر الما لوف عندهم لمجرد إنهم لم یعتادوا لبسه، بل ربما یسخرون به أو یعدونه مارقا. و هذا الحسن و القبح أیضا لیسا عقلیین، بل ینبغی إن یسمیا (عادیین) لأن منشأهما العاده. و تسمی القضایا فیهما فی عرف المناطقه (العادیات). و لذا لا یدخل أیضا هذا الحسن و القبح فی محل النزاع. و لا نقول نحن - أیضا - بلزوم متابعه الشارع للناس فی أحکامهم هذه، لأنهم لم یحکموا فیها بما هم عقلاء بل بما هم معتادون، أی بدافع العاده. نعم بعض العادات قد تکون موضوعا لحکم الشارع، مثل حکمه بحرمه لباس الشهره، أی اللباس غیر المعتاد لبسه عند الناس. و لکن هذا الحکم لا لأجل المتابعه لحکم الناس، بل لأن مخالفه الناس فی زیهم علی وجه یثیر فیهم السخریه و الاشمئزاز فیه مفسده موجبه لحرمه هذا اللباس شرعا و هذا شیء آخر غیر ما نحن فیه. * * * فتحصل من جمیع ما ذکرنا - و قد أطلنا الکلام لغرض کشف الموضوع کشفا تأما - إنه لیس کل حسن و قبح بالمعنی الثالث موضوعا للنزاع مع الأشاعره، بل خصوص ما کان سببه إدراک کمال الشیء أو نقصه علی نحو کلی و ما کان سببه إدراک ملائمته أو عدمها علی نحو کلی أیضا من جهه

ص 210

مصلحه نوعیه أو مفسده نوعیه فإن الأحکام العقلیه الناشئه من هذه الأسباب هی أحکام للعقلاء بما هم عقلاء و هی التی ندعی فیها إن الشارع لا بد إن یتابعهم فی حکمهم. و بهذا تعرف ما وقع من الخلط فی کلأم جمله من الباحثین عن هذا الموضوع.

5 - معنی الحسن و القبح الذاتیین

إن الحسن و القبح بالمعنی الثالث ینقسمان إلی ثلاثه أقسأم:

1 - ما هو (عله) للحسن و القبح و یسمی الحسن و القبح فیه ب (الذاتیین)، مثل العدل و الظلم و العلم و الجهل. فإن العدل بما هو عدل لا یکون الا حسنا أبدا أی إنه متی ما صدق عنوان العدل فإنه لا بد إن یمدح علیه فاعله عند العقلاء و یعد عندهم محسنا. و کذلک الظلم بما هو ظلم لا یکون الا قبیحا، أی إنه متی ما صدق عنوان الظلم فإن فاعله مذموم عندهم و یعد مسیئا.

2 - ما هو (مقتض) لهما و یسمی الحسن و القبح فیه ب (العرضیین) مثل تعظیم الصدیق و تحقیره، فإن تعظیم الصدیق لو خلی و نفسه فهو حسن ممدوح علیه و تحقیره کذلک قبیح لو خلی و نفسه. و لکن تعظیم الصدیق بعنوان إنه تعظیم الصدیق یجوز إن یکون قبیحا مذموما کما إذا کان سببا لظلم ثالث، بخلاف العدل فإنه یستحیل إن یکون قبیحا مع بقاء صدق عنوان العدل. کذلک تحقیر الصدیق بعنوان إنه تحقیر له یجوز إن یکون حسنا ممدوحا علیه کما إذا کان سببا لنجاته و لکن یستحیل إن یکون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان الظلم.

3 - ما لا علیه له و لا اقتضاء فیه فی نفسه للحسن و القبح أصلا و إنما قد یتصف بالحسن تاره إذا انطبق علیه عنوان حسن کالعدل و قد یتصف بالقبح أخری إذا انطبق علیه عنوان قبیح کالظلم. و قد لا ینطبق علیه عنوان أحدهما فلا یکون حسنا و لا قبیحا، کالضرب مثلا فإنه حسن للتأدیب و قبیح للتشفی و لا حسن و لا قبیح کضرب غیر ذی الروح. و معنی کون الحسن أو القبح ذاتیا: إن العنوان المحکوم علیه باحدهما بما هو فی نفسه و فی حد ذاته یکون محکوما به، لا من جهه اندراجه تحت عنوان آخر. فلا یحتاج إلی واسطه فی اتصافهم باحدهما.

ص 211

ومعنی کونه مقتضیا لأحدهما: إن العنوان لیس فی حد ذاته متصفا به بل بتوسط عنوان آخر، ولکنه لو خلی و طبعه کان داخلا تحت العنوان الحسن أو القبیح ألا تری إن تعظیم الصدیق لو خلی و نفسه یدخل تحت عنوان العدل الذی هو حسن فی ذاته، أی بهذا الاعتبار تکون لهم مصلحه نوعیه عامه. أما لو کان سببا لهلاک نفس محترمه کان قبیحا لأنه یدخل حینئذ بما هو تعظیم الصدیق تحت عنوان الظلم و لا یخرج عن عنوان کونه تعظیما للصدیق. و کذلک یقال فی تحقیر الصدیق، فإنه لو خلی و نفسه یدخل تحت عنوان الظلم الذی هو قبیح بحسب ذاته، أی بهذا الاعتبار تکون له مفسده نوعیه عامه. فلو کان سببا لنجاه نفس محترمه کان حسنا لأنه یدخل حینئذ تحت عنوان العدل و لا یخرج عن عنوان کونه تحقیرا للصدیق. و أما العناوین من القسم الثالث فلیست فی حد ذاتها لو خلیت و أنفسها داخله تحت عنوان حسن أو قبیح، فلذلک لا تکون لها علیه و لا اقتضاء. و علی هذا یتضح معنی العلیه و الاقتضاء هنا، فإن المراد من العلیه إن العنوان بنفسه هو تمأم موضوع حکم العقلاء بالحسن أو القبح. و المراد من الاقتضاء إن العنوان لو خلی و طبعه یکون داخلا فیما هو موضوعا لحکم العقلاء بالحسن أو القبح. و لیس المراد من العلیه و الاقتضاء ما هو معروف من معناهما إنه بمعنی التأثیر و الإیجاد فإنه من البدیهی إنه لا علیه و لا اقتضاء لعناوین الأفعال فی أحکام العقلاء الا من باب علیه الموضوع لمحموله.

6 - أدله الطرفین

بتقدیم الأمور السابقه نستطیع إن نواجه أدله الطرفین بعین بصیره، لنعطی الحکم العادل لأحدهما و نأخذ النتیجه المطلوبه. و نحن نبحث عن ذلک فی عده مواد، فنقول:

1 - إنا ذکرنا إن قضیه الحسن و القبح من القضایا المشهورات و أشرنا إلی ما کنتم درستموه فی الجزء الثالث من المنطق من إن المشهورات قسم یقابل الضروریات الست کلها. و منه نعرف المغالطه فی دلیل الأشاعره و هو أهم أدلتهم إذ یقولون: (لو کانت قضیه الحسن و القبح مما یحکم به العقل لما کان فرق بین حکمه

ص 212

فی هذه القضیه و بین حکمه بأن الکل أعظم من الجزء. و لکن الفرق موجود قطعا إذ الحکم الثانی لا یختلف فیه اثنان مع وقوع الاختلاف فی الأول). و هذا الدلیل من نوع القیاس الاستثنائی قد استثنی فیه نقیض التالی لینتج نقیض المقدم. و الجواب عنه: إن المقدمه الأولی و هی الجمله الشرطیه ممنوعه و منعها یعلم مما تقدم آنفا، لأن قضیه الحسن و القبح - کما قلنا - من المشهورات و قضیه إن الکل أعظم من الجزء من الأولیات الیقینیات، فلا ملازمه بینهما و لیس هما من باب واحد حتی یلزم من کون القضیه الأولی مما یحکم به العقل الا یکون فرق بینها و بین القضیه الثانیه. و ینبغی إن نذکر جمیع الفروق بین المشهورات هذه و بین الأولیات، لیکون أکثر وضوحا بطلان قیاس إحداهما علی الأخری. و الفارق من وجوه ثلاثه: (الأول) - إن الحاکم فی قضایا التأدیبات العقل العملی و الحاکم فی الأولیات العقل النظری. (الثانی) - إن القضیه التأدیبیه لا واقع لها الا تطابق آراء العقلاء و الأولیات لها واقع خارجی. (الثالث) - إن القضیه التأدیبیه لا یجب إن یحکم بها کل عاقل لو خلی و نفسه و لم یتأدب بقبولها و الاعتراف بها، کما قال الشیخ الرئیس علی ما نقلناه من عبارته فیما سبق فی الأمر الثانی. و لیس کذلک القضیه الأولیه التی یکفی تصور طرفیها فی الحکم، فإنه لا بد ألا یشذ عاقل فی الحکم بها لأول وهله.

2 - و من أدلتهم علی إنکار الحسن و القبح العقلیین إن قالوا: إنه لو کان ذلک عقلیا لما اختلف حسن الأشیاء و قبحها باختلاف الوجوه و الاعتبارات کالصدق إذ یکون مره ممدوحا علیه و أخری مذموما علیه، إذا کان فیه ضرر کبیر. و کذلک الکذب بالعکس یکون مذموما علیه و ممدوحا علیه، إذا کان فیه نفع کبیر. کالضرب و القیأم و القعود و نحوها مما یختلف حسنه و قبحه. و الجواب عن هذا الدلیل و أشباهه یظهر مما ذکرناه من أحسن الأشیاء و قبحها علی إنحاء ثلاثه، فما کان ذاتیا لا یقع فیه اختلاف، فإن العدل بما هو

ص 213

عدل لا یکون قبیحا أبدا و کذلک الظلم بما هو ظلم لا یکون حسنا أبدا، أی إنه مادام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح و ما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم. و أما ما کان عرضیا فإنه یختلف بالوجوه و الاعتبارات، فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان العدل کان ممدوحا و إن دخل تحت عنوان الظلم کان قبیحا. و کذلک الکذب و ما ذکر من الأمثله. و الخلاصه إن العدلیه لا یقولون بأن جمیع الأشیاء لا بد إن تتصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا، حتی یلزم ما ذکر من الإشکال.

3 - و قد استدل العدلیه علی مذهبهم بما خلاصته: (إنه من المعلوم ضروره حسن الإحسان و قبح الظلم عند کل عاقل من غیر اعتبار شرع، فإن ذلک یدرکه حتی منکر الشرائع). و أجیب عنه، بأن الحسن و القبح فی ذلک بمعنی الملاءمه و المنافره أو بمعنی صفه الکمال و النقص و هو مسلم لا نزاع فیه. و أما بالمعنی المتنازع فیه فإنا لا نسلم جزم العقلاء به. و نحن نقول: إن من یدعی ضروره حکم العقلاء بحسن الإحسان و قبح الظلم یدعی ضروره مدحهم لفاعل الإحسان و ذمهم لفاعل الظلم. و لا شک فی إن هذا المدح و الذم من العقلاء ضروریإن لتواتره عن جمیع الناس و منکره مکابر. و الذی یدفع العقلاء لهذا - کما قدمنا - شعورهم بأن العدل کمال للعادل و ملاءمته لمصلحه النوع الإنسانی و بقائه و شعورهم بنقص الظلم و منافرته لمصلحه النوع الإنسانی و بقائه.

4 - و استدل العدلیه أیضا بأن الحسن و القبح لو کانا لا یثبتإن الا من طریق الشرع، فهما لا یثبتإن أصلا حتی من طریق الشرع. و قد صور بعضهم هذه الملازمه علی النحوإلاتی: إن الشارع إذا أمر بشیء فلا یکون حسنا الا إذا مدح مع ذلک الفاعل علیه و إذا نهی عن شیء فلا یکون قبیحا الا إذا ذم الفاعل علیه. و من أین تعرف إنه یجب إن یمدح الشارع فاعل المأمور به و یذم فاعل المنهی عنه، الا إذا کان ذلک واجبا عقلا، فتوقف حسن المأمور به و قبح المنهی عنه علی حکم العقل و هو المطلوب.

ص 214

ثم لو ثبت إن الشارع مدح فاعل المأمور به و ذم فاعل المنهی عنه و المفروض إن مدح الشارع ثوابه و ذمه عقابه، فمن أین نعرف إنه صادق فی مدحه و ذمه الا إذا ثبت إن الکذب قبیح عقلا یستحیل علیه، فیتوقف ثبوت الحسن و القبح شرعا علی ثبوتهما عقلا، فلو لو یکن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا. و قد أجاب بعض الأشاعره عن هذا التصویر بأنه یکفی فی کون الشیء حسنا إن یتعلق به الأمر و فی کونه قبیحا إن یتعلق به النهی و الأمر و النهی - حسب الفرض - ثابتان وجدانا. و لا حاجه إلی فرض ثبوت مدح و ذم من الشارع. و هذا الکلام - فی الحقیقه - یرجع إلی أصل النزاع فی معنی الحسن و القبح، فیکون الدلیل و جوابه صرف دعوی و مصادره علی المطلوب، لأن المستدل یرجع قوله إلی إنه یجب المدح و الذم عقلا لأنهما واجبان فی اتصاف الشیء بالحسن و القبح و المجیب یرجع قوله إلی أنهما لا یجبان عقلا لأنهما غیر واجبین فی الحسن و القبح. و الأحسن تصویر الدلیل علی وجه آخر، فنقول: إنه من المسلم عند الطرفین وجوب طاعه الأوأمر و النواهی الشرعیه و کذلک وجوب المعرفه. و هذا الوجوب عند الأشاعره وجوب شرعی حسب دعواهم، فنقول لهم: من أین یثبت هذا الوجوب؟ لا بد إن یثبت بأمر من الشارع. فننقل الکلام إلی هذا الأمر، فنقول لهم: من أین تجب طاعه هذا الأمر، فإن کان هذا الوجوب عقلیا فهو المطلوب و إن کان شرعیا أیضا فلا بد له من أمر و لا بد له من طاعه فننقل الکلام إلیه. . و هکذا نمضی إلی غیر النهایه. و لا نقف حتی ننتهی إلی طاعه و جوبها عقلی لا تتوقف علی أمر الشارع. و هو المطلوب. بل ثبوت الشرائع من أصلها یتوقف علی التحسین و التقبیح العقلیین و لو کان ثبوتها من طریق شرعی لاستحال ثبوتها، لأنا ننقل الکلام إلی هذا الطریق الشرعی فیتسلسل إلی غیر النهایه. و النتیجه: إن ثبوت الحسن و القبح شرعا یتوقف علی ثبوتهما عقلا.

ص 215

المبحث الثانی: إدراک العقل للحسن و القبح

بعد ما تقدم من ثبوت الحسن و القبح العقلیین فی الأفعال، فقد نسب بعضهم إلی جماعه الإخباریین - علی ما یظهر من کلمات بعضهم - إنکار إن یکون للعقل حق إدراک ذلک الحسن و القبح. فلا یثبت شیء من الحسن و القبح الواقعیین بإدراک العقل. و الشیء الثابت قطعا عنهم علی الإجمال القول بعدم جواز الاعتماد علی شیء من الإدراکات العقلیه فی إثبات الأحکام الشرعیه. و قد فسر هذا القول بأحد وجوه ثلاثه (1) حسب اختلاف عبارات الباحثین منهم:

1 - إنکار إدراک العقل للحسن و القبح الواقعیین. و هذه هی مسألتنا التی عقدنا لها هذا المبحث الثانی.

2 - بعد الاعتراف بثبوت إدراک العقل إنکار الملازمه بینه و بین حکم الشرع و هذه هی المسأله الآتیه فی (المبحث الثالث).

3 - بعد الاعتراف بثبوت إدراک العقل و ثبوت الملازمه إنکار وجوب إطاعه الحکم الشرعی الثابت من طریق العقل و مرجع ذلک إلی إنکار حجیه العقل. و سیأتی البحث عن ذلک فی الجزء الثالث من هذا الکتاب (مباحث الحجه).

(هامش)

(1) سیأتی إن هناک وجها رابعا لحمل کلأمهم علیه بما أولنا به رأی صاحب الفصول الآتی و هو إنکار إدراک العقل لملاکات الأحکام الشرعیه. و هو وجه وجیه سیأتی بیانه و تأییده و به تحل عقده النزاع و یقع التصالح بین الطرفین. (*)

ص 216

وعلیه، فإن أرادوا التفسیر الأول بعد الاعتراف بثبوت الحسن و القبح العقلیین فهو کلأم لا معنی له، لأنه قد تقدم إنه لا واقعیه للحسن و القبح بالمعنی المتنازع فیه مع الأشاعره و هو المعنی الثالث الا إدراک العقلاء لذلک و تطابق آرائهم علی مدح فاعل الحسن و ذم فاعل القبیح علی ما أوضحناه فیما سبق. و إذا اعترفوا بثبوت الحسن و القبح بهذا المعنی فهو اعتراف بإدراک العقل. و لا معنی للتفکیک بین ثبوت الحسن و القبح و بین إدراک العقل لهما الا إذا جاز تفکیک الشیء عن نفسه. نعم إذا فسروا الحسن و القبح بالمعنیین الأولین جاز هذا التفکیک ولکنهما لیسا موضع النزاع عندهم. و هذا الأمر واضح لا یحتاج إلی أکثر من هذا البیان بعدما قدمناه فی المبحث الأول.

ص 217

المبحث الثالث: ثبوت الملازمه العقلیه بین حکم العقل و حکم الشرع

ثبوت الملازمه العقلیه بین حکم العقل و حکم الشرع

ومعنی الملازمه العقلیه هنا - علی ما تقدم - إنه إذا حکم العقل بحسن شیء أو قبحه هل یلزم عقلا إن یحکم الشرع علی طبقه؟ و هذه هی المسأله الأصولیه التی تخص علمنا و کل ما تقدم من الکلام کان کالمقدمه لها. و قد قلنا سابقا: إن الإخباریین فسر کلأمهم - فی أحد الوجوه الثلاثه المتقدمه الذی یظهر من کلأم بعضهم - بإنکار هذه الملازمه. و أما الأصولیون فقد أنکرها منهم صاحب الفصول و لم نعرف له موافقا و سیأتی توجیه کلأمهم و کلأم الإخباریین. و الحق إن الملازمه ثابته عقلا، فإن العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه - أی إنه إذا تطابقت آراء العقلاء جمیعا بما هم عقلاء علی حسن شیء لما فیه من حفظ النظأم و بقاء النوع أو علی قبحه لما فیه من الإخلال بذلک - فإن الحکم هذا یکون بادی رأی الجمیع فلا بد إن یحکم الشارع بحکمهم، لأنه منهم بل رئیسهم. فهو بما هو عاقل - بل خالق العقل - کسائر العقلاء لابد إن یحکم بما یحکمون. و لو فرضنا إنه لم یشارکهم فی حکمهم لما کان ذلک الحکم بادی رأی الجمیع و هذا خلاف الفرض. و بعد ثبوت ذلک ینبغی إن نبحث هنا عن مسأله أخری و هی إنه لو ورد من الشارع أمر فی مورد حکم العقل کقوله تعالی: (أطیعوا الله و الرسول) فهذا الأمر من الشارع هل هو أمر مولوی أی إنه أمر منه بما هو مولی، أو إنه أمر إرشادی أی إنه أمر لأجل الإرشاد إلی ما حکم به العقل، أی إنه أمر منه بما هو عاقل؟ و بعباره أخری إن النزاع هنا فی إن مثل هذا الأمر من الشارع هل هو أمر تأسیسی و هذا معنی إنه مولوی أو إنه أمر تأکیدی و هو

ص 218

معنی إنه إرشادی؟ لقد وقع الخلاف فی ذلک و الحق إنه للإرشاد حیث یفرض إن حکم العقل هذا کاف لدعوه المکلف إلی الفعل الحسن و اندفاع أرادته للقیأم به، فلا حاجه إلی جعل الداعی من قبل المولی ثانیا، بل یکون عبثا و لغوا، بل هو مستحیل لأنه یکون من باب تحصیل الحاصل. و علیه، فکل ما یرد فی لسان الشرع من الأوأمر فی موارد المستقلات العقلیه لا بد إن یکون تأکیدا لحکم العقل لا تأسیسا. نعم لو قلنا بأن ما تطابقت علیه آراء العقلاء هو استحقاق المدح و الذم فقط، علی وجه لا یلزم منه استحقاق الثواب و العقاب من قبل المولی، أو إنه یلزم منه ذلک بل هو عینه (1) و لکن لا یدرک ذلک کل أحد فیمکن الا یکون نفس إدراک استحقاق المدح و الذم کافیا لدعوه کل احد إلی الفعل الا للأفذاذ من الناس، فلا یستغنی أکثر الناس عن الأمر من المولی المترتب علی موافقته الثواب و علی مخالفته العقاب فی مقام الدعوه إلی الفعل و انقیاده، فإذا ورد أمر من المولی فی مورد حکم العقل المستقل فلا مانع من حمله علی الأمر المولوی، الا إذا استلزم منه محال التسلسل کالأمر بالطاعه و الأمر بالمعرفه. بل مثل هذه الموارد لا معنی لأن یکون الأمر فیها مولویا، لأنه لا یترتب علی موافقته و مخالفته غیر ما یترتب علی متعلق المأمور به، نظیر الأمر بالاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی.

توضیح و تعقیب:

والحق إن الالتزأم بالتحسین و التقبیح العقلیین هو نفس الالتزأم بتحسین الشارع و تقبیحه، وفقا لحکم العقلاء لأنه من جملتهم، لا أنهما شیئان أحدهما یلزم الآخر و إن توهم ذلک بعضهم.

(هامش)

(1) الحق کما - صرح بذلک کثیر من العلماء المحققین - إن معنی استحقاق المدح لیس إلا استحقاق الثواب و معنی استحقاق الذم لیس الا استحقاق العقاب، بمعنی إن المراد من المدح ما یعم الثواب لأن المراد بالمدح المجازاه بالخیر و المراد من الذم ما یعم العقاب لأن المراد به المکافأه بالشر. و لذا قالوا: إن مدح الشارع ثوابه و ذمه عقابه و أرادوا به هذا المعنی. (*)

ص 219

ولذا تری أکثر الأصولیین و الکلامیین لم یجعلوهما مسألتین بعنوانین، بل لم یعنونوا الا مسأله واحده هی مسأله التحسین و التقبیح العقلیین. و علیه، فلا وجه للبحث عن ثبوت الملازمه بعد فرض القول بالتحسین و التقبیح. و أما نحن فإنما جعلنا الملازمه مسأله مستقله فللخلاف الذی وقع فیها بتوهم التفکیک. و من العجیب ما عن صاحب الفصول - رحمه الله - من إنکاره للملازمه مع قوله بالتحسین و التقبیح العقلیین و کأنه ظن إن کل ما أدرکه العقل من المصالح و المفاسد - و لو بطریق نظری أو من غیر سبب عام من الأسباب المتقدم ذکرها - یدخل فی مسأله التحسین و التقبیح و إن القائل بالملازمه یقول بالملازمه أیضا فی مثل ذلک. و لکن نحن قلنا: إن قضایا التحسین و التقبیح هی القضایا التی تطابقت علیها آراء العقلاء کافه بما هم عقلاء و هی بادی رأی الجمیع و فی مثلها نقول بالملازمه لا مطلقا. فلیس کل ما أدرکه العقل من أی سبب کان و لو لم نتطابق علیه الآراء أو تطابقت و لکن لا بما هم عقلاء یدخل فی هذه المسأله. و قد ذکرنا نحن سابقا: إن ما یدرکه العقل من الحسن و القبح بسبب العاده أو الانفعال و نحوهما و ما یدرکه لا من سبب عام للجمیع - لا یدخل فی موضوع مسألتنا. و نزید هذا بیانا و توضیحا هنا، فنقول: إن مصالح الأحکام الشرعیه المولویه التی هی نفسها ملاکات أحکام الشارع لا تندرج تحت ضابط نحن ندرکه بعقولنا، إذ لا یجب فیها إن تکون هی بعینها المصالح العمومیه المبنی علیها حفظ النظأم العام و إبقاء النوع التی هی - أعنی هذه المصالح العمومیه - مناطات الأحکام العقلیه فی مسأله التحسین و التقبیح العقلیین. و علی هذا، فلا سبیل للعقل بما هو عقل إلی إدراک جمیع ملاکات الأحکام الشرعیه. فإذا أدرک العقل المصلحه فی شیء أو المفسده فی آخر و لم یکن إدراکه مستندا إلی إدراک المصلحه أو المفسده العامتین اللتین یتساوی فی إدراکهما جمیع العقلاء، فإنه - اعنی العقل - لا سبیل له إلی الحکم بأن هذا المدرک یجب إن یحکم به الشارع علی طبق حکم العقل، إذ یحتمل إن هناک ما

ص 220

هو مناط لحکم الشارع غیر ما أدرکه العقل، أو إن هناک مانعا یمنع من حکم الشارع علی طبق ما أدرکه العقل و إن کان ما أدرکه مقتضیا لحکم الشارع. و لأجل هذا نقول: إنه لیس کل ما حکم به الشرع یجب إن یحکم به العقل و الی هذا یرمی قول أمأمنا الصادق علیه السلأم: (إن دین الله لا یصاب بالعقل) و لأجل هذا أیضا نحن لا نعتبر القیاس و الاستحسان من الأدله الشرعیه علی الأحکام. * * * و علی هذا التقدیر، فإن کان ما أنکره صاحب الفصول و الأخباریون من الملازمه هی الملازمه فی مثل تلک المدرکات العقلیه التی هی لیست من المستقلات العقلیه التی تطابقت علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء - فإن إنکارهم فی محله و هم علی حق فیه لا نزاع لنا معهم فیه. و لکن هذا أمر أجنبی عن الملازمه المبحوث عنها فی المستقلات العقلیه. و إن کان ما انکروه هی مطلق الملازمه حتی فی المستقلات العقلیه کما قد یظهر من بعض تعبیراتهم فهم لیسوا علی حق فیما انکروا و لا مستند لهم. و علی هذا فیمکن التصالح بین الطرفین بتوجیه کلأم الإخباریین و صاحب الفصول بما یتفق و ما أوضحناه و لعله لا یأباه بعضهم کلأمهم.

ص 221

الباب الثانی غیر المستقلات العقلیه

الباب الثانی غیر المستقلات العقلیه

تمهید:

سبق إن قلنا: إن المراد من (غیر المستقلات العقلیه) هو ما لم یستقل العقل به وحده فی الوصول إلی النتیجه، بل یستعین بحکم شرعی (1) فی إحدی مقدمتی القیاس (وهی الصغری) و المقدمه الأخری (وهی الکبری) مثاله حکم العقل بالملازمه بین وجوب ذی المقدمه شرعا و بین وجوب الحکم العقلی الذی هو عباره عن حکم العقل بالملازمه عقلا بین الحکم فی المقدمه الأولی و بین حکم شرعی آخر. و هذه الملازمه العقلیه لها عده موارد وقع فیها البحث و صارت موضعا للنزاع

ونحن ذاکرون هنا أهم هذه المواضع فی مسائل:

المسأله الأولی: الإجزاء (2)

المسأله الأولی: الإجزاء (2)

تصدیر:

لاشک فی إن المکلف إذا فعل بما أمر به مولاه علی الوجه المطلوب - أی اتی بالمطلوب علی طبق ما أمر به جأمعا لجمیع ما هو معتبر فیه من الإجزاء أو

(هامش)

(1) قلنا (یستعین بحکم شرعی) و لم نقل (إن المقدمه شرعیه) لتعمیم بحث غیر المستقلات العقلیه لمسأله الإجزاء، فإن صغری مسأله الإجزاء هکذا: (هذا الفعل إتیان بالمأمور به شرعا) و الحکم بأن الفعل إتیان بالمأمور به یستعان فیه بالحکم الشرعی و هو الأمر المفروض ثبوته.

(2) الإجزاء: مصدر (أجزأ) أی أغنی عنه و قأم مقامه.

ص 224

الشرائط شرعیه أو عقلیه - فإن هذا الفعل منه یعتبر امتثالا لنفس ذلک الأمر، سواء کان الأمر اختیاریا واقعیا، أو اضطراریا، أو ظاهریا. و لیس فی هذا خلاف أو یمکن إن یقع فیه الخلاف. و کذا لا شک و لا خلاف فی هذا الامتثال علی تلک الصفه یجزئ و یکتفی به عن امتثال آخر، لأن المکلف - حسب الفرض - قد جاء بما علیه من التکلیف علی الوجه المطلوب. و کفی! و حینئذ یسقط الأمر الموجه إلیه، لأنه قد حصل بالفعل ما دعا إلیه و أنتهی أمده. و یستحیل إن یبقی بعد حصول غرضه و ما کان قد دعا إلیه، لانتهاء أمد دعوته بحصول غایته الداعیه إلیه، الا إذا جوزنا المحال و هو حصول المعلول بلا عله (1). و إنما وقع الخلاف - أو یمکن إن یقع - فی مسأله الإجزاء فیما إذا کان هناک

(هامش)

(1) و إذا صح إن یقال شیء فی هذا الباب فلیس فی إجزاء المأتی به و الاکتفاء بامتثال الأمر، فإن هذا قطعی کما قلنا فی المتن - و إنما الذی یصح إن یقال و یبحث عنه ففی جواز الامتثال مره أخری بدلا عن الامتثال الأول علی وجه یلغی الامتثال الأول و یکتفی بالثانی. و هو خارج عن مسأله الإجزاء و یعبر عنه فی لسان الأصولیین بقولهم: (تبدیل الامتثال بالامتثال). و قد یتصور الطالب إن هذا لا مانع منه عقلا، بأن یتصور إن هناک حاله منتظره بعد الامتثال الأول، بمعنی إن نتصور إن الغرض من الأمر لم یحصل بمجرد الامتثال الأول فلا یسقط عنده الأمر، بل یبقی مجال لامتثاله ثانیا، لا سیما إذا کان الامتثال الثانی أفضل. و یساعد علی هذا التصویر إنه قد ورد فی الشریعه ما یؤید ذلک بظاهره مثل ما ورد فی باب إعاده من صلی فرأدی عند حضور الجماعه: (إن الله تعالی یختار أحبهما إلیه). و الحق عدم جواز تبدیل الامتثال بامتثال آخر، لأن الإتیان بالمأمور به بحدوده و قیوده عله تأمه لحصول الغرض، فلا تبقی حاله منتظره بعد الامتثال الأول فیسقط الأمر لانتهاء أمده کما قلنا فی المتن. أما ما ورد فی جواز ذلک فیحمل علی استحباب الإعاده بأمر آخر ندبی و ینبغی إن یحمل قوله علیه السلأم (یختار أحبهما إلیه) علی إن المراد یختار ذلک فی مقام عطاء الثواب و الأجر، لا فی مقام امتثال الأمر الوجوبی بالصلاه و إن الامتثال یقع بالثانی. (*)

ص 225

أمران: أمر أولی واقعی لم یمتثله المکلف أما لتعذره علیه أو لجهله به و أمر ثانوی أما اضطراری فی صوره تعذر الأول و أما ظاهری فی صوره الجهل بالأول. فإنه إذا أمتثل المکلف هذا الأمر الثانوی الاضطراری أو الظاهری ثم زال العذر و الاضطرار أو زال الجهل و انکشف الواقع - صح الخلاف فی کفایه ما أتی به امتثالا للأمر الثانی عن امتثال الأمر الأول و أجزائه عنه إعاده فی الوقت و قضاء فی خارجه. و لأجل هذا عقدت هذه المسأله (مسأله الإجزاء). و حقیقتها هو البحث عن ثبوت الملازمه - عقلا - بین الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری و بین الإجزاء و الاکتفاء به عن امتثال الأمر الأولی الاختیاری الواقعی. و قد عبر بعض علماء الأصول المتأخرین عن هذه المسأله بقوله:

(هل الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء أو لا یقتضی). و المراد من (الاقتضاء) فی کلأمه: الاقتضاء بمعنی العلیه و التأثیر أی إنه هل یلزم - عقلا - من الإتیان بالمأمور به سقوط التکلیف شرعا أداء و قضاء. و من هنا تدخل هذه المسأله فی باب الملازمات العقلیه، علی ما حررنا البحث فی صدر هذا المقصد عن المراد بالملازمه العقلیه. و لا وجه لجعلها من باب مباحث الألفاظ لأن ذلک لیس من شؤون الدلاله اللفظیه. و علینا إن نعقد البحث فی مقامین: (الأول) فی إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراری (الثانی) فی إجزاء المأمور به بالأمر الظاهری:

المقام الأول - الأمر الاضطراری

وردت فی الشریعه المطهره أوأمر لا تحصی تختص بحال الضروریات و تعذر امتثال الأوأمر الأولی أو بحال الحرج فی امتثالها: مثل التیمم و وضوء الجبیره و غسلها و صلاه العاجز عن القیأم أو القعود و صلاه الغریق. و لا شک فی إن الاضطرار ترتفع به فعلیه التکلیف، لأن الله تعالی لا یکلف نفسا الا وسعها. و قد ورد فی الحدیث النبوی المشهور الصحیح (رفع علی أمتی ما اضطروا إلیه)

ص 226

غیر إن الشارع المقدس - حرصا علی بعض العبادات لا سیما الصلاه التی لا تترک بحال - أمر عباده بالاستعاضه عما اضطروا إلی ترکه بالإتیان ببدل عنه: فأمر - مثلا - بالتیمم بدلا عن الوضوء أو الغسل و قد جاء فی الحدیث (یکفیک عشر سنین). و أمر بالمسح علی الجبیره بدلا عن غسل بشره العضو فی الوضوء و الغسل. و أمر بالصلاه من جلوس بدلا عن الصلاه من قیأم. . و هکذا فیما لا یحصی من الأوأمر الوارده فی حال اضطرار المکلف و عجزه عن امتثال الأمر الأولی الاختیاری أو فی حال الحرج فی أمثاله. و لا شک فی إن هذه الأوأمر الاضطراریه هی أوأمر واقعیه حقیقیه ذات مصالح ملزمه کالأوأمر الأولیه. و قد تسمی (الأوأمر الثانویه) تنبیها علی إنها وارده الحالات طارئه ثانویه علی المکلف و إذا أمتثلها المکلف أدی ما علیه فی هذا الحال و سقط عنه التکلیف بها. و لکن یقع البحث و التساؤل فیما لو ارتفعت تلک الحاله الاضطراریه الثانویه و رجع المکلف إلی حالته الأولی من التمکن من أداء ما کان علیه واجبا فی حاله الاعتبار فهل بجزئه ما کان قد أتی به فی حال الاضطرار، أو لا یجزئه، بل لا بد له من إعاده الفعل فی الوقت أداء إذا کان ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل و کنا قلنا بجواز البدار (1)، أو أعادته خارج الوقت قضاء إذا کان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت. إن هذا أمر یصح فیه الشک و التساؤل و إن کان المعروف بین الفقهاء فی فتاویهم القول بالإجزاء مطلقا أداء و قضاء. غیر إن إطباقهم علی القول بالإجزاء لیس مستندا إلی دعوی إن البدیهیه العقلیه تقضی به، لأنه هنا یمکن تصور عدم الإجزاء بلا محذور عقلی، أعنی یمکننا إن نتصور عدم الملازمه بین الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری و بین الإجزاء به عن الأمر الواقعی الاختیاری. توضیح ذلک: إنه لا إشکال فی إن المأتی به فی حال الاضطرار أنقص من المأمور به حال الاختیار و القول بالإجزاء فیه معناه کفایه الناقص عن الکأمل مع فرض حصول التمکن من أداء الکأمل فی الوقت أو خارجه. و لا شک فی

(هامش)

(1) لأنه إذا لم یجز البدار، فإن ابتدر فعمله باطل فکیف یجزئ و إن لم یبتدر فلا یبقی مجال لزوال العذر فی الوقت حتی یتصور الأداء.

ص 227

إن العقل لا یرق بأسا بالأمر بالفعل ثانیا بعد زوال الضروره، تحصیلا للکأمل الذی قد فات منه. بل قد یلزم العقل بذلک إذا کان فی الکأمل مصلحه ملزمه لا یفی بها الناقص و لا یسد مسد الکأمل فی تحصیلها. و المقصود الذی نرید إن نقوله بصریح العباره: (إن الإتیان بالناقص لیس بالنظره الأولی مما یقتضی عقلا الإجزاء عن الکأمل). فلا بد إن یکون ذهاب الفقهاء إلی الإجزاء لسر هناک: أما لوجود ملازمه بین الإتیان بالناقص و بین الإجزاء عن الکأمل و أما لغیر ذلک من الأسباب. فیجب إن نتبین ذلک، فنقول: هناک وجوه أربعه تصلح إن تکون کلها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء نذکرها کلها.

1 - إنه من المعلوم إن الأحکام الوارده فی حال الاضطرار وارده للتخفیف علی المکلفین و التوسعه علیهم فی تحصیل مصالح التکالیف الأصلیه الأولیه (یرید الله بکم الیسر و لا یرید بکم العسر). و لیس من شأن التخفیف و التوسعه إن یکلفهم ثانیا بالقضاء أو الأداء و إن کان الناقص لا یسد مسد الکأمل فی تحصیل مصلحته الملزمه.

2 - إن أکثر الأدله الوارده فی التکالیف الاضطراریه مطلقه مثل قوله تعالی (فلم تجدوا ماء فتیمموا صعیدا طیبا)، أی إن ظاهرها بمقتضی الإطلاق الاکتفاء بالتکلیف الثانی لحال الضروره و إن التکلیف منحصر فیه و لیس وراءه تکلیف آخر. فلو إن الأداء أو القضاء واجبان أیضا لوجب البیان و التنصیص علی ذلک. و إذ لم یبین ذلک علم إن الناقص یجزئ عن أداء الکأمل أداه و قضاء، لا سیما مع ورود مثل قوله (ع): (إن التراب یکفیک عشر سنین).

3 - إن القضاء بالخصوص إنما یجب فیما إذا صدق الفوت و یمکن إن یقال إنه لا یصدق الفوت فی المقام، لأن القضاء إنما یفرض فیما إذا کانت الضروره مستمره فی جمیع وقت الأداء. و علی هذا التقدیر لا أمر بالکأمل فی الوقت و إذا لم یکن أمر فقد یقال إنه لا یصدق بالنسبه إلیه فوت الفریضه، إذ لا فریضه. و أما الأداء فإنما یفرض فیما یجوز البدار به و قد ابتدر المکلف - حسب الفرض - إلی فعل الناقص فی الأزمنه الأولی من الوقت ثم زالت الضروره قبل

ص 228

انتهاء الوقت. و نفس الرخصه فی البدار - لو ثبتت - تشیر إلی مسأمحه الشارع فی تحصیل الکأمل عند التمکن و إلا لفرض علیه الانتظار تحصیلا للکأمل.

4 - إذا کنا قد شککنا فی وجوب الأداء و القضاء و المفروض إن و جوبهما لم ننفه بإطلاق و نحوه - فإن هذا شک فی أصل التکلیف. و فی مثله تجری أصاله البراءه القاضیه بعدم و جوبهما فهذه الوجوه الأربعه کلها أو بعضها أو نحوها هی سر حکم الفقهاء بالإجزاء قضاء و أداء. و القول بالإجزاء - علی هذا أمر لا مفر منه. و یتأکد ذلک فی الصلاه التی هی العمده فی الباب.

المقام الثانی - الأمر الظاهری

تمهید: للحکم الظاهری اصطلاحان: (أحدهما) ما تقدم فی أول الجزء الأول ص 6 و هو المقابل للحکم الواقعی و إن کان الواقعی مستفادا من الأدله الاجتهادیه الظنیه فیختص الظاهری بما ثبت بالأصول العملیه. و (ثانیهما) کل حکم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحکم الواقعی الثابت فی علم الله تعالی، فیشمل الحکم الثابت بالأمارات و الأصول معا. فیکون الحکم الظاهری بالمعنی الثانی اعم من الأول. و هذا المعنی الثانی العام هو المقصود هنا بالبحث، فالأمر الظاهری: ما تضمنه الأصل أو الأماره. ثم إنه لا شک فی إن الأمر الواقعی فی موردی الأصل و الأماره غیر منجز علی المکلف، بمعنی إنه لا عقاب علی مخالفته بسبب العمل بالأماره و الأصل لو اتفق مخالفتهما له، لأنه - من الواضح - إن کل تکلیف غیر و أصل إلی المکلف بعد الفحص و الیأس غیر منجز علیه، ضروره إن التکلیف إنما یتنجز بوصوله بأی نحو من إنحاء الوصول و لو بالعلم الإجمالی. هذا کله لا کلأم فیه و سیأتی فی مباحث الحجه تفصیل الحدیث عنه. و إنما الذی یحسن إن نبحث عنه هنا فی هذا الباب هو إن الأمر الواقعی المجهول لو انکشف فیه بعد ذلک خطأ الأماره أو الأصل و قد عمل المکلف

ص 229

- حسب الفرض - علی خلافه أتباعا للأماره الخاطئه أو الأصل المخالف للواقع، فهل یجب علی المکلف امتثال الأمر الواقعی فی الوقت أداء و فی خارج الوقت قضاء، أو إنه لا یجب شیء علیه بل یجزی ما أتی به علی طبق الأماره أو الأصل و یکتفی به؟ ثم إن العمل علی خلاف الواقع - کما سبق - تاره یکون بالأماره و أخری بالأصل. ثم الانکشاف علی نحوین: انکشاف علی نحو الیقین و انکشاف بمقتضی حجه معتبره. فهذه أربع صور. و لاختلاف البحث فی هذه الصور - مع اتفاق صورتین منها فی الحکم و هما صورتا الانکشاف بحجه معتبره مع العمل علی طبق الأماره و مع العمل بمقتضی الأصل - نعقد البحث فی ثلاث مسائل:

1 - الإجزاء فی الأماره مع انکشاف الخطأ یقینا

إن قیأم الأماره تاره یکون فی الأحکام، کقیأم الأماره علی وجوب صلاه الظهر یوم الجمعه حال الغیبه بدلا عن صلاه الجمعه و أخری فی الموضوعات، کقیأم البینه علی طهاره ثوب صلی به أو ماء توضأ منه، ثم بانت نجاسته. و المعروف عند الأمأمیه عدم الإجزاء مطلقا: فی الأحکام و الموضوعات، أما فی (الأحکام) فلأجل اتفاقهم علی مذهب التخطئه، أی إن المجتهد یخطئ و یصیب، لأن لله تعالی أحکام ثابته فی الواقع یشترک فیها العالم و الجاهل، أی إن الجاهل مکلف بها کالعالم، غایه الأمر إنها غیر منجزه بالفعل بالنسبه إلی الجاهل القاصر (1) حین جهله و إنما یکون معذورا فی المخالفه لو اتفقت له بأتباع الأماره، إذ لا تکون الأماره عندهم الا طریقا محضا لتحصیل الواقع.

(هامش)

(1) الجاهل القاصر من لم یتمکن من الفحص أو فحص فلم یعثر. و یقابله المقصر و هو بعکسه. و الأحکام منجزه بالنسبه إلی المقصر لحصول العلم الإجمالی بها عنده و العلم منجز للأحکام و إن کان أجمالیا فلا یکون معذورا. بل الاحتمال وحده بالنسبه إلیه یکون منجزا و سیأتی البحث عن ذلک فی (مباحث الحجه).

ص 230

ومع انکشاف الخطأ لا یبقی مجال للعذر، بل یتنجز الواقع حینئذ فی حقه من دون إن یکون قد جاء بشیء یسد مسده و یغنی عنه. و لا یصح القول بالإجزاء الا إذا قلنا: إنه بقیأم الأماره علی وجوب شیء تحدث فیه مصلحه ملزمه علی إن تکون هذه المصلحه وافیه بمصلحه الواقع یتدارک بها مصلحه الواجب الواقعی، فتکون الأماره مأخوذه علی نحو الموضوعیه للحکم. ضروره إنه مع هذا الفرض یکون ما أتی به علی طبق الأماره مجزیا عن الواقع لأنه قد أتی بما یسد مسده و یغنی عنه فی تحصیل مصلحه الواقع. و لکن هذا معناه التصویب المنسوب إلی المعتزله، أی إن أحکام الله تعالی لآراء المجتهدین و إن کانت له أحکام واقعیه ثابته فی نفسها، فإنه یکون - علیه - کل رأی أدی إلیه نظر المجتهد قد انشأ الله تعالی طبقه حکما من الأحکام. و التصویب بهذا المعنی قد اجتمعت الأمأمیه علی بطلانه و سیأتی البحث عنه فی (مباحث الحجه). و أما القول بالمصلحه السلوکیه - أی إن نفس متابعه الأماره فیه مصلحه ملزمه یتدارک بها ما فات من مصلحه الواقع و إن لم تحدث مصلحه فی نفس الفعل الذی أدت الأماره إلی و جوبه - فهذا قول لبعض الأمأمیه لتصحیح جعل الطرق و الأمارات فی فرض التمکن من تحصیل العلم، علی ما سیأتی بیانه فی محله إن شاء الله تعالی. ولکنه - علی تقدیر صحه هذا القول - لا یقتضی الإجزاء أیضا، لأنه علی فرضه تبقی مصلحه الواقع علی ما هی علیه عند انکشاف خطأ الأماره فی الوقت أو فی خارجه. توضیح ذلک: إن المصلحه السلوکیه المدعاه هی مصلحه تدارک الواقع باعتبار إن الشارع لما جعل الأماره فی حال تمکن المکلف من تحصیل العلم بالواقع فإنه قد فوت علیه الواقع فلا بد من فرض تدارکه بمصلحه تکون فی نفس أتباع الأماره و اللازم من المصلحه التی یتدارک بها الواقع إن تقدر بقدر ما فات من الواقع من مصلحه لا أکثر. و عند انکشاف الخطأ فی الوقت لم یفت من مصلحه الواقع الا مصلحه فضیله أول الوقت و عند انکشاف الخطأ فی خارج الوقت لم تفت الا مصلحه الوقت، أما مصلحه أصل الفعل فلم تفت من المکلف لا مکان تحصیلها بعد الانکشاف، فما هو الملزم للقول

ص 231

بحصول مصلحه یتدارک بها أصل مصلحه الفعل حتی یلزم الإجزاء؟ ! * * * و أما فی (الموضوعات) فالظاهر إن المعروف عندهم إن الأماره فیها قد أخذت علی نحو (الطریقه)، کقاعده الید و الصحه و سوق المسلمین و نحوها فإن أصابت الواقع فذاک و إن أخطأت فالواقع علی حاله و لا تحدث بسببها مصلحه یتدارک بها مصلحه الواقع غایه الأمر إن المکلف معها معذور عند الخطأ و شأنها فی ذلک شأن الأماره فی الأحکام. و السر فی حملها علی (الطریقیه) هو إن الدلیل الذی دل علی حجیه الأماره فی الأحکام هو نفسه دل علی حجیتها فی الموضوعات بلسان واحد فی الجمیع، لا إن القول بالموضوعیه هنا یقتضی محذور التصویب المجمع علی بطلانه عند الأمأمیه کالأماره فی الأحکام. و علیه فالأماره فی الموضوعات أیضا لا تقتضی الإجزاء بلا فرق بینها و بین الأماره فی الأحکام.

2 - الإجزاء فی الأصول مع انکشاف الخطأ یقینا:

لا شک فی إن العمل بالأصل إنما یصح إذا فقد المکلف الدلیل الاجتهادی علی الحکم. فیرجع إلیه باعتباره وظیفه للجاهل لا بد منها للخروج من الحیره. فالأصل - فی حقیقته - وظیفه للجاهل الشاک ینتهی إلیه فی مقام العلم إذ لا سبیل له غیر ذلک لرفع الحیره و علاج حاله الشک. ثم إن الأصل علی قسمین:

1 - أصل عقلی و المراد منه ما یحکم به العقل و لا یتضمن جعل حکم ظاهری من الشارع، کالاحتیاط و قاعده التخییر و البراءه العقلیه التی مرجعها إلی حکم العقل بنفی العقاب بلا بیان، فهی لا مضمون لها الا رفع العقاب، لا جعل حکم بالإباحه من الشارع.

2 - أصل شرعی و هو المجعول من الشارع فی مقام الشک و الحیره

ص 232

فیتضمن جعل حکم ظاهری، کالاستصحاب و البراءه الشرعیه التی مرجعها إلی حکم الشارع بالإباحه و مثلها أصاله الطهاره و الحلیه. إذا عرفت ذلک فنقول: أولا - إن بحث الإجزاء لا یتصور فی قاعده الاحتیاط مطلقا سواء کانت عقلیه أو شرعیه، لأن المفروض فی الاحتیاط هو العمل بما یحقق امتثال التکلیف الواقعی فلا یتصور فیه تفویت المصلحه. و ثانیا - کذلک لا یتصور بحث الإجزاء فی الأصول العقلیه الأخری کالبراءه و قاعده التخییر، لأنها - حسب الفرض لا تتضمن حکما ظاهریا، حتی یتصور فیها الإجزاء و الاکتفاء بالمأتی به عن الواقع، بل إن مضمونها هو سقوط العقاب و المعذوریه المجرده. و علیه فینحصر البحث فی خصوص الأصول الشرعیه عدا الاحتیاط، کالاستصحاب و أصاله البراءه و الحلیه و أصاله الطهاره. و هی لأول وهله لا مجال لتوهم الإجزاء فیها لا فی الأحکام و لا فی الموضوعات، فإنها أولی من الأمارات فی عدم الإجزاء، باعتبار إنها - کما ذکرنا فی صدر البحث - وظیفه عملیه یرجع إلیها الجاهل الشاک لرفع الحیره فی مقام العمل و العلاج الوقتی. أما الواقع فهو علی واقعیته، فیتنجز حین العلم به و انکشافه و لا مصلحه فی العمل بالأصل غیر رفع الحیره عند الشک. فلا یتصور فیه مصلحه وافیه یتدارک بها مصلحه الواقع حتی یقتضی الإجزاء و الاکتفاء به عن الواقع. و لذا أفتی علماؤنا المتقدمون بعدم الإجزاء فی الأصول العملیه. و مع هذا، فقد قال قوم من المتأخرین بالإجزاء منهم شیخنا صاحب الکفایه و تبعه تلمیذه أستاذنا الشیخ محمد حسین الإصفهانی. و لکن ذلک فی خصوص الأصول الجاریه لتنقیح موضوع التکلیف و تحقیق متعلقه. کقاعده الطهاره و أصاله الحلیه و استصحابها دون الأصول الجاریه فی نفس الأحکام. و منشأ هذا الرأی عنده اعتقاده بأن دلیل الأصل فی موضوعات الأحکام موسع لدائره الشرط أو الجزء المعتبر فی موضوع التکلیف و متعلقه بأن یکون مثل قوله علیه السلأم: (کل شیء نظیف حتی تعلم إنه قذر) یدل علی إن کل شیء

ص 233

قبل العلم بنجاسته محکوم بالطهاره. و الحکم بالطهاره حکم بترتیب آثارها و إنشاء لأحکامها التکلیفیه و الوضعیه التی منها الشرطیه فتصح الصلاه بمشکوک الطهاره کما تصح بالطاهر الواقعی. و یلزم من ذلک إن یکون الشرط فی الصلاه - حقیقه - أعم من الطهاره الواقعیه و الطهاره الظاهریه. و إذا کان الأمر کذلک فإذا انکشف الخلاف لا یکون ذلک موجبا لانکشاف فقدان العمل لشرطه، بل یکون بالنسبه إلیه من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الجهل. فلا یتصور حینئذ معنی لعدم الإجزاء بالنسبه إلی ما أتی به حین الشک. و المفروض إن ما أتی به یکون واجدا لشرطه المعتبر فیه تحقیقا، باعتبار إن الشرط هو الأعم من الطهاره الواقعیه و الظاهریه حین الجهل، فلا یکون فیه انکشاف للخلاف و لا فقدان للشرط. و قد ناقشه شیخنا المیرزا النائینی بعده مناقشات یطول ذکرها و لا یسعها هذا المختصر و الموضوع من المباحث الدقیقه التی هی فوق مستوی کتابنا.

3 - الإجزاء فی الأمارات و الأصول مع انکشاف الخطأ بحجه معتبره:

وهذه أهم مسأله فی الإجزاء من جهه عموم البلوی بها للمکلفین، فإن المجتهدین کثیرا ما یحصل لهم تبدل فی الرأی بما یوجب فساد أعمالهم السابقه ظاهرا. و یتبعهم المقلدون لهم. و المقلدون أیضا قد ینتقلون من تقلید شخص إلی تقلید شخص آخر یخالف الأول فی الرأی بما یوجب فساد الأعمال السابقه. فنقول فی هذه الأحوال: إنه بعد قیأم الحجه المعتبره اللاحقه بالنسبه إلی المجتهد أو المقلد، لا إشکال فی وجوب الأخذ بها فی الوقائع اللاحقه غیر المرتبطه بالوقائع السابقه. و لا إشکال - أیضا - فی مضی الوقائع السابقه التی لا یترتب علیها أثر أصلا فی الزمن اللاحق. و إنما الإشکال فی الوقائع اللاحقه المرتبطه بالوقائع السابقه، مثل ما لو انکشف الخطأ اجتهادا أو تقلیدا فی وقت العباده و قد عمل بمتقضی الحجه

ص 234

السابقه، أو انکشف الخطأ فی خارج الوقت و کان عمله مما یقضی کالصلاه. و مثل ما لو تزوج زوجه بعقد غیر عربی اجتهادا أو تقلیدا ثم قأمت الحجه عنده علی اعتبار اللفظ العربی و الزوجه لا تزال موجوده. فإن المعروف فی الموضوعات الخارجیه عدم الإجزاء. أما فی الأحکام فقد قیل بقیأم الإجماع علی الإجزاء لا سیما فی الأمور العبادیه کالمثال الأول المتقدم. و لکن العمده فی الباب إن نبحث عن القاعده ماذا تقتضی هنا؟ هل تقتضی الإجزاء أو لا تقتضیه؟ و الظاهر إنها لا تقتضی الإجزاء. و خلاصه ما ینبغی إن یقال:

إن من یدعی الإجزاء لا بد إن یدعی إن المکلف لا یلزمه فی الزمان اللاحق الا العمل علی طبق الحجه الأخیره التی قأمت عنده. و أما عمله السابق فقد کان علی طبق حجه ماضیه علیه فی حینها. و لکن یقال له، إن التبدل الذی حصل له، أما إن یدعی إنه تبدل فی الحکم الواقعی أو تبدل فی الحجه علیه. و لا ثالث لهما. أما دعوی التبدل فی الحکم الواقعی فلا إشکال فی بطلانها، لأنها تستلزم القول بالتصویب. و هو ظاهر. و أما دعوی التبدل فی الحجه، فإن أراد إن الحجه الأولی هی حجه بالنسبه إلی الأعمال السابقه و بالنظر إلی وقتها فقط فهذا لا ینفع فی الإجزاء بالنسبه إلی الأعمال اللاحقه و آثار الأعمال السابقه و إن أراد إن الحجه الأولی هی حجه مطلقا حتی بالنسبه إلی الأعمال اللاحقه و آثار الأعمال السابقه فالدعوی باطله قطعا. لأنه فی تبدل الاجتهاد ینکشف بحجه معتبره إن المدرک السابق لم یکن حجه مطلقا حتی بالنسبه إلی أعماله اللاحقه، أو إنه تخیله حجه و هو لیس بحجه. لا إن المدرک الأول حجه مطلقا و هذا الثانی حجه أخری. و کذلک الکلام فی تبدل التقلید، فإن مقتضی التقلید الثانی هو انکشاف بطلان الأعمال الواقعه علی طبق التقلید الأول، فلا بد من ترتیب الأثر علی طبق الحجه الفعلیه فإن الحجه السابقه - أی التقلید الأول - کلا حجه بالنسبه إلی الآثار اللاحقه و إن کانت حجه علیه فی وقته و المفروض عدم التبدل فی

ص 235

الحکم الواقعی فهو باق علی حاله. فیجب العمل علی طبق الحجه الفعلیه و ما تقتضیه. فلا إجزاء الا إذا ثبت الإجماع علیه. و تفصیل الکلام فی هذا الموضوع یحتاج إلی سعه من القول فوق مستوی هذا المختصر.

تنبیه فی تبدل القطع

لو قطع المکلف بأمر خطأ فعمل علی طبق قطعه ثم بأن له یقینا خطأه، فإنه لا ینبغی الشک فی عدم الإجزاء. و السر واضح، لأنه عند القطع الأول لم یفعل ما استوفی مصلحه الواقع بأی وجه من وجوه الاستیفاء، فکیف یسقط التکلیف الواقعی، لأنه فی الحقیقه لا أمر موجه إلیه إنما کان یتخیل الأمر. و علیه، فیجب امتثال الواقع فی الوقت أداء و فی خارجه قضاء. نعم لو إن العمل الذی قطع بوجوبه کان من باب الاتفاق محققا لمصلحه الواقع فإنه لا بد إن یکون مجزیا. و لکن هذا أمر آخر اتفاقی لیس من جهه کونه مقطوع الوجوب

المسأله الثانیه: مقدمه الواجب
المدخل

المسأله الثانیه: مقدمه الواجب

تحریر النزاع:

کل عاقل یجد من نفسه إنه إذا وجب علیه شیء و کان حصوله یتوقف علی مقدمات، فإنه لا بد له من تحصیل تلک المقدمات لیتوصل إلی فعل ذلک الشیء بها. و هذا الأمر بهذا المقدار لیس موضعا للشک و النزاع و إنما الذی وقع موضعا للشک و جری فیه النزاع عند الأصولیین هو إن هذه الابدیه العقلیه للمقدمه التی لا یتم الواجب الا بها هل یستکشف منها اللابدیه شرعا أیضا؟

ص 236

یعنی إن الواجب هل یلزم عقلا من و جوبه الشرعی وجوب مقدمته شرعا؟ أو فقل علی نحو العموم: کل فعل واجب عند مولی من الموالی هل یلزم منه عقلا وجوب مقدمته أیضا عند ذلک المولی. و بعباره رابعه أکثر وضوحا: إن العقل - لا شک - یحکم بوجوب مقدمه الواجب (أی یدرک لزومها) و لکن هل یحکم أیضا بأنها واجبه أیضا عند من أمر بما یتوقف علیها؟ و علی هذا البیان، فالملازمه بین حکم العقل و حکم الشرع هی موضع البحث فی هذه المسأله.

مقدمه الواجب من أی قسم من المباحث الأصولیه؟

وإذا اتضح ما تقدم فی تحریر النزاع نستطیع إن نفهم إنه فی أی قسم من أقسأم المباحث الأصولیه ینبغی إن تدخل هذه المسأله. و توضیح ذلک: إن هذه الملازمه - علی تقدیر القول بها - تکون علی إنحاء ثلاثه: أما ملازمه غیر بینه. أو بینه بالمعنی الأعم، أو بینه بالمعنی الأخص (1). فإن کانت هذه الملازمه - فی نظر القائل بها - غیر بینه أو بینه بالمعنی الأعم، فإثبات اللازم و هو وجوب المقدمه شرعا لا یرجع إلی دلاله اللفظ أبدا بل إثباته إنما یتوقف علی حجیه هذا الحکم العقلی بالملازمه و إذا تحققت هناک دلاله فهی من نوع دلاله الإشاره (2). و علی هذا فیجب إن تدخل المسأله فی بحث الملازمات العقلیه غیر المستقله و لا یصح إدراجها فی مباحث الألفاظ.

(هامش)

(1) راجع عن معنی الملازمه و أقسأمها الثلاثه الجزء الأول من المنطق للمؤلف ص 79 الطبعه الثانیه. (2) راجع دلاله الإشاره الجزء الأول ص 135، فإنه ذکرنا هناک إن دلاله الإشاره لیست من الظواهر فلا تدخل فی حجیه الظهور و إنما حجیتها - علی تقدیره - من باب الملازمه العقلیه.

ص 237

وإن کانت هذه الملازمه - فی نظر القائل بها - ملازمه بینه بالمعنی الأخص، فإثبات اللازم یکون لا محاله بالدلاله اللفظیه و هی الدلاله الإلتزامیه خاصه. و الدلاله الإلتزامیه من الظواهر التی هی حجه. و لعله لأجل هذا أدخلوا هذه المسأله فی مباحث الألفاظ و جعلوها من مباحث الأوأمر بالخصوص. و هم علی حق فی ذلک إذا کان القائل بالملازمه لا یقول بها الا لکونها ملازمه بینه بالمعنی الأخص و لکن الأمر لیس کذلک. أذن، یمکننا إن نقول: إن هذه المسأله ذات جهتین باختلاف الأقوال فیها: یمکن إن تدخل فی مباحث الألفاظ علی بعض الأقوال و یمکن إن تدخل فی الملازمات العقلیه علی البعض الآخر. و لکن لأجل الجمع بین الجهتین ناسب إدخالها فی الملازمات العقلیه - کما صنعنا - لأن البحث فیها علی کل حال فی ثبوت الملازمه، غایه الأمر إنه علی أحد الأقوال تدخل صغری لحجیه الظهور کما تدخل صغری لحجیه العقل. و علی القول الآخر تتمحض فی الدخول صغری لحجیه العقل. و الجأمع بینهما هو جعلها صغری لحجیه العقل.

ثمره النزاع:

إن ثمره النزاع المتصوره - أولا و بالذات - لهذه المسأله هی استنتاج وجوب المقدمه شرعا بالإضافه إلی و جوبها العقلی الثابت. و هذا المقدار کاف فی ثمره المسأله الأصولیه، لأن المقصود من علم الأصول هو الاستعانه بمسائله علی استنباط الأحکام من أدلتها. و لکن هذه ثمره غیر عملیه، باعتبار إن المقدمه بعد فرض و جوبها العقلی و لا بدیه الإتیان بها لا فائده فی القول بوجوبها شرعا أو بعدم و جوبها، إذ لا مجال للمکلف إن یترکها بحال ما دام هو بصدد امتثال ذی المقدمه. و علیه، فالبحث عن هذه المسأله لا یکون بحثا عملیا مفیدا، بل یبدو لأول وهله إنه لغو من القول لا طائل تحته، مع إن هذه المسأله من أشهر مسائل هذا العلم و أدقها و أکثرها بحثا.

ص 238

ومن أجل هذا أخذ بعض الأصولیین المتأخرین یفتشون عن فوائد عملیه لهذا البحث غیر ثمره أصل الوجوب. و فی الحقیقه إن کل ما ذکروه من ثمرات لا تسمن و لا تغنی من جوع. (راجع عنها المطولات إن شئت). فیا تری هل کان البحث عنها کله لغوا؟ و هل من الأصح إن نترک البحث عنها؟ - نقول: لا! إن للمسأله فوائد علمیه کثیره إن لم تکن لها فوائد عملیه و لا یستهان بتلک الفوائد کما ستری، ثم هی ترتبط، بکثیر من المسائل ذات الشأن العملی فی الفقه، کالبحث عن الشرط المتأخر و المقدمات المفوته و عبادیه بعض المقدمات کالطهارات الثلاث مما لا یسع الأصولی إن یتجاهلها و یغفلها. و هذا کله لیس بالشیء القلیل و إن لم تکن هی من المسائل الأصولیه. و لذا تجد إن أهم مباحث مسألتنا هی هذه الأمور المنوه عنها و أمثالها. أما نفس البحث عن أصل الملازمه فیکاد یکون بحثا علی الهامش، بل آخر ما یشغل بال الأصولیین. هذا و نحن أتباعا لطریقتهم نضع التمهیدات قبل البحث عن أصل المسأله فی أمور تسعه:

1 - الواجب النفسی و الغیری

1 - الواجب النفسی و الغیری

تقدم فی المجلد الأول ص 72 معنی الواجب النفسی و الغیری و یجب توضیحهما الآن فإنه هنا موضع الحاجه لبحثهما، لأن الوجوب الغیری هو نفس وجوب المقدمه - علی تقدیر القول بوجوبها - و علیه، فنقول فی تعریفهما: (الواجب النفسی): ما وجب لنفسه، لا لواجب آخر. (الواجب الغیری): ما وجب. . لواجب آخر. و هذان التعریفان أسد التعریفات لهما و أحسنها و لکن یحتاجان إلی بعض من التوضیح: فإن قولنا: (ما وجب لنفسه) قد یتوهم منه المتوهم لأول نظره إن العباره

ص 239

تعطی إن معناها إن یکون وجوب الشیء عله لنفسه فی الواجب النفسی و ذلک بمقتضی المقابله لتعریف الواجب الغیری، إذ یستفاد منه إن وجوب الغیر عله لوجوبه کما علیه المشهور. و لا شک فی إن هذا محال فی الواجب النفسی، إذ کیف یکون الشیء عله لنفسه؟ و یندفع هذا التوهم بأدنی تأمل، فإن ذلک التعبیر عن الواجب النفسی صحیح لا غبار علیه و هو نظیر تعبیرهم عن الله تعالی بأنه (واجب الوجود لذاته)، فإن غرضهم منه إن وجوده لیس مستفادا من الغیر و لا لأجل الغیر کالممکن، لا إن معناه إنه معلول لذاته. و کذلک هنا نقول فی الواجب النفسی فإن معنی (ما وجب لنفسه) إن و جوبه غیر مستفاد من الغیر و لا لأجل الغیر فی قبال الواجب الغیری الذی و جوبه لأجل الغیر، لا إن و جوبه مستفاد من نفسه. و بهذا یتضح معنی تعریف الواجب الغیری (ما وجب لواجب آخر) فإن معناه إن و جوبه لأجل الغیر و تابع للغیر، لکونه مقدمه لذلک الغیر الواجب. و سیأتی فی البحث الآتی توضیح معنی التبعیه هذه لیتجلی لنا المقصود من الوجوب الغیری فی الباب.

2 - معنی التبعیه فی الوجوب الغیری

2 - معنی التبعیه فی الوجوب الغیری

قد شاع فی تعبیراتهم کثیرا قولهم: (إن الواجب الغیری تابع فی و جوبه لوجوب غیره) و لکن هذا التعبیر مجمل جدا، لأن التبعیه فی الوجوب یمکن إن تتصور لها معانی أربعه، فلا بد من بیانها و بیان المعنی المقصود منها هنا، فنقول:

1 - إن یکون معنی الوجوب التبعی هو الوجوب بالعرض. و معنی ذلک إنه لیس فی الواقع الا وجوب واحد حقیقی - و هو الوجوب النفسی - ینسب إلی ذی المقدمه أولا و بالذات و الی المقدمه ثانیا و بالعرض. و ذلک نظیر الوجود بالنسبه إلی اللفظ و المعنی حینما یقال:

المعنی موجود باللفظ، فإن المقصود بذلک إن هناک وجودا واحدا حقیقیا ینسب إلی اللفظ أولا و بالذات و الی المعنی ثانیا و بالعرض. و لکن هذا الوجه من التبعیه لا ینبغی إن یکون هو المقصود من التبعیه هنا، لأن المقصود من الوجوب الغیری وجوب حقیقی آخر یثبت للمقدمه غیر

ص 240

وجوب ذیها النفسی، بأن یکون لکل من المقدمه وذیها وجوب قائم به حقیقه. و معنی التبعیه فی هذا الوجه إن الوجوب الحقیقی واحد و یکون الوجوب الثانی و جوبا مجازیا. علی إن هذا الوجوب بالعرض لیس و جوبا یزید علی اللابدیه العقلیه للمقدمه حتی یمکن فرض النزاع فیه نزاعا عملیا.

2 - إن یکون معنی التبعیه صرف التأخر فی الوجود، فیکون ترتب الوجوب الغیری علی الوجوب النفسی نظیر ترتب أحد الوجودین المستقلین علی الآخر، بأن یفرض البعث الموجه للمقدمه بعثا مستقلا ولکنه بعد البعث نحو ذیها مرتب علیه فی الوجود، فیکون من قبیل الأمر بالحج المرتب وجودا علی حصول الاستطاعه و من قبیل الأمر بالصلاه بعد حصول البلوغ أو دخول الوقت. و لکن هذا الوجه من التبعیه أیضا لا ینبغی إن یکون هو المقصود هنا، فإنه لو کان ذلک هو المقصود لکان هذا الوجوب للمقدمه - فی الحقیقه - و جوبا نفسیا آخر فی مقابل وجوب ذی المقدمه و إنما یکون وجوب ذی المقدمه له السبق فی الوجود فقط. و هذا ینافی حقیقه المقدمیه فإنها لا تکون الا موصله إلی ذی المقدمه فی و جوبها معا.

3 - إن یکون معنی التبعیه ترشح الوجوب الغیری من الوجوب النفسی لذی المقدمه علی وجه یکون معلولا له و منبعثا منه انبعاث الأثر من مؤثره التکوینی کانبعاث الحراره من النار. و کان هذا الوجه من التبعیه هو المقصود للقوم و لذا قالوا بأن وجوب المقدمه تابع لوجوب ذیها إطلاقا و اشتراطا لمکان هذه المعلولیه، لأن المعلول لا یتحقق الا حیث تتحقق علته و إذا تحققت العله لا بد من تحققه بصوره لا یتخلف عنها. و أیضا عللوا امتناع وجوب المقدمه قبل وجوب ذیها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علته. و لکن هذا الوجه لا ینبغی إن یکون هو المقصود من تبعیه الوجوب الغیری و إن اشتهر علی الالسنه، لأن الوجوب النفسی لو کان عله للوجوب الغیری فلا یصح فرضه الا عله فاعلیه تکوینیه دون غیرها من العلل فإنه لا معنی لفرضه عله صوریه أو مادیه أو غائیه. و لکن فرضه عله فاعلیه أیضا باطل جزما، لوضوح إن العله الفاعلیه الحقیقیه للوجوب هو الأمر، لأن الأمر فعل الأمر. و الظاهر إن السبب فی اشتهار معلولیه الوجوب الغیری هو إن شوق الأمر

ص 241

للمقدمه هو الذی یکون منبعثا من الشوق إلی ذی المقدمه، لأن الإنسان إذا اشتاق إلی فعل شیء اشتاق بالتبع إلی فعل کل ما یتوقف علیه. و لکن الشوق إلی فعل الشیء من الغیر لیس هو الوجوب و إنما الشوق إلی فعل الغیر یدفع الأمر إلی الأمر به إذا لم یحصل ما یمنع من الأمر به فإذا صدر منه الأمر و هو أهل له أنتزع منه الوجوب. و الحاصل لیس الوجوب الغیری معلولا للوجوب النفسی فی ذی المقدمه و لا ینتهی إلیه فی سلسله العلل و إنما ینتهی الوجوب الغیری فی سلسله علله إلی الشوق إلی ذی المقدمه إذا لم یکن هناک مانع لدی الأمر من الأمر بالمقدمه، لأن الشوق - علی کل حال - لیس عله تأمه إلی فعل ما یشتاق إلیه. فتذکر هذا فإنه سینفعک فی وجوب المقدمه المفوته و فی أصل وجوب المقدمه، فإنه بهذا البیان سیتضح کیف یمکن فرض وجوب المقدمه المفوته قبل وجوب ذیها و بهذا البیان سیتضح أیضا کیف إن المقدمه مطلقا لیست واجبه بالوجوب المولوی.

4 - إن یکون معنی التبعیه هو ترشح الوجوب الغیری من الوجوب النفسی و لکن لا بمعنی إنه معلول له، بل بمعنی إن الباعث للوجوب الغیری - علی تقدیر القول به - هو الواجب النفسی باعتبار إن الأمر بالمقدمه و البعث نحوها إنما هو لغایه التوصل إلی ذیها الواجب و تحصیله، فیکون و جوبها وصله و طریقا إلی تحصیل ذیها و لولا إن ذیها کان مرادا للمولی لما أوجب المقدمه. و یشیر إلی هذا المعنی من التبعیه تعریفهم للواجب الغیری بأنه (ما وجب لواجب آخر)، أی لغایه واجب آخر و لغرض تحصیله و التوصل إلیه، فیکون الغرض من وجوب المقدمه علی تقدیر القول به هو تحصیل ذیها الواجب. و هذا المعنی هو الذی ینبغی إن یکون معنی التبعیه المقصوده فی الوجوب الغیری. و یلزمها إن یکون الوجوب الغیری تابعا لوجوبها إطلاقا و اشتراطا. و علیه، فالوجوب الغیری وجوب حقیقی ولکنه وجوب تبعی توصلی آلی و شأن وجوب المقدمه شأن نفس المقدمه. فکما إن المقدمه بما هی مقدمه لا یقصد فاعلها الا التوصل إلی ذیها کذلک و جوبها إنما هو للتوصل إلی تحصیل ذیها، کالآله الموصله التی لا تقصد بالأصاله و الاستقلال. و سر هذا واضح، فإن المولی - بناء علی القول بوجوب المقدمه - إذا أمر بذی المقدمه فإنه لابد له لغرض تحصیله من المکلف إن یدفعه و یبعثه نحو

ص 242

مقدماته فیأمره بها توصلا إلی غرضه. فیکون البعث نحو المقدمه - علی هذا - بعثا حقیقیا، لا إنه یتبع البعث إلی ذیها علی وجه ینسب إلیها بالعرض کما فی (الوجه الأول) و لا إنه یبعثه مستقل لنفس المقدمه و لغرض فیها بعد البعث نحو ذیها کما فی (الوجه الثانی) و لا إن البعث نحو المقدمه من آثار البعث نحو ذیها علی وجه یکون معلولا له کما فی (الوجه الثالث). و سیأتی تتمه للبحث فی المقدمات المفوته.

3 - خصائص الوجوب الغیری

3 - خصائص الوجوب الغیری

بعد ما اتضح معنی التبعیه فی الوجوب الغیری تتضح لنا خصائصه التی بها یمتاز عن الوجوب النفسی و هی أمور:

1 - إن الواجب الغیری کما لا بعث استقلالی له - کما تقدم - لا إطاعه استقلالیه له و إنما أطاعته کوجوبه لغرض التوصل إلی ذی المقدمه، بخلاف الواجب النفسی فإنه واجب لنفسه و یطاع لنفسه.

2 - إنه بعد إن قلنا إنه لا إطاعه استقلالیه للوجوب الغیری و إنما أطاعته کوجوبه لصرف التوصل إلی ذی المقدمه فلا بد ألا یکون له ثواب علی أطاعته (1) غیر الثواب الذی یحصل علی إطاعه وجوب ذی المقدمه، کما لا عقاب علی عصیانه غیر العقاب علی عصیان وجوب ذی المقدمه. و لذا نجد إن من ترک الواجب بترک مقدماته لا یستحق أکثر من عقاب واحد علی نفس الواجب النفسی، لا إنه یستحق عقابات متعدده بعدد مقدماته المتروکه. و أما ما ورد فی الشریعه من الثواب علی بعض المقدمات مثل ما ورد من الثواب علی المشی علی القدم إلی الحج أو زیاره الحسین علیه السلأم و إنه فی کل خطوه کذا من الثواب فینبغی - علی هذا - إن یحمل علی توزیع ثواب

(هامش)

(1) یری السید الجلیل المحقق الخوئی إن المقدمه أمر قابل لأن یأتی به الفاعل مضافا به إلی المولی، فیترتب علی فعلها الثواب إذا أتی بها کذلک. و لا ملازمه عنده بین ترتب الثواب علی عمل و عدم استحقاق العقاب علی ترکه و لا یفرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدمه و عدمه. و هو رأی وجیه باعتبار إن فعل المقدمه یعد مشروعا فی امتثال ذیها. (*)

ص 243

نفس العمل علی مقدماته باعتبار إن أفضل الأعمال أحمزها و کلما کثرت مقدمات العمل و زادت صعوبتها کثرت حمازه العمل و مشقته، فینسب الثواب إلی المقدمه مجازا ثانیا و بالعرض، باعتبار إنها السبب فی زیاده مقدار الحمازه و المشقه فی نفس العمل، فتکون السبب فی زیاده الثواب، لا إن الثواب علی نفس المقدمه. و من أجل إنه لا ثواب علی المقدمه استشکلوا فی استحقاق الثواب علی فعل بعض المقدمات کالطهارات الثلاث الظاهر منه إن الثواب علی نفس المقدمه بما هی. و سیأتی حله إن شاء الله تعالی.

3 - إن الوجوب الغیری لا یکون الا توصلیا، أی لا یکون فی حقیقته عبادیا و لا یقتضی فی نفسه عبادیه المقدمه إذ لا یتحقق فیه قصد الامتثال علی نحو الاستقلال کما قلنا فی الخاصه الأولی إنه لا إطاعه استقلالیه له، بل إنما یؤتی بالمقدمه بقصد التوصل إلی ذیها و إطاعه أمر ذیها فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذیها. و من هنا استشکلوا فی عبادیه بعض المقدمات کالطهارات الثلاث. و سیأتی حله إن شاء الله تعالی.

4 - إن الوجوب الغیری تابع لوجوب ذی المقدمه إطلاقا و اشتراطا و فعلیه و قوه، قضاء لحق التبعیه، کما تقدم. و معنی ذلک إنه کل ما هو شرط فی وجوب ذی المقدمه فهو شرط فی وجوب المقدمه و ما لیس بشرط لا یکون شرطا لوجوبها، کما إنه کلما تحقق وجوب ذی المقدمه تحقق معه وجوب المقدمه. و علی هذا قیل یستحیل تحقق وجوب فعلی للمقدمه قبل تحقق وجوب ذیها لاستحاله حصول التابع قبل حصول متبوعه، أو لاستحاله حصول المعلول قبل حصول علته بناء علی إن وجوب المقدمه معلول لوجوب ذیها. و من هنا استشکلوا فی وجوب المقدمه قبل زمان ذیها فی المقدمات المفوته کوجوب الغسل - مثلا - قبل الفجر لإدراک الصوم علی طهاره حین طلوع الفجر، فعدم تحصیل الغسل قبل الفجر یکون مفوتا للواجب فی وقته و لهذا سمیت مقدمه مفوته باعتبار إن ترکها قبل الوقت یکون مفوتا للواجب فی وقته فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع إن الصوم لا یجب قبل وقته فکیف تفرض فعلیه وجوب مقدمته؟ و سیأتی إن شاء الله تعالی حل هذا الإشکال فی بحث المقدمات المفوته.

ص 244

4 - مقدمه الوجوب

4 - مقدمه الوجوب

قسموا المقدمه إلی قسمین مشهورین:

1 - (مقدمه الواجب) و تسمی المقدمه الوجوبیه. و هی ما یتوقف علیها نفس الوجوب، بأن تکون شرطا للوجوب علی قول مشهور. و قیل إنها تؤخذ فی الواجب علی وجه تکون مفروضه التحقق و الوجود علی قول آخر و مع ذلک تسمی مقدمه الوجوب. و مثالها الاستطاعه بالنسبه إلی الحج و کالبلوغ و العقل و القدره بالنسبه إلی جمیع الواجبات. و یسمی الواجب بالنسبه إلیها (الواجب المشروط).

2 - (مقدمه الواجب) و تسمی المقدمه الوجودیه. و هی ما یتوقف علیها وجود الواجب بعد فرض عدم تقیید الوجوب بها، بل یکون الوجوب بالنسبه إلیها مطلقا و لا تؤخذ بالنسبه إلیه مفروضه الوجود، بل لا بد من تحصیلها مقدمه لتحصیله کالوضوء بالنسبه إلی الصلاه و السفر بالنسبه إلی الحج و نحو ذلک. و یسمی الواجب بالنسبه إلیها (الواجب المطلق). (راجع عن الواجب المشروط و المطلق المجلد الأول ص 81). و المقصود من ذکر هذا التقسیم بیان إن محل النزاع فی مقدمه الواجب هو خصوص القسم الثانی أعنی المقدمه الوجودیه، دون المقدمه الوجوبیه. و السر واضح لأنه إذا کانت المقدمه الوجودیه مأخوذه علی إنها مفروضه الحصول فلا معنی لوجوب تحصیلها، فإنه خلف، فلا یجب تحصیل الاستطاعه لأجل الحج، بل إن انفق حصول الاستطاعه وجب الحج عندها. و ذلک نظیر الفوت فی قوله علیه السلأم: (اقض ما فات)، فإنه لا یجب تحصیله لأجل امتثال الأمر بالقضاء، بل إن اتفق الفوت وجب القضاء.

5 - المقدمه الداخلیه

5 - المقدمه الداخلیه

تنقسم المقدمه الوجودیه إلی قسمین: داخلیه و خارجیه.

1 - (المقدمه الداخلیه): هی جزء الواجب المرکب، کالصلاه. و إنما اعتبروا الجزء مقدمه فباعتبار إن المرکب متوقف فی وجوده علی أجزائه فکل جزء فی نفسه هو مقدمه لوجود المرکب، کتقدم الواحد علی الاثنین. و إنما

ص 245

سمیت (داخلیه) فلأجل إن الجزء داخل فی قوأم المرکب و لیس للمرکب وجود مستقل غیر نفس وجود الإجزاء.

2 - (المقدمه الخارجیه): و هی کل ما یتوقف علیه الواجب و له وجود مستقل خارج عن و جود الواجب. و الغرض من ذکر هذا التقسیم هو بیان إن النزاع فی مقدمه الواجب هل یشمل المقدمه الداخلیه أو إن ذلک یختص بالخارجیه؟ و لقد أنکر جماعه شمول النزاع للداخلیه. و سندهم فی هذا الإنکار أحد أمرین:

(الأول) إنکار المقدمیه للجزء رأسا، باعتبار إن المرکب نفس الإجزاء بالأسر فکیف یفرض توقف الشیء علی نفسه.

(الثانی) بعد تسلیم إن الجزء مقدمه و لکن یستحیل اتصافه بالوجوب الغیری ما دام إنه واجب بالوجوب النفسی، لأن المفروض إنه جزء الواجب بالوجوب النفسی و لیس المرکب الا إجزاءه بالأسر، فینبسط الواجب علی الإجزاء. و حینئذ لو وجب الجزء بالوجوب الغیری أیضا لاتصف الجزء بالوجوبین. و قد اختلفوا فی بیان وجه استحاله اجتماع الوجوبین و لا یهمنا بیان الوجه فیه بعد الاتفاق علی الاستحاله. و لما کان هذا البحث لا نتوقع منه فائده عملیه حتی مع فرض الفائده العملیه فی مسأله وجوب المقدمه، مع إنه بحث دقیق یطول الکلام حوله فنحن نطوی عنه صفحا محیلین الطالب إلی المطولات إن شاء.

6 - الشرط الشرعی

6 - الشرط الشرعی

إن المقدمه الخارجیه تنقسم إلی قسمین: عقلیه و شرعیه.

1 - (المقدمه العقلیه): هی کل أمر یتوقف علیه وجود الواجب توقفا واقعیا یدرکه العقل بنفسه من دون استعانه بالشرع، کتوقف الحج علی قطع المسافه.

2 - (المقدمه الشرعیه): هی کل أمر یتوقف علیه الواجب توقفا لا یدرکه العقل بنفسه، بل یثبت ذلک من طریق الشرع، کتوقف الصلاه علی الطهاره

ص 246

واستقبال القبله و نحوهما. و یسمی هذا الأمر أیضا (الشرط الشرعی)، باعتبار أخذه شرطا و قیدا فی المأمور به عند الشارع، مثل قوله علیه السلأم: (لا صلاه الا بطهور) المستفاد منه شرطیه الطهاره للصلاه. و الغرض من ذکر هذا التقسیم بیان إن النزاع فی مقدمه الواجب هل یشمل الشرط الشرعی؟ و لقد ذهب بعض أعاظم مشایخنا - علی ما یظهر من بعض تقریرات درسه - إلی إن الشرط الشرعی کالجزء لا یکون واجبا بالوجوب الغیری و سماه (مقدمه داخلیه بالمعنی الأعم)، باعتبار إن التقیید لما کان داخلا فی المأمور به و جزءا له (1) فهو واجب بالوجوب النفسی. و لما کان انتزاع التقیید إنما یکون من القید - أی منشأ انتزاعه هو القید - و الأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشأ انتزاعه، إذ لا وجود للعنوان المنتزع الا بوجود منشأ انتزاعه - فیکون الأمر النفسی المتعلق بالتقیید متعلقا بالقید و إذا کان القید واجبا نفسیا فکیف یکون مره أخری واجبا بالوجوب الغیری؟ و لکن هذا کلأم لا یستقیم عند شیخنا المحقق الإصفهانی رحمه الله و قد ناقشه فی مجلس بحثه بمناقشات مفیده. و هو علی حق فی مناقشاته: أما (أولا) فلأن هذا القید المفروض دخوله فی المأمور به، لا یخلو أما إن یکون دخیلا فی أصل الغرض من المأمور به و أما إن یکون دخیلا فی فعلیه الغرض منه و لا ثالث لهما. فإن کان من قبیل (الأول) فیجب إن یکون مأمورا به بالأمر النفسی و لکن بمعنی إن متعلق الأمر لا بد إن یکون الخاص بما هو خاص و هو المرکب من المقید و القید فیکون القید و التقیید معا داخلین. و السر فی ذلک واضح، لأن الغرض یدعو بالأصاله إلی إراده ما هو واف بالغرض و ما یفی بالغرض - حسب الفرض - هو الخاص بما هو خاص أی المرکب من المقید و القید، لا

(هامش)

(1) إن الفرق بین الجزء و الشرط هو إنه فی الجزء یکون التقیید و القید معا داخلین فی المأمور به و أما فی الشرط فالتقیید فقط یکون داخلا و القید یکون خارجا، یعنی إن التقیید یکون جزءا تحلیلیا للمأمور به إذ یکون المأمور به - فی المثال - هو الصلاه بما هی مقیده بالطهاره، أی إن المأمور به هو المرکب من ذات الصلاه و التقیید بوصف الطهاره. فذات الصلاه جزء تحلیلی و التقیید جزء تحلیلی آخر. (*)

ص 247

إن الخصوصیه تکون خصوصیه فی المأمور به المفروغ عن کونه مأمورا به، لأن المفروض إن ذات المأمور به ذی الخصوصیه لیس وحده دخیلا فی الغرض. و علی هذا فیکون هذا القید جزءا من المأمور به کسائر أجزائه الأخری و لا فرق بین جزء و جزء فی کونه من جمله المقدمات الداخلیه، فتسمیه مثل هذا الجزء بالمقدمه الداخلیه بالمعنی الأعم بلا وجه بل هو مقدمه داخلیه بقول مطلق، کما لا وجه لتسمیته بالشرط. و إن کان من قبیل (الثانی) فهذا هو شأن الشرط سواء کان شرطا شرعیا أو عقلیا و مثل هذا لا یعقل إن یدخل فی حیز الأمر النفسی، لأن الغرض - کما قلنا - لا یدعو بالأصاله الا إلی إراده ذات ما یفی بالغرض و یقوم به فی الخارج و أما ماله دخل فی تأثیر السبب أی فی فعلیه الغرض فلا یدعو إلیه الغرض فی عرضه ذات السبب، بل الذی یدعو إلی أیجاد شرط التأثیر لا بد إن یکون غرضا تبعیا یتبع الغرض الأصلی و ینتهی إلیه. و لا فرق بین الشرط الشرعی و غیره فی ذلک و إنما الفرق إن الشرط الشرعی لما کان لا یعلم دخله فی فعلیه الغرض الا من قبل المولی کالطهاره و الاستقبال و نحوهما بالنسبه إلی الصلاه، فلا بد إن ینبه المولی علی اعتباره و لو بأن یأمر به، أما بالأمر المتعلق بالمأمور به أی یأخذه قیدا فیه کان یقول مثلا صل عن طهاره، أو بأمر مستقل کان یقول مثلا: تطهر للصلاه. و علی جمیع الأحوال لا تکون الإراده فیه تبعیه و کذا الأمر به. یکون مأمورا به بالأمر النفسی، بل الإراده فیه تبعیه و کذا الأمر به. فإن قلتم - علی هذا - یلزم سقوط الأمر المتعلق بذات السبب الواجب إذا جاء به المکلف من دون الشرط، قلت من لوازم الاشتراط عدم سقوط الأمر بالسبب بفعله من دون شرطه و إلا کان الاشتراط لغوا و عبثا. و أما (ثانیا) فلو سلمنا دخول التقیید فی الواجب علی وجه یکون جزءا منه فإن هذا لا یوجب إن یکون نفس القید و الشرط الذی هو حسب الفرض منشأ لانتزاع التقیید مقدمه داخلیه، بل هو مقدمه خارجیه، فإن وجود الطهاره - مثلا - یوجب حصول تقیید الصلاه بها، فتکون مقدمه خارجیه للتقیید الذی هو جزء حسب الفرض. و هذا یشبه المقدمات الخارجیه لنفس إجزاء المأمور بها الخارجیه، فکما إن مقدمه الجزء لیست بجزء فکذلک مقدمه التقیید لیست جزءا.

ص 248

والحاصل إنه لما فرضتم فی الشرط إن التقیید داخل و هو جزء تحلیلی فقد فرضتم معه إن القید خارج، فکیف تفرضونه مره أخری إنه داخل فی المأمور به المتعلق بالمقید.

7 - الشرط المتأخر

7 - الشرط المتأخر

لا شک فی إن من الشروط الشرعیه ما هو متقدم فی وجوده زمانا علی المشروط کالوضوء و الغسل بالنسبه إلی الصلاه و نحوها، بناء علی إن الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقی إلی حین الصلاه. و منها ما هو مقارن للمشروط فی وجوده زمانا کالاستقبال و طهاره اللباس للصلاه. و إنما وقع الشک فی (الشرط المتأخر). أی إنه هل یمکن إن یکون الشرط الشرعی متأخرا فی وجوده زمانا عن المشروط أو لا یمکن؟ و من قال بعدم أمکانه قاس الشرط الشرعی علی الشرط العقلی، فإن المقدمه العقلیه یستحیل فیها إن تکون متأخره عن ذی المقدمه، لأنه لا یوجد الشیء الا بعد فرض وجود علته التأمه المشتمله علی کل ماله دخل فی وجوده لاستحاله وجود المعلول بدون علته التأمه. و إذا وجد الشیء فقد انتهی. فأیه حاجه له تبقی إلی ما سیوجد بعد. و منشأ هذا الشک و البحث ورود بعض الشروط الشرعیه التی ظاهرها تأخرها فی الوجود عن المشروط و ذلک مثل الغسل اللیلی للمستحاضه الکبری الذی هو شرط - عند بعضهم - لصوم النهار السابق علی اللیل. و من هذا الباب إجازه بیع الفضولی بناء علی إنها کاشفه عن صحه البیع لا نافله. و لأجل ما ذکرنا من استحاله الشرط المتأخر فی العقلیات اختلف العلماء فی الشرط الشرعی اختلافا کثیرا جدا، فبعضهم ذهب إلی أمکان الشرط المتأخر فی الشرعیات و بعضهم ذهب إلی استحالته قیاسا علی الشرط العقلی کما ذکرنا آنفا و الذاهبون إلی الاستحاله أولوا ما ورد فی الشریعه بتأویلات کثیره یطول شرحها. و أحسن ما قیل فی توجیه أمکان الشرط المتأخر فی الشرعیات ما عن بعض مشایخنا الأعاظم قدس سره فی بعض تقریرات درسه. و خلاصته: إن الکلام

ص 249

تاره یکون فی شرط المأمور به و أخری فی شرط الحکم سواء کان تکلیفیا أم وضعیا. أما فی (شرط المأمور به) فإن مجرد کونه شرطا شرعیا للمأمور به لا مانع منه، لأنه لیس معناه الا أخذه قیدا فی المأمور به علی إن تکون الحصه الخاصه من المأمور به هی المطلوبه. و کما یجوز ذلک فی الأمر السابق و المقارن فإنه یجوز فی اللاحق بلا فرق. نعم إذا رجع الشرط الشرعی إلی شرط واقعی کرجوع شرط الغسل اللیلی للمستحاضه إلی إنه رافع للحدث فی النهار فإنه یکون حینئذ واضح الاستحاله کالشرط الواقعی بلا فرق. و سر ذلک إن المطلوب لما کان هو الحصه الخاصه من طبیعی المأمور به فوجود القید المتأخر لا شأن له الا الکشف عن وجود تلک الحصه فی ظرف کونها مطلوبه. و لا محذور فی ذلک إنما المحذور فی تأثیر المتأخر فی المتقدم. و أما فی (شرط الحکم) سواء کان الحکم تکلیفیا أم وضعیا، فإن الشرط فیه معناه أخذه مفروض الوجود و الحصول فی مقام جعل الحکم و إنشائه و کونه مفروض الوجود لا یفرق فیه بین إن یکون متقدما أو مقارنا أو متأخرا کان یجعل الحکم فی الشرط المتأخر علی الموضوع المقید بقید أخذه مفروض الوجود بعد وجود الموضوع. و یتقرب ذلک إلی الذهن بقیاسه علی الواجب المرکب التدریجی الحصول، فإن لتکلیف فی فعلیته فی الجزء الأول و ما بعده یبقی مراعی إلی إن یحصل الجزء الأخیر من المرکب و قد بقیت - إلی حین حصول کمال الإجزاء - شرائط التکلیف من الحیاه و القدره و نحوهما. و هکذا یفرض الحال فیما نحن فیه، فإن الحکم فی الشرط المتأخر یبقی فی فعلیته مراعی إلی إن یحصل الشرط الذی أخذ مفروض الحصول، فکما إن الجزء الأول من المرکب التدریجی الواجب فی فرض حصول جمیع الإجزاء یکون واجبا و فعلی الوجوب من أول الأمر لا إن فعلیته تکون بعد حصول جمیع الإجزاء و کذا باقی الإجزاء لا تکون فعلیتها بعد حصول الجزء الأخیر بل حین حصولها و لکن فی فرض حصول الجمیع، فکذلک ما نحن فیه یکون الواجب المشروط بالشرط المتأخر فعلی الوجوب من أول الأمر فی فرض حصول الشرط فی ظرفه لا إن فعلیته تکون متأخره حین الشرط.

ص 250

هذه خلاصه رأی شیخنا المعظم و لا یخلو عن مناقشه و البحث عن الموضوع بأوسع مما ذکرنا لا یسعه هذا المختصر.

8 - المقدمات المفوته

8 - المقدمات المفوته

ورد فی الشریعه المطهره وجوب بعض المقدمات قبل زمان ذیها فی الموقتات کوجوب قطع المسافه للحج قبل حلول أیأمه. و وجوب الغسل من الجنابه للصوم قبل الفجر و وجوب الوضوء أو الغسل - علی قول - قبل وقت الصلاه عند العلم بعدم التمکن منه بعد دخول وقتها. . و هکذا. و تسمی هذه المقدمات باصطلاحهم (المقدمات المفوته) باعتبار إن ترکها موجب لتفویت الواجب فی وقته کما تقدم. و نحن نقول: لو لم یحکم الشارع المقدس بوجوب مثل هذه المقدمات فإن العقل یحکم بلزوم الإتیان بها، لأن ترکها موجب لتفویت الواجب فی ظرفه و یحکم أیضا بأن التارک لها یستحق العقاب علی الواجب فی ظرفه بسبب ترکها. و لأول وهله یبدو إن هذین الحکمین العقلیین الواضحین لا ینطبقان علی القواعد العقلیه البدیهیه فی الباب من جهتین: أما (أولا) فلأن وجوب المقدمه تابع لوجوب ذیها، علی أی نحو فرض من إنحاء التبعیه، لا سیما إذا کان من نحو تبعیه المعلول لعلته علی ما هو المشهور. فکیف یفرض الواجب التابع فی زمان سابق علی زمان فرض الوجوب المتبوع؟ و أما (ثانیا) فلأنه کیف یستحق العقاب علی ترک الواجب بترک مقدمته قبل حضور وقته مع إنه حسب الفرض لا وجوب له فعلا. و أما فی ظرفه فینبغی إن یسقط و جوبه لعدم القدره علیه بترک مقدمتهم و القدره شرط عقلی فی الوجوب. * * * و لأجل التوفیق بین هاتیک البدیهیات العقلیه التی یبدو کأنها متعارضه - و إن کان یستحیل التعارض فی الأحکام العقلیه و بدیهیات العقل - حاول جماعه من أعلام الأصولیین المتأخرین تصحیح ذلک بفرض انفکاک زمان الوجوب عن

ص 251

زمان الواجب و تقدمه علیه، أما فی خصوص الموقتات أو فی مطلق الواجبات، علی اختلاف المسالک. و بذلک یحصل لهم التوفیق بین تلکم الأحکام العقلیه، لأنه حینما یفرض تقدم وجوب ذی المقدمه علی لسان فلا مانع من فرض وجوب المقدمه قبل وقت الواجب و کان استحقاق العقاب علی ترک الواجب علی القاعده لأن و جوبه کان فعلیا حین ترک المقدمه. أما کیف یفرض تقدم زمان الوجوب علی زمان الواجب و بأی مناط؟ فهذا ما اختلفت فیه الأنظار و المحاولات. فأول المحاولین لحل هذه الشبهه - فیما یبدو - صاحب الفصول الذی قال بجواز تقدم زمان الوجوب علی طریقه (الواجب المعلق) الذی اخترعه کما اشرنا إلیه فی المجلد الأول ص 82. و ذلک فی خصوص الموقتات، بفرض إن الوقت فی الموقتات وقت للواجب فقط لا للوجوب، أی إن الوقت لیس شرطا و قیدا للوجوب بل هو قید للواجب. فالوجوب - علی هذا الفرض - متقدم علی الوقت و لکن الواجب معلق علی حضور وقته. و الفرق بین هذا النوع و بین الواجب المشروط هو إن التوقف فی المشروط للوجوب و فی المعلق للفعل. و علیه لا مانع من فرض وجوب المقدمه قبل زمان ذیها. و لکن نقول: علی تقدیر أمکان فرض تقدم زمان الوجوب علی زمان الواجب فإن فرض رجوع القید إلی الواجب لا إلی الوجوب یحتاج إلی دلیل و نفس ثبوت وجوب المقدمه المفوته قبل زمان وجوب ذیها لا یکون وحده دلیلا علی ثبوت الواجب المعلق لأن الطریق فی تصحیح وجوب المقدمه المفوته لا ینحصر فیه کما سیأتی بیان الطریق الصحیح. و المحاوله الثانیه - ما نسب إلی الشیخ الأنصاری من رجوع القید فی جمیع شرائط الوجوب إلی الماده و إن اشتهر القول برجوعها إلی الهیئه. سواء کان الشرط هو الوقت أو غیره کالاستطاعه للحج و القدره و البلوغ و العقل و نحوها من الشرائط العامه لجمیع التکالیف. و معنی ذلک إن الوجوب الذی هو مدلول الهیئه فی جمیع الواجبات مطلق دائما غیر مقید بشرط أبدا و کل ما یتوهم من رجوع القید إلی الوجوب فهو راجع فی الحقیقه إلی الواجب الذی هو مدلول الماده، غایه الأمر إن بعض القیود مأخوذه فی الواجب علی وجه یکون مفروض الحصول و الوقوع کالاستطاعه بالنسبه إلی الحج و مثل هذا لا یجب تحصیله و یکون حکمه حکم ما لو کان شرطا للوجوب و بعضها لا یکون

ص 252

مأخوذا علی وجه یکون مفروض الحصول، بل یجب تحصیله توصلا إلی الواجب لأن الواجب یکون هو المقید بما هو مقید بذلک القید. و علی هذا التصویر فالوجوب یکون دائما فعلیا قبل مجیء وقته و شأنه فی ذلک شأن الوجوب علی القول بالواجب المعلق لا فرق بینهما فی الموقتات بالنسبه إلی الوقت فإذا کان الواجب استقبالیا فلا مانع من وجوب المقدمه المفوته قبل زمان ذیها. و المحاوله الثالثه - ما نسب إلی بعضهم من إن الوقت شرط للوجوب لا للواجب کما فی المحاولتین الأولیتین، ولکنه مأخوذ فیه علی نحو الشرط المتأخر. و علیه فالوجوب یکون سابقا علی زمان الواجب نظیر القول بالمعلق فیصح فرض وجوب المقدمه المفوته قبل زمان ذیها لفعلیه الوجوب قبل لسان فتجب مقدمته. و کل هذه المحاولات مذکوره فی کتب الأصول المطوله و فیها مناقشات و أبحاث طویله لا یسعها هذا المختصر و مع الغض عن المناقشه فی أمکانها فی أنفسها لا دلیل علیها الا ثبوت وجوب المقدمه قبل زمان ذیها، إذ کل صاحب محاوله منها یعتقد إن التخلص من إشکال وجوب المقدمه قبل زمان ذیها، ینحصر فی المحاوله التی یتصورها فالدلیل الذی یدل علی وجوب المقدمه المفوته قبل وقت الواجب لا محاله یدل عنده علی محاولته. و الذی اعتقده إنه لا موجب لکل هذه المحاولات لتصحیح وجوب المقدمه قبل زمان ذیها، فإن الصحیح - کما افاده شیخنا الإصفهانی رحمه الله - إن وجوب المقدمه لیس معلولا لوجوب ذیها و لا مترشحا منه، فلیس هناک إشکال فی وجوب المقدمه المفوته قبل زمان ذیها حتی نلتجئ إلی إحدی هذه المحاولات لفک الإشکال و کل هذه الشبهه إنما جاءت من هذا الفرض و هو فرض معلولیه وجوب المقدمه لوجوب ذیها و هو فرض لا واقع له أبدا و إن کان هذا القول یبدو غریبا علی الأذهان المشبعه بفرض إن وجوب ذی المقدمه عله لوجوب المقدمه، بل نقول أکثر من ذلک: إنه یجب فی المقدمه المفوته إن یتقدم و جوبها علی وجوب ذیها، إذا کنا نقول بأن مقدمه الواجب واجبه و إن کان الحق - و سیأتی - عدم و جوبها مطلقا. و لبیان عدم معلولیه وجوب المقدمه لوجوب ذیها: نذکر إن الأمر - فی الحقیقه - هو فعل الأمر، سواء کان الأمر نفسیا أم غیریا، فالأمر هو العله

ص 253

الفاعلیه له دون سواه و لکن کل أمر إنما یصدر عن إراده الأمر لأنه فعله الاختیاری و الإراده بالطبع مسبوقه بالشوق إلی فعل المأمور به، أی إن الأمر لا بد إن یشتاق أولا إلی فعل الغیر علی إن یصدر من الغیر، فإذا اشتاقه لا بد إن یدعو الغیر و یدفعه و یحثه علی الفعل فیشتاق إلی الأمر به. و إذا لم یحصل مانع من الأمر فلا محاله یشتد الشوق إلی الأمر حتی یبلغ الإراده الحتمیه فیجعل الداعی فی نفس الغیر للفعل المطلوب و ذلک بتوجیه الأمر نحوه. هذا حال کل مأمور به و من جملته (مقدمه الواجب)، فإنه إذا ذهبنا إلی و جوبها من قبل المولی لا بد إن نفرض حصول الشوق أولا فی نفس الأمر إلی صدورها من المکلف، غایه الأمر إن هذا الشوق تابع للشوق إلی فعل ذی المقدمه و منبثق منه، لأن المختار إذا أشتاق إلی تحصیل شیء و أحبه اشتاق و أحب بالتبع کل ما یتوقف علیه ذلک الشیء علی نحو الملازمه بین الشوقین. و إذا لم یکن هناک مانع من الأمر بالمقدمات حصلت لدی الأمر - ثانیا - الإراده الحتمیه التی تتعلق بالأمر بها فیصدر حینئذ الأمر. إذا عرفت ذلک، فإنک تعرف إنه إذا فرض إن المقدمه متقدمه بالوجود الزمانی علی ذیها علی وجه لا یحصل ذوها فی ظرفه و لسان الا إذا حصلت هی قبل حلول لسان، کما فی أمثله المقدمات المفوته، فإنه لا شک فی إن الأمر یشتاقها إن تحصل فی ذلک الزمان المتقدم و هذا الشوق بالنسبه إلی المقدمه یتحول إلی الإراده الحتمیه بالأمر، إذ لا مانع من البعث نحوها حینئذ و المفروض إن وقتها قد حان فعلا فلا بد إن یأمر بها فعلا. أما ذو المقدمه فحسب الفرض لا یمکن البعث نحوه و الأمر به قبل وقته لعدم حصول ظرفه، فلا أمر قبل الوقت و إن کان الشوق إلی الأمر به حاصل حینئذ و لکن لا یبلغ مبلغ الفعلیه لوجود المانع. و الحاصل إن الشوق إلی ذی المقدمه و الشوق إلی المقدمه حاصلان قبل وقت ذی المقدمه و الشوق الثانی منبعث و منبثق من الشوق الأول و لکن الشوق إلی المقدمه یؤثر أثره و یصیر إراده حتمیه لعدم وجود ما یمنع من الأمر، دون الشوق إلی ذی المقدمه لوجود المانع من الأمر. و علی هذا، فتجب المقدمه المفوته قبل وجوب ذیها و لا محذور فیه، بل هو أمر لا بد منه و لا یصح إن یقع غیر ذلک. و لا تستغرب ذلک فإن هذا أمر مطرد حتی بالنسبه إلی أفعال الإنسان

ص 254

نفسه، فإن اشتاق إلی فعل شیء اشتاق إلی مقدماته تبعا و لما کانت المقدمات متقدمه بالوجود زمانا علی ذیها، فإن الشوق إلی المقدمات یشتد حتی یبلغ درجه الإراده الحتمیه المحرکه للعضلات فیفعلها، مع إن ذی المقدمه لم یحن وقته بعد و لم تحصل له الإراده الحتمیه المحرکه للعضلات و إنما یمکن إن تحصل له الإراده الحتمیه إذا حان وقته بعد طی المقدمات. فإراده الفاعل التکوینیه للمقدمه متقدمه زمانا علی إراده ذیها و علی قیاسها الإراده التشریعیه، فلا بد إن تحصل للمقدمه المتقدمه زمانا قبل إن تحصل لذیها المتأخر زمانا، فیتقدم الوجوب الفعلی للمقدمه علی الوجوب الفعلی لذیها زمانا، علی العکس مما اشتهر و لا محذور فیه بل هو المتعین. و هذا حال کل متقدم بالنسبه إلی المتأخر فإن الشوق یصیر شیئا فشیئا قصدا و إراده، کما فی الأفعال التدریجیه الوجود. و قد تقدم معنی تبعیه وجوب المقدمه لوجوب ذیها فلا نعید و قلنا إنه لیس معناه معلولیته لوجوب ذی المقدمه و تبعیته له وجودا کما اشتهر علی لسان الأصولیین. (فإن قلت): إن وجوب المقدمه - کما سبق - تابع لوجوب ذی المقدمه إطلاقا و اشتراطا و لا شک فی إن الوقت - علی الرأی المعروف - شرط لوجوب ذی المقدمه، فیجب إن یکون أیضا وجوب المقدمه مشروطا به، قضاء لحق التبعیه. (قلت) إن الوقت علی التحقیق لیس شرطا للوجوب بمعنی إنه دخیل فی مصلحه الأمر کالاستطاعه بالنسبه إلی وجوب الحج و إن کان دخیلا فی مصلحه المأمور به، ولکنه لا یتحقق البعث قبله، فلا بد إن یؤخذ مفروض الوجوب بمعنی عدم الدعوه إلیه لأنه غیر اختیاری للمکلف. أما عدم تحقق وجوب الموقت قبل الوقت فلامتناع البعث قبل الوقت. و السر واضح لأن البعث حتی البعث الجعلی منه یلازم الانبعاث أمکانا و وجودا فإذا أمکن الانبعاث أمکن البعث و إلا فلا و إذ یستحیل الانبعاث قبل الوقت استحال البعث نحوه حتی الجعلی. و من اجل هذا نقول بامتناع الواجب المعلق لأنه یلازم انفکاک الانبعاث عن البعث. و هذا بخلاف المقدمه قبل وقت الواجب فإنه یمکن الانبعاث نحوها فلا

ص 255

مانع من فعلیه البعث بالنظر إلیها لو ثبت، فعدم فعلیه الوجوب قبل زمان الواجب إنما هو لوجود المانع لا لفقدان الشرط و هذا المانع موجود فی ذی المقدمه قبل وقته مفقود فی المقدمه. و یتفرع علی هذا فرع فقهی و هو: إنه حینئذ لا مانع فی المقدمه المفوته العبادیه کالطهارات الثلاث من قصد الوجوب فی النیه قبل وقت الواجب لو قلنا بأن مقدمه الواجب واجبه. و الحاصل: إن العقل یحکم بلزوم الإتیان بالمقدمه المفوته قبل وقت ذیها و لا مانع عقلی من ذلک * * * هذا کله من جهه إشکال انفکاک وجوب المقدمه عن وجوب ذیها. و أما من جهه إشکال استحقاق العقاب علی ترک الواجب بترک مقدمته مع عدم فعلیه و جوبه، فیعلم دفعه مما سبق فإن التکلیف بذی المقدمه الموقت یکون تأم الاقتضاء و إن لم یصر فعلیا لوجود المانع و هو عدم حضور وقته. و لا ینبغی الشک فی إن دفع التکلیف مع تمأمیه اقتضائه تفویت لغرض المولی المعلوم الملزم. و هذا یعد ظلما فی حقه و خروجا عن زی الرقیه و تمردا علیه، فیستحق علیه العقاب و اللوم من هذه الجهه و إن لم یکن فیه مخالفه للتکلیف الفعلی المنجز. و هذا لا یشبه دفع مقتضی التکلیف کعدم تحصیل الاستطاعه للحج، فإن مثله لا یعد ظلما و خروجا عن زی الرقیه و تمردا علی المولی، لأنه لیس فیه تفویت لغرض المولی التأم الاقتضاء. و المدار فی استحقاق العقاب هو تحقق عنوان الظلم للمولی القبیح عقلا.

9 - المقدمه العبادیه

9 - المقدمه العبادیه

ثبت بالدلیل إن بعض المقدمات الشرعیه لا تقع مقدمه الا إذا وقعت علی وجه عبادی و ثبت أیضا ترتب الثواب علیها بخصوصها. و مثالها منحصر فی الطهارات الثلاث: الوضوء و الغسل و التیمم. و قد سبق فی الأمر الثانی الإشکال فیها من جهتین: من جهه إن الواجب الغیری لا یکون الا توصلیا، فکیف یجوز إن تقع المقدمه بما هی مقدمه

ص 256

عباده و من جهه ثانیه إن الواجب الغیری بما هو واجب غیری لا استحقاق للثواب علیه. و فی الحقیقه إن هذا الإشکال لیس الا إشکالا علی أصولنا التی أصلناها للواجب الغیری، فنقع فی حیره فی التوفیق بین ما فهمناه عن الواجب الغیری و بین عبادیه هذه المقدمات الثابته عبادیتها و إلا فکون هذه المقدمات عبادیه یستحق الثواب علیها أمر مفروغ عنه لا یمکن رفع الید عنه. فأذن، لا بد لنا من توضیح ما أصلناه فی الواجب الغیری بتوجیه عبادیه المقدمه علی وجه یلائم توصلیه الأمر الغیری و قد ذهبت الآراء أشتاتا فی توجیه ذلک. و نحن نقول علی الاختصار: إنه من المتیقن الذی لا ینبغی إن یتطرق إلیه الشک من أحد، إن الصلاه - مثلا - ثبت من طریق الشرع توقف صحتها علی إحدی الطهارات الثلاث و لکن لا تتوقف علی مجرد أفعالها کیفما اتفق وقوعها، بل إنما تتوقف علی فعل الطهاره إذا وقع علی الوجه العبادی أی إذا وقع متقربا به إلی الله تعالی. فالوضوء العبادی - مثلا - هو الشرط و هو المقدمه التی تتوقف صحه الصلاه علیها. و علیه، لا بد إن یفرض الوضوء عباده قبل فرض تعلق الأمر الغیری به، لأن الأمر الغیری - حسبما فرضناه - إنما یتعلق بالوضوء العبادی بما هو عباده، لا بأصل الوضوء بما هو. فلم تنشأ عبادیته من الأمر الغیری حتی یقال إن عبادیته لا تلائم توصلیه الأمر الغیری، بل عبادیته لا بد إن تکون مفروضه التحقق قبل فرض تعلق الأمر الغیری. و من هنا یصح استحقاق الثواب علیه لأنه عباده فی نفسه * * * و لکن ینشأ من هذا البیان إشکال آخر و هو إنه إذا کانت عبادیه الطهارات غیر ناشئه من الأمر الغیری، فما هو الأمر المصحح لعبادیتها و المعروف إنه لا یصح فرض العباده عباده الا بتعلق أمر بها لیمکن قصد امتثاله، لأن قصد امتثال الأمر هو المقوم لعباده العباده عندهم. و لیس لها فی الواقع الا الأمر الغیری. فرجع الأمر بالأخیر إلی الغیری لتصحیح عبادیتها.

ص 257

علی إنه یستحیل إن یکون الأمر الغیری هو المصحح لعبادیتها، لتوقف عبادیتها - حینئذ - علی سبق الأمر الغیری و المفروض إن الأمر الغیری متأخر عن فرض عبادیتها لأنه إنما تعلق بها بما هی عباده، فیلزم تقدم المتأخر و تأخر المتقدم و هو خلف محال، أو دور علی ما قیل. و قد أجیب عن هذه الشبهه بوجوه کثیره. و أحسنها - فیما أری بناء علی ثبوت الأمر الغیری أی وجوب مقدمه الواجب و بناء علی إن عبادیه العباده لا تکون الا بقصد الأمر المتعلق بها - هو إن المصحح لعبادیه الطهارات هو الأمر النفسی الاستحبابی لها فی حد ذاتها السابق علی الأمر الغیری بها. و هذا الاستحباب باق حتی بعد فرض الأمر الغیری و لکن لا بحد الاستحباب الذی هو جواز الترک إذ المفروض إنه قد وجب فعلها فلا یجوز ترکها و لیس الاستحباب الا مرتبه ضعیفه بالنسبه إلی الوجوب، فلو طرأ علیه الوجوب لا ینعدم، بل یشتد وجوده، فیکون الوجوب استمرار له کاشتداد السواد و البیاض من مرتبه ضعیفه إلی مرتبه أقوی و هو وجود واحد مستمر. و إذا کان الأمر کذلک فالأمر الغیری حینئذ یدعو إلی ما هو عباده فی نفسه فلیست عبادیتها متأتیه من الأمر الغیری حتی یلزم الإشکال. و لکن هذا الجواب - علی حسنه - غیر کاف بهذا المقدار من البیان لدفع الشبهه. و سر ذلک إنه لو کان المصحح لعبادیتها هو الأمر الاستحبابی النفسی بالخصوص لکان یلزم الا تصح هذه المقدمات الا إذا جاء بها المکلف بقصد امتثال الأمر الاستحبابی فقط، مع إنه لا یفتی بذلک احد و لا شک فی إنها تقع صحیحه لو أتی بها بقصد امتثال أمرها الغیری، بل بعضهم اعتبر قصده فی صحتها بعد دخول وقت الواجب المشروط بها. فنقول (إکمالا للجواب): إنه لیس مقصود المجیب من کون استحبابها النفسی مصححا لعبادیتها إن المأمور به بالأمر الغیری هو الطهاره المأتی بها بداعی امتثال الأمر الاستحبابی. کیف و هذا المجیب قد فرض عدم بقاء الاستحباب بحده بعد ورود الأمر الغیری، فکیف یفرض إن المأمور به هو المأتی به بداعی امتثال الأمر الاستحبابی. بل مقصود المجیب إن الأمر الغیری لما کان متعلقه هو الطهاره بما هی عباده و لا یمکن إن تکون عبادیتها ناشئه من نفس الأمر الغیری بما هو أمر

ص 258

غیری - فلا بد من فرض عبادیتها لا من جهه الأمر الغیری و بفرض سابق علیه و لیس هو إلا الأمر الاستحبابی النفسی المتعلق بها و هذا یصحح عبادیتها قبل فرض تعلق الأمر الغیری بها و إن کان حین توجه الأمر الغیری لا یبقی ذلک الاستحباب بحده و هو جواز الترک و لکن لا تذهب بذلک؟ ؟ عبادیتها، لأن المناط فی عبادیتها لیس جواز الترک کما هو واضح، بل المناط مطلوبیتها الذاتیه و رجحانها النفسی و هی باقیه بعد تعلق الأمر الغیری. و إذا صح تعلق الأمر الغیری بها بما هی عباده و إندکاک الاستحباب فیه، بمعنی إن الأمر الغیری یکون استمرار لتلک المطلوبیه - فإنه حینئذ لا یبقی الا الأمر الغیری صالحا للدعوه إلیها و یکون هذا الأمر الغیری نفسه أمرا عبادیا غایه الأمر إن عبادیته لم تجئ من اجل نفس کونه أمرا غیریا، بل من أجل کونه أمتدادا لتلک المطلوبیه النفسیه و ذلک الرجحان الذاتی الذی حصل من ناحیه الأمر الاستحبابی النفسی السابق. و علیه، فینقلب الأمر الغیری عبادیا، ولکنها عبادیه بالغرض لا بالذات حتی یقال إن الأمر الغیری توصلی لا یصلح للعبادیه. من هنا لا یصح الإتیان بالطهاره بقصد الاستحباب بعد دخول الوقت للواجب المشروط بها، لأن الاستحباب بحده قد اندک فی الأمر الغیری فلم یعد موجودا حتی یصح قصده. نعم یبقی إن یقال:

إن الأمر الغیری إنما یدعو إلی الطهاره الواقعه علی وجه العباده، لأنه حسب الفرض متعلقه هو الطهاره بصفه العباده لا ذات الطهاره و الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به، فکیف صح إن یؤتی بذات العباده بداعی امتثال أمرها الغیری و لا أمر غیری بذات العباده؟ و لکن ندفع هذا الإشکال بأن نقول: إذا کان الوضوء - مثلا - مستحبا نفسیا فهو قابل لأن یتقرب به من المولی و فعلیه التقرب تتحقق بقصد الأمر الغیری المندک فیه الأمر الاستحبابی. و بعباره أخری: قد فرضنا الطهارات عبادات نفسیه فی مرتبه سابقه علی الأمر الغیری المتعلق بها و الأمر الغیری إنما یدعو إلی ذلک، فإذا جاء المکلف بها بداعی الأمر الغیری المندک فیه الاستحباب و المفروض لیس هناک أمر موجود غیره - صح التقرب به و وقعت عباده لا محاله، لیتحقق ما هو شرط الواجب و مقدمته.

ص 259

هذا کله بناء علی ثبوت الأمر الغیری بالمقدمه و بناءا علی إن المناط عبادیه العباده هو قصد الأمر المتعلق بها. وکلا المبنیین نحن لا نقول بهما. أما الأول فسیأتی فی البحث الآتی الدلیل علی عدم وجوب مقدمه الواجب فلا أمر غیری أصلا. و أما الثانی فلأن الحق إنه یکفی فی عبادیه الفعل ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا إلیه تعالی. غایه الأمر إن العبادات قد ثبت إنها توقیفیه فما لم یثبت رضا المولی بالفعل و حسن الانقیاد و قصد وجه الله بالفعل لا یصح الإتیان بالفعل عباده بل یکون تشریعا محرما. و لا یتوقف ذلک علی تعلق أمر المولی بنفس الفعل علی إن یکون أمرا فعلیا من المولی و لذا قیل: یکفی فی عبادیه العباده حسنها الذاتی و محبوبیتها الذاتیه للمولی حتی لو کان هناک مانع من توجه الأمر الفعلی بها. و إذا ثبت ذلک فنقول فی تصحیح عبادیه الطهارات: إن فعل المقدمه بنفسه یعد شروعا فی امتثال ذی المقدمه الذی هو حسب الفرض فی المقام عباده فی نفسه مأمور بها. فیکون الإتیان بالمقدمه بنفسه یعد امتثالا للأمر النفسی بذی المقدمه العبادی. و یکفی فی عباده الفعل کما قلنا ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا إلیه تعالی مع عدم ما یمنع من التعبد به. و لا شک فی إن قصد الشروع بامتثال الأمر النفسی بفعل مقدماته قاصدا بها التوصل إلی الواجب النفسی العبادی یعد طاعه و انقیادا للمولی. و بهذا تصحح عبادیه المقدمه و إن لم نقل بوجوبها الغیری و لا حاجه إلی فرض طاعه الأمر الغیری. و من هنا یصح إن تقع کل مقدمه عباده و یستحق علیها الثواب بهذا الاعتبار و إن لم تکن فی نفسها معتبرا فیها إن تقع علی وجه العباده، کتطهیر الثوب - مثلا - مقدمه للصلاه، أو کالمشی حافیا مقدمه للحج أو الزیاره غایه الأمر إن الفرق بین المقدمات العبادیه و غیرها إن غیر العبادیه لا یلزم فیها إن تقع علی وجه قربی بخلاف المقدمات المشروط فیها إن تقع عباده کالطهارات الثلاث.

ص 260

ویؤید ذلک ما ورد من الثواب علی بعض المقدمات و لا حاجه إلی التأویل الذی ذکرناه سابقا فی الأمر الثالث من إن الثواب علی ذی المقدمه یوزع علی المقدمات باعتبار دالتها فی زیاده حمازه الواجب، فإن ذلک التأویل مبنی علی فرض ثبوت الأمر الغیری و إن عبادیه المقدمه و استحقاق الثواب علیها لا ینشأن الأمر الا من جهه الأمر الغیری، أتباعا للمشهور المعروف بین القوم. فإن قلت: إن الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به فعلا یعقل إن یکون الأمر بذی المقدمه داعیا بنفسه إلی المقدمه الا إذا قلنا بترشح أمر آخر منه بالمقدمه، فیکون هو الداعی. و لیس هذا الأمر الآخر المترشح الا الأمر الغیری. فرجع الإشکال جذعا. قلت: نعم الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به، ولکنا لا ندعی إن الأمر بذی المقدمه هو الذی یدعو إلی المقدمه، بل نقول إن العقل هو الداعی إلی فعل المقدمه توصلا إلی فعل الواجب و سیأتی إن هذا الحکم العقلی لا یستکشف منه ثبوت أمر غیری من المولی. و لا یلزم إن یکون هناک أمر بنفس المقدمه لتصحیح عبادیتها و یکون داعیا إلیها. و الحاصل إن الداعی إلی فعل المقدمه هو حکم العقل و المصحح لعبادیتها شیء آخر هو قصد التقرب بها و یکفی فی التقرب بها إلی الله إن یأتی بها بقصد التوصل إلی ما هو عباده. لا إن الداعی إلی فعل المقدمه هو نفس المصحح لعبادیتها و لا إن المصحح لعبادیه العباده منحصر قصد الأمر المتعلق بها و قد سبق توضیح ذلک. و علیه، فإن کانت المقدمه ذات الفعل کالتطهیر من الخبث فالعقل لا یحکم الا بإتیانها علی أی وجه وقعت و لکن لو أتی بها المکلف متقربا بها إلی الله توصلا إلی العباده صح و وقعت علی صفه العبادیه و استحق علیها الثواب. و إن کانت المقدمه عملا عبادیا کالطهاره من الحدث فالعقل یلزم بالإتیان بها کذلک و المفروض إن المکلف متمکن من ذلک، سواء کان هناک أمر غیری أم لم یکن و سواء کانت المقدمه فی نفسها مستحبه أم لم تکن. فلا إشکال من جمیع الوجوه فی عبادیه الطهارات.

ص 261

النتیجه: مسأله مقدمه الواجب و الأقوال فیها

بعد تقدیم تلک التمهیدات التسعه نرجع إلی أصل المسأله و هو البحث عن وجوب مقدمه الواجب الذی قلنا إنه آخر ما یشغل بال الأصولیین. و قد عرفت فی مدخل المسأله موضع البحث فیها، ببیان تحریر النزاع. و هو - کما قلنا - الملازمه بین حکم العقل و حکم الشرع، إذ قلنا إن العقل یحکم بوجوب مقدمه الواجب أی إنه یدرک لزومها - و لکن وقع البحث فی إنه هل یحکم أیضا بأن المقدمه واجبه أیضا عند من أمر بما یتوقف علیها؟ لقد تکثرت الأقوال جدا فی هذه المسأله علی مرور الزمن نذکر أهمها و نذکر ما هو الحق منها و هی:

1 - القول بوجوبها مطلقا.

2 - القول بعدم و جوبها مطلقا (وهو الحق و سیأتی دلیله).

3 - التفصیل بین السبب فلا یجب و بین غیره کالشرط و عدم المانع و المعد فیجب.

4 - التفصیل بین السبب و غیره أیضا و لکن بالعکس أی یجب السبب دون غیره.

5 - التفصیل بین الشرط الشرعی فلا یجب بالوجوب الغیری، باعتبار إنه واجب بالوجوب النفسی نظیر جزء الواجب و بین غیره فیجب بالوجوب الغیری. و هو القول المعروف عن شیخنا المحقق النائینی.

6 - التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره أیضا و لکن بالعکس، أی یجب الشرط الشرعی بالوجوب المقدمی دون غیره.

7 - التفصیل بین المقدمه الموصله، أی التی یترتب علیها الواجب النفسی فتجب و بین المقدمه غیر الموصله فلا تجب. و هو المذهب المعروف لصاحب الفصول.

ص 262

8 - التفصیل بین ما قصد به التوصل من المقدمات فیقع علی صفه الوجوب و بین ما لم یقصد به ذلک فلا یقع واجبا. و هو القول المنسوب إلی الشیخ الأنصاری.

9 - التفصیل المنسوب إلی صاحب المعالم الذی أشار إلیه فی مسأله الضد و هو اشتراط وجوب المقدمه بإراده ذیها. فلا تکون المقدمه واجبه علی تقدیر عدم أرادته.

10 - التفصیل بین المقدمه الداخلیه، أی الجزء، فلا تجب و بین المقدمه الخارجیه فتجب. و هناک تفصیلات أخری عند المتقدمین لا حاجه إلی ذکرها. * * * و قد قلنا إن الحق فی المسأله - کما علیه جماعه (1) من المحققین المتأخرین - القول الثانی و هو عدم و جوبها مطلقا. و الدلیل علیه واضح بعد ما قلناه ص 29 من إنه فی موارد حکم العقل بلزوم شیء علی وجه یکون حکما داعیا للمکلف إلی فعل الشیء لا یبقی مجال للأمر المولوی فإن هذه المسأله من ذلک الباب من جهه العله. و ذلک لأنه إذا کان الأمر بذی المقدمه داعیا للمکلف إلی الإتیان بالمأمور به فإن دعوته هذه - لا محاله بحکم العقل - تحمله و تدعوه إلی الإتیان بکل ما یتوقف علیه المأمور به تحصیلا له. و مع فرض وجود هذا الداعی فی نفس المکلف لا تبقی حاجه إلی داع آخر من قبل المولی، مع علم المولی - حسب الفرض - بوجود هذا الداعی، لأن الأمر المولوی - سواء کان نفسیا أم غیریا - إنما یجعله المولی لغرض تحریک المکلف نحو فعل المأمور به، إذ یجعل الداعی فی نفسه حیث لا داع.

(هامش)

(1) أول من تنبه إلی ذلک و أقأم علیه البرهان بالأسلوب الذی ذکرناه - فیما أعلم - أستاذنا المحقق الإصفهانی قدس الله نفسه الزکیه و قد عضد هذا القول السید الجلیل المحقق الخوئی دام ظله. و کذلک ذهب إلی هذا القول و أوضحه سیدنا المحقق الحکیم دام ظله فی حاشیته علی الکفایه.

ص 263

بل یستحیل فی هذا الفرض جعل الداعی الثانی من المولی، لأنه یکون من باب تحصیل الحاصل. و بعباره أخری: إن الأمر بذی المقدمه لو لم یکن کافیا فی دعوه المکلف إلی الإتیان بالمقدمه فأی أمر بالمقدمه لا ینفع و لا یکفی للدعوه إلیها بما هی مقدمه. و مع کفایه الأمر بذی المقدمه لتحریکه إلی المقدمه و للدعوه إلیها فأیه حاجه تبقی إلی الأمر بها من قبل المولی، بل یکون عبثا و لغوا؟ ؟ بل یمتنع لأنه تحصیل للحاصل. و علیه، فالأوأمر الوارده فی بعض المقدمات یجب حملها علی الإرشاد و بیان شرطیه متعلقها للواجب و توقفه علیها کسائر الأوأمر الإرشادیه فی موارد حکم العقل و علی هذا یحمل قوله علیه السلأم: (إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور و الصلاه). و من هذا البیان نستحصل علی النتیجه الآتیه: (إنه لا وجوب غیری أصلا و ینحصر الوجوب المولوی بالواجب النفسی فقط. فلا موقع أذن لتقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری. فلیحذف ذلک من سجل الأبحاث الأصولیه).

المسأله الثالثه: مسأله الضد
المدخل

المسأله الثالثه: مسأله الضد

تحریر محل النزاع:

اختلفوا فی إن الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده أو لا یقتضی؟ علی أقوال. و لأجل توضیح محل النزاع و تحریره نشرح مرادهم من الألفاظ التی وردت علی لسانهم فی تحریر النزاع هذا و هی ثلاثه:

1 - (الضد)، فإن مرادهم من هذه الکلمه مطلق المعاند و المنافی، فیشمل نقیض الشیء، أی إن الضد - عندهم اعم من الأمر الوجودی و العدمی. و هذا اصطلاح خاص للأصولیین فی خصوص هذا الباب و إلا فالضد

ص 264

مصطلح فلسفی یراد به - فی باب التقابل - خصوص الأمر الوجودی الذی له مع وجودی آخر تمأم المعانده و المنافره و له معه غایه التباعد. و لذا قسم الأصولیون الضد إلی (ضد عام) و هو الترک أی النقیض و (ضد خاص) و هو مطلق المعاند الوجودی. و علی هذا فالحق إن تنحل هذه المسأله إلی مسألتین موضوع إحداهما الضد العام و موضوع الأخری الضد الخاص، لاسیما مع اختلاف الأقوال فی الموضوعین.

2 (الاقتضاء) و یراد به لابدیه ثبوت النهی عن الضد عند الأمر بالشیء أما لکون الأمر یدل علیه بإحدی الدلالات الثلاث: المطابقه و التضمن و الالتزأم و أما لکونه یلزمه عقلا النهی عن الضد من دون إن یکون لزومه بینا بالمعنی الأخص حتی یدل علیه بالالتزأم. فالمراد من الاقتضاء عندهم اعم من کل ذلک.

3 - (النهی) و یراد به النهی المولوی من الشارع و إن کان تبعیا، کوجوب المقدمه الغیری التبعی. و النهی معناه المطابقی - کما سبق فی مبحث النواهی م 1 ص 97 - هو الزجر و الردع عما تعلق به. و فسره المتقدمون بطلب الترک و هو تفسیر بلازم معناه، ولکنهم فرضوه کان ذلک هو معناه المطابقی و لذا اعترض بعضهم علی ذلک فقال:

إن طلب الترک محال فلا بد إن یکون المطلوب الکف و هکذا تنازعوا فی إن المطلوب بالنهی الترک أو الکف و لا معنی لنزاعهم هذا الا إذا کانوا قد فرضوا إن معنی النهی هو الطلب فوقعوا فی حیره فی إن المطلوب به أی شیء هو الترک أو الکف. و لو کان المراد من النهی هو طلب الترک - کما ظنوا - لما کان معنی لنزاعهم فی الضد العام، فإن النهی عنه معناه - علی حسب ظنهم - طلب ترک المأمور به. و لما کان نفی النفی إثباتا فیرجع معنی النهی عن الضد العام إلی معنی طلب فعل المأمور به، فیکون قولهم (الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام) تبدیلا للفظ بلفظ آخر بمعناه و یکون عباره أخری عن القول (بأن الأمر بالشیء یقتضی نفسه). و ما اشد سخف مثل هذا البحث. و لعله لأجل هذا التوهم - أی توهم إن النهی معناه طلب الترک - ذهب بعضهم إلی عینیه الأمر بالشیء للنهی عن الضد العام.

ص 265

وبعد بیان هذه الأمور الثلاثه فی تحریر محل النزاع یتضح موضع النزاع و کیفیته. إن النزاع معناه یکون: إنه إذا تعلق أمر بشیء هل إنه لا بد إن یتعلق نهی المولی بضده العام أو الخاص؟ فالنزاع یکون فی ثبوت النهی المولوی عن الضد بعد فرض ثبوت الأمر بالشیء. و بعد فرض ثبوت النهی فهناک نزاع آخر فی کیفیه إثبات ذلک. و علی کل حال فإن مسألتنا - کما قلنا - تنحل إلی مسألتین إحداهما فی الضد العام و الثانیه فی الضد الخاص، فینبغی البحث عنهما فی بابین:

1 - الضد العام

1 - الضد العام

لم یکن اختلافهم فی الضد العام من جهه أصل الاقتضاء و عدمه، فإن الظاهر إنهم متفقون علی الاقتضاء و إنما اختلافهم فی کیفیته: فقیل: إنه علی نحو العینیه أی إن الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام فیدل علیه حینئذ بالدلاله المطابقیه. و قیل: إنه علی نحو الجزئیه فیدل علیه بالدلاله التضمنیه، باعتبار إن الوجوب ینحل إلی طلب الشیء مع المنع من الترک، فیکون المنع من الترک جزءا تحلیلیا فی معنی الوجوب. و قیل: إنه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص، فیدل علیه بالدلاله الإلتزامیه. و قیل: إنه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأعم، أو غیر البین، فیکون اقتضاؤه له عقلیا صرفا. و الحق إنه لا یقتضیه بأی نحو من إنحاء الاقتضاء، أی إنه لیس هناک نهی مولوی عن الترک یقتضیه نفس الأمر بالفعل علی وجه یکون هناک نهی مولوی وراء. نفس الأمر بالفعل. و الدلیل علیه: إن الوجوب - سواء کان مدلولا لصیغه الأمر أو لازما عقلیا لها کما هو الحق - لیس معنی مرکبا بل هو معنی بسیط وجدانی هو لزوم الفعل و لازم کون الشیء واجبا المنع من ترکه. و لکن هذا المنع اللازم للوجوب لیس منعا مولویا و نهیا شرعیا، بل هو منع عقلی تبعی من غیر إن یکون هناک من الشارع منع و نهی وراء نفس

ص 266

الوجوب. و سر ذلک واضح، فإن نفس الأمر بالشیء علی وجه الوجوب کاف فی الزجر عن ترکه، فلا حاجه إلی جعل للنهی عن الترک من الشارع زیاده علی الأمر بذلک الشیء. فإن کان مراد القائلین بالاقتضاء فی المقام إن نفس الأمر بالفعل یکون زاجرا عن ترکه، فهو مسلم، بل لا بد منه لأن هذا هو مقتضی الوجوب. و لکن لیس هذا هو موضع النزاع فی المسأله، بل موضع النزاع هو النهی المولوی زائدا علی الأمر بالفعل. و إن کان مرادهم إن هناک نهیا مولویا عن الترک یقتضیه الأمر بالفعل کما هو موضع النزاع فهو غیر مسلم و لا دلیل علیه، بل هو ممتنع. و بعباره أوضح و أوسع: إن الأمر و النهی متعاکسان، بمعنی إنه إذا تعلق الأمر بشیء فعلی طبع ذلک یکون نقیضه بالتبع ممنوعا منه و إلا لخرج الواجب عن کونه واجبا. و إذا تعلق النهی بشیء فعلی طبع ذلک یکون نقیضه بالتبع مدعوا إلیه و إلا لخرج المحرم عن کونه محرما. . و لکن لیس معنی هذه التبعیه فی الأمر إن یتحقق - فعلا - نهی مولوی عن ترک المأمور به بالإضافه إلی الأمر المولوی بالفعل، کما إنه لیس معنی هذه التبعیه فی النهی إن یتحقق - فعلا - أمر مولوی بترک المنهی عنه بالإضافه إلی النهی المولوی عن الفعل. و السر ما قلناه: إن نفس الأمر بالشیء کاف فی الزجر عن ترکه، کما إن نفس النهی عن الفعل کاف للدعوه إلی ترکه، بلا حاجه إلی جعل جدید من المولی فی المقامین، بل لا یعقل الجعل الجدید کما قلنا فی مقدمه الواجب حذو القذه بالقذه، فراجع. و لأجل هذه التبعیه الواضحه اختلط الأمر علی کثیر من المحررین لهذه المسأله فحسبوا إن هناک نهیا مولویا عن ترک المأمور به وراء الأمر بالشیء اقتضاه الأمر علی نحو العینیه أو التضمن أو الالتزأم أو اللزوم العقلی. کما حسبوا - هناک فی مبحث النهی - إن معنی النهی هو الطلب أما للترک أو الکف و قد تقدمت الإشاره إلی ذلک فی تحریر النزاع. و هذان التوهمان فی النهی و الأمر من واد واحد. و علیه فلیس هناک طلب للترک وراء الردع عن الفعل فی النهی و لا نهی عن الترک وراء طلب الفعل فی الأمر.

ص 267

نعم یجوز للأمر بدلا من الأمر بالشیء إن یعبر عنه بالنهی عن الترک، کان یقول - مثلا - بدلا عن قوله (صل): لا تترک الصلاه. و یجوز له بدلا من النهی عن الشیء إن یعبر عنه بالأمر بالترک، کان یقول - مثلا - بدلا عن قوله (لا تشرب الخمر): اترک شرب الخمر، فیؤدی التعبیر الثانی فی المقامین مؤدی التعبیر الأول المبدل منه، أی إن التعبیر الثانی یحقق الغرض من التعبیر الأول. فإذا کان مقصود القائل بأن الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام هذا المعنی، أی إن أحدهما یصح إن یوضع موضع الآخر و یحل محله فی أداء غرض الأمر. فلا بأس به و هو صحیح و لکن هذا غیر العینیه المقصوده فی المسأله علی الظاهر.

2 - الضد الخاص

2 - الضد الخاص

إن القول باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضده الخاص یبتنی و یتفرع علی القول باقتضائه للنهی عن ضده العام. و لما ثبت - حسبما تقدم - إنه لأنهی مولوی عن الضد العام، فبالطریق الأولی نقول إنه لأنهی مولوی عن الضد الخاص، لما قلنا من ابتنائه و تفرعه علیه. و علی هذا، فالحق إن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده مطلقا سواء کان عاما أو خاصا. أما کیف یبتنی القول بالنهی عن الضد الخاص علی القول بالنهی عن الضد العام و یتفرع علیه، فهذا ما یحتاج إلی شیء من البیان، فنقول: إن القائلین بالنهی عن الضد الخاص لهم مسلکان لا ثالث لهما و کلاهما یبتنیان و یتفرعان علی ذلک:

(الأول) - مسلک التلازم:

وخلاصته: إن حرمه أحد المتلازمین تستدعی و تستلزم حرمه ملازمه الآخر. و المفروض إن فعل الضد الخاص یلازم ترک المأمور به (أی الضد العام)، کالأکل مثلا الملازم فعله لترک الصلاه المأمور بها. و عندهم إن الضد العام محرم منهی - عنه و هو ترک الصلاه فی المثال - فیلزم علی هذا إن یحرم الضد

ص 268

الخاص و هو الأکل فی المثال. فابتنی النهی عن الضد الخاص بمقتضی هذا المسلک علی ثبوت النهی عن الضد العام. أما نحن فلما ذهبنا إلی إنه لا نهی مولوی عن الضد العام، فلا موجب لدینا من جهه الملازمه المدعاه للقول بکون الضد الخاص منهیا عنه بنهی مولوی. لأن ملزومه لیس منهیا عنه حسب التحقیق الذی مر. علی إنا نقول - ثانیا - بعد التنازل عن ذلک و التسلیم بأن الضد العام منهی عنه: إن هذا المسلک لیس صحیحا فی نفسه، یعنی إن کبراه غیر مسلمه و هی (إن حرمه احد المتلازمین تستلزم حرمه ملازمه الآخر) فإنه لا یجب اتفاق المتلازمین فی الحکم لا فی الوجوب و لا الحرمه و لا غیرهما من الأحکام، ما دام إن مناط الحکم غیر موجود فی الملازم الآخر. نعم القدر المسلم فی المتلازمین إنه لا یمکن إن یختلفا فی الوجوب و الحرمه علی وجه یکون أحدهما واجبا و الآخر محرما، لاستحاله امتثالهما حینئذ من المکلف فیستحیل التکلیف من المولی بهما، فأما إن یحرم أحدهما أو یجب الآخر. و یرجع ذلک إلی باب التزاحم الذی سیأتی التعرض له. و بهذا تبطل (شبهه الکعبی) المعروفه التی أخذت قسطا وافرا من أبحاث الأصولیین إذا کان مبناها هذه الملازمه المدعاه، فإنه نسب إلیه القول بنفی المباح بدعوی إن کل ما یظن من الأفعال إنه مباح فهو واجب فی الحقیقه، لأن فعل کل مباح ملازم قهرا لواجب و هو ترک محرم واحد من المحرمات علی الأقل.

پ

وخلاصته: دعوی إن ترک الضد الخاص مقدمه لفعل المأمور به، ففی المثال المتقدم یکون ترک الأکل مقدمه لفعل الصلاه. و مقدمه الواجب واجبه. فیجب ترک الضد الخاص. و إذا وجب ترک الأکل حرم ترکه، أی ترک ترک الأکل، لأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن الضد العام. و إذا حرم ترک ترک الأکل، فإن معناه حرمه فعله، لأن نفی النفی إثبات. فیکون الضد الخاص منهیا عنه. هذا خلاصه مسلک المقدمیه. و قد رأیت کیف ابتنی النهی عن الضد الخاص علی ثبوت النهی عن الضد العام.

ص 269

ونحن إذ قلنا بأنه لأنهی مولوی عن الضد العام فلا یحرم ترک ترک الضد الخاص حرمه مولویه أی لا یحرم فعل الضد الخاص. فثبت المطلوب. علی إن مسلک المقدمیه غیر صحیح من وجهین آخرین: (أحدهما) - إنه بعد التنزل عما تقدم و تسلیم حرمه الضد العام، فإن هذا المسلک کما هو واضح یبتنی علی وجوب مقدمه الواجب و قد سبق إن أثبتنا إنها لیست واجبه بوجوب مولوی و علیه لا یکون ترک الضد الخاص واجبا بالوجوب الغیری المولوی حتی یحرم فعله. (ثانیهما) إنا لا نسلم إن ترک الضد الخاص مقدمه لفعل المأمور به و هذه المقدمیه - أعنی مقدمیه الضد الخاص - لا تزال مثارا للبحث عند المتأخرین حتی أصبحت من المسائل الدقیقه المطوله و نحن فی غنی عن البحث عنها بعد ما تقدم. و لکن لحسم ماده الشبهه لا بأس بذکر خلاصه ما یرفع المغالطه فی دعوی مقدمیه ترک الضد، فنقول: إن المدعی لمقدمیه ترک الضد لضده تبتنی دعواه علی إن عدم الضد من باب عدم المانع بالنسبه إلی الضد الآخر للتمانع بین الضدین، أی لا یمکن اجتماعهما معا و لا شک فی إن عدم المانع من المقدمات، لأنه من متممات العله فإن العله التأمه - کما هو معروف - تتألف من المقتضی و عدم المانع. فیتألف دلیله من مقدمتین:

1 - (الصغری): إن عدم الضد من باب (عدم المانع) لضده، لأن الضدین متمانعان.

2 - (الکبری): إن (عدم المانع) من المقدمات. فینتج من الشکل الأول إن عدم الضد من المقدمات لضده. و هذه الشبهه إنما نشأت من أخذ کلمه (المانع) مطلقه. فتخیلوا إن لها معنی واحدا فی الصغری و الکبری فأنتظم عندهم القیاس الذی ظنوه منتجا، بینما إن الحق إن التمانع له معنیان و معناه فی الصغری غیر معناه فی الکبری، فلم یتکرر الحد الأوسط، فلم یتألف قیاس صحیح. بیان ذلک: إن التمانع تاره یرد منه التمانع فی الوجود و هو امتناع

ص 270

الاجتماع و عدم الملائمه بین الشیئین و هو المقصود من التمانع بین الضدین إذ هما لا یجتمعان فی الوجود و لا یتلاءمان و أخری یراد منه التمانع فی التأثیر و إن لم یکن بینهما تمانع و تناف فی الوجود و هو الذی یکون بین المقتضیین لأثرین متمانعین فی الوجود إذ یکون المحل غیر قابل الا لتأثیر أحد المقتضیین فإن المقتضیین حینئذ یتمانعان فی تأثیرهما فلا یؤثر أحدهما الا بشرط عدم المقتضی الآخر. و هذا هو المقصود من المانع فی الکبری فإن المانع الذی یکون عدمه شرطا لتأثیر المقتضی هو المقتضی الآخر الذی یقتضی ضد أثر الأول. و عدم المانع أما لعدم وجوده أصلا أو لعدم بلوغه مرتبه الغلبه علی الآخر فی التأثیر. و علیه فنحن نسلم إن عدم الضد من باب عدم المانع ولکنه عدم المانع فی الوجود و ما هو من المقدمات عدم المانع فی التأثیر، فلم یتکرر الحد الأوسط. فلا نستنتج من القیاس إن عدم الضد من المقدمات. و اعتقد إن هذا البیان لرفع المغالطه فیه الکفایه للمتنبه و اصطلاح هذا البیان بذکر بعض الشبهات فیه و دفعها یحتاج إلی سعه من القول لا تتحملها الرساله. و لسنا بحاجه إلی نفی المقدمه لإثبات المختار بعد ما قدمناه.

ثمره المسأله

إن ما ذکروه من الثمرات لهذه المسأله مختص بالضد الخاص فقط و أهمها و العمده فیها هی صحه الضد إذا کان عباده علی القول بعدم الاقتضاء و فساده علی القول بالاقتضاء. بیان ذلک: إنه قد یکون هناک واجب (أی واجب کان عباده أو غیر عباده) و ضده عباده و کان الواجب أرجح فی نظر الشارع من ضده العبادی، فإنه لمکان التزاحم بین الأمرین للتضاد بین متعلقیهما و الأول أرجح فی نظر الشارع، لا محاله یکون الأمر الفعلی المنجز هو الأول دون الثانی. و حینئذ، فإن قلنا بأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص، فإن الضد العبادی یکون منهیا عنه فی الفرض و النهی فی العباده یقتضی الفساد فإذا أتی به وقع فاسدا. و إن قلنا بأن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده الخاص، فإن الضد العبادی لا یکون منهیا عنه، فلا مقتضی لفساده. و أرجحیه الواجب علی ضده الخاص العبادی یتصور فی أربعه موارد:

1 - إن یکون الضد العبادی مندوبا و لا شک فی إن الواجب مقدم علی

ص 271

المندوب کاجتماع الفریضه مع النافله، فإنه بناء علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضده لا یصح الاشتغال بالنافله مع حلول وقت الفریضه و لا بد إن تقع النافله فاسده. نعم لا بد إن تستثنی من ذلک نوافل الوقت لورود الأمر بها فی خصوص وقت الفریضه کنافلتی الظهر و العصر. و علی هذا فمن کان علیه قضاء الفوائت لا تصح منه النوافل مطلقا بناء علی النهی عن الضد، بخلاف ما إذا لم نقل بالنهی عن الضد فإن عدم جواز فعل النافله حینئذ یحتاج إلی دلیل خاص.

2 - إن یکون الضد العبادی واجبا ولکنه أقل أهمیه عند الشارع من الأول کما فی مورد اجتماع إنقاذ نفس محترمه من الهلکه مع الصلاه الواجبه.

3 - إن یکون الضد العبادی واجبا أیضا ولکنه موسع الوقت و الأول مضیق و لا شک فی إن المضیق مقدم علی الموسع و إن کان الموسع أکثر أهمیه منه. مثاله اجتماع قضاء الدین الفوری مع الصلاه فی سعه وقتها. و إزاله النجاسه عن المسجد مع الصلاه فی سعه الوقت.

4 - إن یکون الضد العبادی واجبا أیضا ولکنه مخیر و الأول واجب معین و لا شک فی إن المعین مقدم علی المخیر و إن کان المخیر أکثر أهمیه منه لأن المخیر له بدل دون المعین. مثاله اجتماع سفر منذور فی یوم معین مع خصال الکفاره، فلو ترک المکلف السفر و اختار الصوم من خصال الکفاره فإن کان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده کان الصوم منهیا عنه فاسدا. هذه خلاصه بیان ثمره المسأله مع بیان موارد ظهورها و لکن هذا المقدار من البیان لا یکفی فی تحقیقها فإن ترتبها و ظهورها یتوقف علی أمرین. (الأول) - القول بأن النهی فی العباده یقتضی فسادها حتی النهی الغیری التبعی، لأنه إذا قلنا بأن النهی مطلقا لا یقتضی فساد العباده أو خصوص النهی التبعی لا یقتضی الفساد فلا تظهر الثمره أبدا. و هو واضح لأن الضد العبادی حینئذ یکون صحیحا سواء قلنا بالنهی عن الضد أم لم نقل. و الحق إن النهی فی العباده یقتضی فسادها حتی النهی الغیری علی الظاهر. و سیأتی تحقیق ذلک فی موضعهم إن شاء الله تعالی. و استعجالا فی بیان هذا الأمر نشیر إلیه إجمالا فنقول: إن أقصی ما یقال فی عدم اقتضاء النهی التبعی للفساد هو إن النهی لا یکشف عن وجود

ص 272

مفسده فی المنهی عنه و إذا کان الأمر کذلک فالمنهی عنه باق علی ما هو علیه من مصلحه بلا مزاحم لمصلحته، فیمکن التقرب فیه إذا کان عباده بقصد تلک المصلحه المفروضه فیه. و هذا لیس بشیء - و إن صدر من بعض أعاظم مشایخنا - لأن المدار فی القرب و البعد فی العباده لیس علی وجود المصلحه و المفسده فقط، فإنه من الواضح إن المقصود من القرب و البعد من المولی القرب و البعد المعنویان تشبیها بالقرب و البعد المکانیین و ما لم یکن الشیء مرغوبا فیه للمولی فعلا لا یصلح للتقرب به إلیه و مجرد وجود مصلحه فیه لا یوجب مرغوبیته له مع فرض نهیه و تبعیده. و بعباره أخری: لا وجه للتقرب إلی المولی بما أبعدنا عنه و المفروض إن النهی التبعی نهی مولوی و کونه تبعیا لا یخرجه عن کونه زجرا و تنفیرا و تبعیدا عن الفعل و إن کان التبعید لمفسده فی غیره أو لفوات مصلحه الغیر. نعم لو قلنا بأن النهی عن الضد لیس نهیا مولویا بل هو نهی یقتضیه العقل الذی لا یستکشف منه حکم الشرع کما اخترناه فی المسأله فإن هذا النهی العقلی لا یقتضی تبعیدا عن المولی الا إذا کشف عن مفسده مبغوضه للمولی. و هذا شیء آخر لا یقتضیه حکم العقل فی نفسه. (الثانی) - إن صحه العباده و التقرب لا یتوقف علی وجود الأمر الفعلی بها، بل یکفی فی التقرب بها إحراز محبوبیتها الذاتیه للمولی و إن لم یکن هناک أمر فعلی بها لمانع. أما إذا قلنا بأن عبادیه العباده لا تتحقق الا إذا کانت مأمورا بها بأمر فعلی، فلا تظهر هذه الثمره أبدا، لأنه قد تقدم إن الضد العبادی - سواء کان مندوبا أو واجبا اقل أهمیه أو موسعا أو مخیرا - لا یکون مأمورا به فعلا لمکان المزاحمه بین الأمرین و مع عدم الأمر به لا یقع عباده صحیحه و إن قلنا بعدم النهی عن الضد. و الحق هو الأول، أی إن عبادیه العباده لا تتوقف علی تعلق الأمر بها فعلا، بل إذا أحرز إنها محبوبه فی نفسها للمولی مرغوبه لدیه فإنه یصح

ص 273

التقرب بها إلیه و إن لم یأمر بها فعلا لمانع، لأنه - کما اشرنا إلی ذلک فی مقدمه الواجب ص 255 - یکفی فی عبادیه الفعل ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا به إلیه مع ما یمنع من التعبد به من کون فعله تشریعا أو کونه منهیا عنه. و لا تتوقف عبادیته علی قصد امتثال الأمر کما مال إلیه صاحب الجواهر قدس سره. هذا و قد یقال فی المقام - نقلا عن المحقق الثانی تغمده الله برحمته . إن هذه الثمره تظهر حتی مع القول بتوقف العباده علی تعلق الأمر بها و لکن ذلک فی خصوص التزاحم بین الواجبین الموسع و المضیق و نحوهما، دون التزاحم بین الأهم و المهم المضیقین. و السر فی ذلک: إن الأمر فی الموسع إنما یتعلق بصرف وجود الطبیعه علی إن یأتی به المکلف فی أی وقت و شاء من الوقت الوسیع المحدد له، أما الأفراد بما لها من الخصوصیات الوقتیه فلیست مأمورا بها بخصوصها و الأمر بالمضیق إذا لم یقتض النهی عن ضده فالفرد المزاحم له من أفراد ضده الواجب الموسع لا یکون مأمورا به لا محاله من اجل المزاحمه ولکنه لا یخرج بذلک عن کونه فردا من الطبیعه المأمور بها. و هذا کاف فی حصول امتثال الأمر بالطبیعه لأن انطباقها علی هذا الفرد المزاحم قهری فیتحقق به الامتثال قهرا و یکون مجزیا عقلا عن امتثال الطبیعه فی فرد آخر، لأنه لا فرق من جهه انطباق الطبیعه المأمور بها بین فرد و فرد. و بعباره أوضح: إنه لو کان الوجوب فی الواجب الموسع ینحل إلی و جوبات متعدده بتعدد أفراده الطولیه الممکنه فی مده الوقت المحدد علی وجه یکون التخییر بینها شرعیا - فلا محاله لا أمر بالفرد المزاحم للواجب المضیق و لا أمر آخر یصححه فلا تظهر الثمره و لکن الأمر لیس کذلک، فإنه لیس فی الواجب الموسع الا وجوب واحد یتعلق بصرف وجود الطبیعه، غیر إن الطبیعه لما کانت لها أفراد طولیه متعدده یمکن انطباقها علی کل واحد منها فلا محاله یکون المکلف مخیرا عقلا بین الأفراد، أی یکون مخیرا بین إن یأتی بالفعل فی أول الوقت أو ثانیه أو ثالثه و هکذا إلی آخر الوقت و ما یختاره من الفعل فی أی وقت یکون هو الذی ینطبق علیه المأمور به و إن أمتنع

ص 274

إن یتعلق الأمر به بخصوصه لمانع، بشرط إن یکون المانع غیر جهه نفس شمول الأمر المتعلق بالطبیعه له، بل من جهه شیء خارج عنه و هو المزاحمه مع المضیق فی المقام. هذا خلاصه توجیه ما نسب إلی المحقق الثانی فی المقام و لکن شیخنا المحقق النائینی لم یرتضه، لأنه یری إن المانع من تعلق الأمر بالفرد المزاحم یرجع إلی نفس شمول الأمر المتعلق بالطبیعه له، یعنی إنه یری إن الطبیعه المأمور بها بما هی مأمور بها لا تنطبق علی الفرد المزاحم و لا تشمله و انطباق الطبیعه بما هی مأمور بها علی الفرد المزاحم لا ینفع و لا یکفی فی امتثال الأمر بالطبیعه. و السر فی ذلک واضح، فإنا إذ نسلم إن التخییر بین أفراد الطبیعه تخییر عقلی نقول إن التخییر إنما هو بین أفراد الطبیعه المأمور بها، بما هی مأمور بها فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد التی بینها التخییر. أما إن الفرد المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبیعه المأمور بها بما هی مأمور بها فلأن الأمر إنما یتعلق بالطبیعه المقدوره للمکلف بما هی مقدوره، لأن القدره شرط فی المأمور به مأخوذه فی الخطاب، لا إنها شرط عقلی محض و الخطاب فی نفسه عام شامل فی إطلاقه للأفراد المقدوره و غیر المقدوره. بیان ذلک: إن الأمر إنما هو لجعل الداعی فی نفس المکلف و هذا المعنی بنفسه یقتضی کون متعلقه مقدورا لاستحاله جعل الداعی إلی ما هو ممتنع. فیعلم من هذا إن القدره مأخوذه فی متعلق الأمر و یفهم ذلک من نفس الخطاب بمعنی إن الخطاب لما کان یقتضی القدره علی متعلقه، فتکون سعه دائره المتعلق علی قدر سعه دائره القدره علیه لا یزید و لا تنقص، أی تدور سعته و ضیقه مدار سعه القدره و ضیقها. و علی هذا فلا یکون الأمر شاملا لما هو ممتنع من الأفراد إذ یکون المطلوب به الطبیعه بما هی مقدره و الفرد غیر المقدور خارج عن أفرادها بما هی مأمور بها. نعم لو کان اعتبار القدره بملاک قبح تکلیف العاجز فهی شرط عقلی لا یوجب تقیید متعلق. الخطاب لأنه لیس من اقتضاء نفس الخطاب، فیکون

ص 275

متعلق الأمر هی الطبیعه بما هی لا بما هی مقدوره و إن کان بمقتضی الحکم العقل لا بد إن یقید الوجوب بها، فالفرد المزاحم - علی هذا - هو أحد أفراد الطبیعه بما هی التی تعلق بها کذلک. و تشیید ما أفاده أستاذنا و مناقشته یحتاج إلی بحث أوسع لسنا بصدده الآن، راجع عنه تقریرات تلامذته.

الترتب

وإذا أمتد البحث إلی هنا، فهناک مشکله فقهیه تنشأ من الخلاف المتقدم لا بد من التعرض لها بما یلیق بهذه الرساله. و هی إن کثیرا من الناس نجدهم یحرصون - بسبب تهاونهم - علی فعل بعض العبادات المندوبه فی ظرف وجوب شیء هو ضد للمندوب، فیترکون الواجب و یفعلون المندوب، کمن یذهب للزیاره أو یقیم مأتم الحسین (ع) و علیه دین واجب الأداء. کما نجدهم یفعلون بعض الواجبات العبادیه فی حین إن هناک علیهم واجبا أهم فیترکونه، أو واجبا مضیق الوقت مع إن الأول موسع فیقدمون الموسع علی المضیق أو واجبا معینا مع إن الأول مخیر فیقدمون المخیر علی المعین. . و هکذا. و یجمع الکل تقدیم فعل المهم العبادی علی الأهم، فإن المضیق أهم من الموسع و المعین أهم من المخیر، کما إن الواجب أهم من المندوب (ومن الآن سنعبر بالأهم و المهم و نقصد ما هو أعم من ذلک کله). فإذا قلنا بأن صحه العباده لا تتوقف علی وجود أمر فعلی متعلق به و قلنا بأنه لا نهی عن الضد أو النهی عنه لا یقتضی الفساد، فلا إشکال و لا مشکله، لأن فعل المهم العبادی یقع صحیحا حتی مع فعلیه الأمر بالأهم، غایه الأمر یکون المکلف عاصیا بترک الأهم من دون إن یؤثر ذلک علی صحه ما فعله من العباده. و إنما المشکله فیما إذا قلنا بالنهی عن الضد و إن النهی یقتضی الفساد، أو قلنا بتوقف صحه العباده علی الأمر بها کما هو المعروف عن الشیخ صاحب

ص 276

الجواهر قدس سره، فإن أعمالهم هذه کلها باطله و لا یستحقون علیها ثوابا، لأنه أما منهی عنها و النهی یقتضی الفساد و أما لا أمر بها و صحتها تتوقف علی الأمر. فهل هناک طریقه لتصحیح فعل المهم العبادی مع وجود الأمر بالأهم؟ ذهب جماعه إلی تصحیح العباده فی المهم بنحو (الترتب) بین الأمرین: الأمر بالأهم و الأمر بالمهم، مع فرض القول بعدم النهی عن الضد و إن صحه العباده تتوقف علی وجود الأمر (1). و الظاهر إن أول من أسس هذه الفکره و تنبه لها المحقق الثانی وشید أرکانها السید المیرزا الشیرازی کما أحکمها و نقحها شیخنا المحقق النائینی طیب الله مثواهم. و هذه الفکره و تحقیقها من أروع ما انتهی إلیه البحث الأصولی تصویرا و عمقا. و خلاصه فکره (الترتب): إنه لا مانع عقلا من إن یکون الأمر بالمهم فعلیا عند عصیان الأمر بالأهم، فإذا عصی المکلف و ترک الأهم فلا محذور فی إن یفرض الأمر بالمهم حینئذ، إذ لا یلزم منه طلب الجمع بین الضدین، کما سیأتی توضیحه. و إذا لم یکن مانع عقلی من هذا الترتب فإن الدلیل یساعد علی وقوعه و الدلیل هو نفس الدلیلین المتضمنین للأمر بالمهم و الأمر بالأهم و هما کافیان لإثبات وقوع الترتب. و علیه، ففکره الترتب و تصحیحها یتوقف علی شیئین رئیسین فی الباب، أحدهما أمکان الترتب فی نفسه و ثانیهما الدلیل علی وقوعه. أما (الأول) و هو امکانه فی نفسه فبیانه: إن أقصی ما یقال فی إبطال

(هامش)

(1) أما نحن الذین نقول بأن صحه العباده لا تتوقف علی وجود الأمر فعلا و إن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده - ففی غنی عن القول بالترتب لتصحیح العباده فی مقام المزاحمه بین الضدین الأهم و المهم کما تقدم.

ص 277

الترتب و استحالته: هو دعوی لزوم المحال منه و هو فعلیه الأمر بالضدین فی إن واحد، لأن القائل بالترتب یقول بإطلاق الأمر بالأهم و شموله لصورتی (فعل الأهم و ترکه)، ففی حال فعلیه الأمر بالمهم و هو حال ترک الأهم یکون الأمر بالأهم فعلیا علی قوله و الأمر بالضدین فی إن واحد محال. و لکن هذه الدعوی - عند القائل بالترتب - باطله، لأن قوله (الأمر بالضدین فی إن واحد محال) فیه مغالطه ظاهره، فإن قید (فی إن واحد) یوهم إنه راجع إلی الضدین فیکون محالا إذ یستحیل الجمع بین الضدین، بینما هو فی الحقیقه راجع إلی الأمر و لا استحاله فی إن یأمر المولی فی إن واحد بالضدین إذا لم یکن المطلوب الجمع بینهما فی إن واحد، لأن المحال هو الجمع بین الضدین لا الأمر بهما فی إن واحد و إن لم یستلزم الجمع بینهما. أما إن قید فی إن واحد راجع إلی الأمر لا إلی الضدین فواضح، لأن المفروض إن الأمر بالمهم مشروط بترک الأهم فالخطاب الترتبی لیس فقط لا یقتضی الجمع بین الضدین بل یقتضی عکس ذلک، لأنه فی حال انشغال المکلف بامتثال الأمر بالأهم و أطاعته لا أمر فی هذا الحال الا بالأهم و نسبه المهم إلیه حینئذ کنسبه المباحات إلیه و أما فی حال ترک الأهم و الانشغال بالمهم فإن الأمر بالأهم نسلم إنه یکون فعلیا و کذلک الأمر بالمهم و لکن خطاب المهم حسب الفرض مشروط بترک الأهم و خلو الزمان منه، ففی هذا الحال المفروض یکون الأمر بالمهم داعیا للمکلف إلی فعل المهم فی حال ترک الأهم فکیف یکون داعیا إلی الجمع بین الأهم و المهم فی إن واحد. و بعباره أوضح: إن یجاب الجمع لا یمکن إن یتصور الا إذا کان هناک مطلوبان فی عرض واحد، علی وجه لو فرض أمکان الجمع بینهما لکان کل منهما مطلوبان و فی الترتب لو فرض محالا أمکان الجمع بین الضدین فإنه لا یکون المطلوب الا الأهم و لا یقع المهم فی هذا الحال علی صفه المطلوبیه أبدا، لأن طلبه حسب الفرض مشروط بترک الأهم فمع فعله لا یکون مطلوبا. و أما (الثانی) و هو الدلیل علی وقوع الترتب و إن الدلیل هو نفس دلیلی

ص 278

الأمرین، فبیانه: إن المفروض إن لکل من الأهم و المهم - حسب دلیل کل منهما - حکما مستقلا مع قطع النظر عن وقوع المزاحمه بینهما، کما إن المفروض إن دلیل کل منهما مطلق بالقیاس إلی صورتی فعل الآخر و عدمه. فإذا وقع التزاحم بینهما اتفاقا، فبحسب إطلاقهما یقتضیان أیجاب الجمع بینهما و لکن ذلک محال، فلا بد إن ترفع الید عن إطلاق أحدهما و لکن المفروض إن الأهم أولی و أرجح و لا یعقل تقدیم المرجوح علی الراجح و المهم علی الأهم فیتعین رفع الید عن إطلاق دلیل الأمر بالمهم فقط و لا یقتضی ذلک رفع الید عن أصل دلیل المهم، لأنه إنما نرفع الید عنه من جهه تقدیم إطلاق الأهم لمکان المزاحمه بینهما و أرجحیه الأهم و الضروریات إنما تقدر بقدرها. و إذا رفعنا الید عن إطلاق دلیل المهم مع بقاء أصل الدلیل فإن معنی ذلک اشتراط خطاب المهم بترک الأهم. و هذا هو معنی الترتب المقصود. و الحاصل: إن معنی الترتب المقصود هو اشتراط الأمر بالمهم بترک الأهم و هذا الاشتراط حاصل فعلا بمقتضی الدلیلین، مع ضم حکم العقل بعدم أمکان الجمع بین امتثالهما معا و بتقدیم الراجح علی المرجوح الذی لا یرفع الا إطلاق دلیل المهم، فیبقی أصل دلیل الأمر بالأهم علی حاله فی صوره ترک الأهم فیکون الأمر الذی یتضمنه الدلیل مشروطا بترک الأهم. و بعباره أوضح: إن دلیل المهم فی أصله مطلق یشمل صورتین: صوره فعل الأهم و صوره ترکه. و لما رفعنا الید عن شموله لصوره فعل الأهم لمکان المزاحمه و تقدیم الراجح فیبقی شموله لصوره ترک الأهم بلا مزاحم و هذا معنی اشتراطه بترک الأهم. فیکون هذا الاشتراط مدلولا لدلیلی الأمرین معا بضمیمه حکم العقل و لکن هذه الدلاله من نوع دلاله الإشاره (راجع عن معنی دلاله الإشاره المجلد الأول ص 124). هذه خلاصه ذکره (الترتب) علی علاتها و هناک فیها جوانب تحتاج إلی مناقشه و إیضاح ترکناها إلی المطولات و قد وضع لها شیخنا المحقق النائینی خمس مقدمات لسد ثغورها راجع عنها تقریرات تلامذته.